سعد محمد رحيم 1ـ مدخلليس من المنطقي والإنصاف الاكتفاء بحشر كارل ماركس ونظريته ما بين دفتي الكتب الخاصة بتاريخ الفكر الإنساني، والتعامل معه على وفق الطريقة ذاتها التي نتعامل بها مع نصوص أساطين الفكر والفلسفة، أولئك الذين اكتفوا بتفسير العالم، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وحتى يومنا الحاضر، إن ما تركه ماركس هو فكر دائم التحرش بالواقع التاريخي.
فهو أداة نقد، لاسيما للنظام الرأسمالي، لم تستنفد مقوماتها المنهجية ورؤاها بعد، وهو مشروع للتطبيق الكوني ما زال يداعب مخيلة ملايين البشر في أرجاء المعمورة، ويحفِّز على التفكير والعمل من منظور ما نطلق عليه تسمية؛ الماركسية، في سبيل تفسير العالم وتغييره في الآن معاً.rnبعد وفاة ماركس عمل كثر من المفكرين على تخصيب النظرية الماركسية بمعطيات مناهج وأفكار نمت ونضجت في حقول معرفية مختلفة. وبذلك لم يبق الفكر الماركسي جزءاً من تاريخ الفكر فقط، وإنما ظلَّ فاعلاً في المجال المعرفي لاحقاً، ومؤثراً بقوة في الحدث التاريخي، ولابد من أن نتائج التلقيح والتخصيب والتفاعلات ستنتهي إلى غير ما انتهى إليه ماركس بشأن قضايا ومعضلات شتى، بعضها لم يكن معروفا في عهد ماركس، أو لم يكن معروفاً بهذه الحدّة.والآن، بعد هذا الذي حصل كله، ما الذي تبقى من ماركس، والماركسية؟ وماذا عمّا بعد ماركس، وما بعد الماركسية؟ وهل الـ (ما بعد) ضرورة يقتضيها منطق التطور التاريخي؟ هل الـ (ما بعد) شيء محتم؟ وأن يكون هناك تأسيس لـ (ما بعد) لنظرية ما، ألا يثبت، من جهة ثانية، حيوية تلك النظرية، واستمرار قدرتها على التأثير والإلهام؟لنفرّق أولاً، بين مقولتي (ماركس والماركسية).. بين ماركس الرجل المفكر والمناضل السياسي الاشتراكي المولود في عام 1818 والمتوفى في عام 1883، وما أورثه إيانا من أفكار ونظريات ومفاهيم وتعليقات وتعقيبات وهوامش في مؤلفاته ورسائله، فضلاً عن منهج دراساته العلمي الجدلي والذي به أنشأ ما سميت بالمدرسة الماركسية والحركة الماركسية، وبين الماركسية التي هي شيء آخر أوسع وأعقد وأشد التباساً، فالماركسية استندت إلى المبادئ النظرية التي أرساها ماركس والمنهج الذي اختطه، لكنها ضمّت، فضلاً عن أفكار ماركس وفردريك أنجلس، في ما بعد، أفكار أعداد لا تحصى من المفكرين ممن تبنوا أفكار ماركس وأوسعوه شرحاً وتفسيراً وتأويلاً، وبعضهم تقويماً ونقداً وإعادة صياغة، حتى ما عادت هناك ماركسية واحدة، بل ماركسيات متناقضة، وأحياناً متناحرة.ماذا يعني أن تسبق كلمة الـ (ما بعد) اصطلاحاً/ مفهوماً مشاعاً، غنياً وإشكالياً مثل (الماركسية) وتندمج به؟ عمَّ نكون نتحدث إذ ذاك؟ وهل نقصد الشيء عينه حين نجترح اصطلاح/ مفهوم (ما بعد ماركس)؟. هل القول بـ (ما بعد ماركس) يعادل القول بـ (ما بعد الماركسية)؟ أم أننا نشير، ها هنا، إلى مسألتين، أو واقعتين نظريتين مختلفتين؟ هل نقصد، وببساطة، بـ (ما بعد ماركس) الأشخاص المفكرين الذين ألهمهم ماركس، والذين جاءوا بعده، وبـ (ما بعد الماركسية) الحركات والتيارات الفكرية التي ظهرت بعد ظهور الماركسية؟ هل يعادل القول بما بعد الماركسية، بالمقارنة مع الماركسية من حيث صيغة المفهوم ونطاقه وبنيته القول بما بعد الحداثة بالمقارنة مع الحداثة، إذ أن ما بعد الحداثة جاءت لتفند وتسفّه المنطلقات والمبادئ التي قامت عليها الحداثة؟وفي حين، نحن نعلم أن الأفق النظري ونطاق اشتغال ما بعد الماركسية بالقياس إلى الماركسية يختلف تماماً عن الأفق النظري ونطاق اشتغال نظريات ما بعد الحداثة بالقياس إلى الحداثة. فهل أن اصطلاحات الـ (ما بعد) تشير إلى مناهج وحقول دراسات ومقاصد تتباين بحسب السياق المستخدمة فيه؟يقول الدكتور فالح عبد الجبار في مقدمة كتاب (ما بعد الماركسية) الذي أعد فصوله المكتوبة من قبل باحثين متعددين ومنها فصل كتبه هو بعنوان (ماركس والدولة: النظرية الناقصة)؛ "هذا الكتاب محاولة متعددة الاجتهادات، ولعل عنوان الكتاب نفسه يعبّر عن هذا التعدد بما يكتنفه من لبس، فكلمة (ما بعد) قد تُفسّر بمعنى التجاوز أو معنى النسخ أو معنى السؤال.. هل نغالي إذا قلنا إن ثمة حاجة محسوسة إلى كل ذلك؟".يومئ اقتران الـ(ما بعد) بمفهوم معين، أحياناً، إلى إعادة تحديد مساحة اشتغال المفهوم ذاك، ونطاق تأثيره.. يستحيل المفهوم جهازاً جرى تكييفه ليغدو مفتاحاً أو آلة لاستكشاف نظري، أو معياراً للتقويم والاستشراف، ولا شك في أن إتقان كيفية تفعيل عمل المفهوم نظرياً لبناء تصور عن واقع قائم، وفي طور التحوّل، يعد شرطاً محايثاً في الجدل الدائر حول الـ (ما بعد/ الحداثة، الكولونيالية، البنيوية، الماركسية، الخ)، مع تباين ماهية وطبيعة ومجال استخدام وحدود كل مفهوم من هذه المفاهيم. فهل الـ (ما بعد) كناية عن قطيعة معرفية مثل تلك التي تحدث عنها جاستون باشلار، ومن ثم ميشيل فوكو، أم استمرار للأصل بطرق أخرى؛ أي ضرورة للاستمرار؟يضعنا هذا، في البدء، أمام واقع اصطلاحي جديد، مغاير للاصطلاح السابق؛ (الماركسية)، وقبل ذلك للاسم العلم؛ (ماركس)، لنجد أنفسنا، حينئذ، مقودين لمواجهة جملة شائكة من التساؤلات والأفكار.هل يصح أن نطلق على شخص ما تسمية؛ (ما بعد ماركسي) وأن ننعت حركة فكرية، أو سياسية ما، بأنها (ما بعد ماركسية)؟ وعلى وفق أية معايي
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية:
نشر في: 11 فبراير, 2011: 05:36 م