ياسين طه حافظ 2 - 2كان المتأدّب عندنا، إذا أراد الظهور او اعجاب الناس، يفكر ان يصبح شاعراً. فتلك الميزة الخطابية من المنابر، تمنحه "رئاسة" مؤقتة او "تفوّقاً" او تجعله "المتكلم" لا المستمع! نفسياً، في هذا تعويض عن "خضوع" او "دنوّ" او "مأمورية". فهو، على منبر، يقلب المعادلة،
ولو بالالفاظ، ومن ميكرفون.المؤلف يستشهد بيوميات كاسارس الذي يصف فيها جنازة الروائية ماريا لويس ليفنسون، يقول: "إن جسدها كان مسحّى في تابوت له نافذة صغيرة، وبعضهم لاحظ قصاصات من ورق الصحف تغطي وجهها .. "وتفسّر ابنتُها ذلك فتقول: "إنهم وضعوا داخل التابوت بعضاً من الصحف حتى إذا ما فتح احدهم التابوت في المستقبل يعرف من النعي المنشور في هذه الصحف من هو الراقد فيه..." ص18.أظن هذا ليس سببا كافيا، الروح المصرية هنا فرضت نفسها بصيغة معاكسة استوجبتها روح العصر العبثية، عصرنا الذي سادت فيه روح اللاجدوى، لتقول لنا كل ما كتبته الصحف عن الروائية، كما ترون، ذهب معها .. ويمكن ان تكون للقارئ أفكار أُخرى في ذلك، لكن روح الأسى والغياب، لا الخلود، تظل هي الغالبة على المشهد. شعرياً، أنا معنيّ بالصورة، صورة الحدث محمولا يمضي، مغطى بأوراق الصحف ... هذا الكتاب تأليف جديد. هو ليس يوميات اعتيادية ليس مذكرات، ليس رواية وليس سيرة، وليس مجموعة مشاهدات وقراءات. هو جميعها! كلها تتداخل ضمن هيكل "يومياتي" يعتمد على عشرة كتب أساسية (تسع روايات وكتاب يوميات واحد) هنا مثلا يوميات يكتبها قارئ، أو مؤلف آخر، عن رواية اسمها "اكتشاف موريل" لروائي اسمه ادولفو بيوي كاسارس. كتابة عن كتابه خلال ما قاربه، أو ما يذكر به، أو ما يستنبطه، أو بمن جاء بمثل هذه الأفكار.. هي كتابة ثانية عن كتابه! ص21-32.في يومية الخميس ص21 يحلم الراوي في "اكتشاف موريل" بما خور لنساء عمياوات زاره مرة، كما يقول، في كلكتا ... في آخرها يقول: يتملك راوي كاسارس انطباع "بأنه لا يكافح من اجل البقاء حيا وإنما هو يلعب لعبة حسب"! قضيتان، مهمتان في هذا القول، الأولى ماخور لنساء عمياوات وأي عالم وأية تراجيديا أو مفارقة شرسة موجعة. رحم الله "سيّابنا" و مَوْمِسَهُ العمياء.. والثانية هذا الموقف الوجودي: هو لا يكافح من أجل البقاء وإنما هو يلعب لعبةً حسب ... هذه ليست يومية ببضعة سطور. هذه نافذة أرتنا شعراً وأسىً إنسانيا وفلسفة وبشرا لهم متاعب لا يعلم بها أحد. أرتنا أنفسنا! الكتاب ما يزال يطرح اسئلة ويثير كوامن وهو يستمر في "اكتشاف موريل" فتتوالى انهيالات الذاكرة بما اوحت به رواية كاسارس وإحالاتها لروايات آخرين وإشعارهم، أمثال هـ.ج ويلز وشاتوبريان وفرنان دويل وغوته وشيللر ولقطات وانتباهات شخصية مما نجده عادة في كتب الرحلات ومشاهدات تلفزيونية وأحداث سياسية مما يطفح به العصر.لكن الكتاب ليس مجمع طرائف أو مؤسفات أو عروض كتب. هو أصلاً كتاب تأملات في القراءات وفي المشاهدات والأحداث. الكاتب روائي مثقف، هو مفكر يشير إلى هذه المسألة وتلك مما في الأوساط الثقافية وفي الحياة. ومما أنتبه له، وهو يتابع سلوكنا. وما يفكر به أولئك العتاة الذين يمارسون التعذيب! جاء على هذه المسألة وهو يتحدث عن هـ.ج ويلز ويستعرض رواياته: الرجل الخفي، آلة الزمن، الناس الأوائل على القمر، ثم "جزيرة دكتور مورو. فيتوقف عند وصف ويلز لصراخ حيوان من ألم مبرح، فيصفه بأنه "التعبير المتقن عن الألم" ص42 ويربط المؤلف البرتو مانغويل، وبترجمة عباس المفرجي، ذلك بما يحصل في الارجنتين في فترة الحكم العسكري، ثم يقول بأنه استطاع سريعا أن يعتاد على "التعبير عن الألم" ويكمل المقتبس بأن صوت الضحية يغدو منفصلا عن الضحية، الشخص نفسه يصبح، كما هو في الحقيقة، شيئا غير مادي، لهذا فهو لا يثير في الجلاد أي نوع من مشاعر الشفقة ولا يعطيه دافعا لوقف التعذيب..." وكونه مثقفا يرى هذه الكوابيس، "يستعين بقول شاتوبريان" نحن نعيش فقط بواسطة الإبداع.." ص70وحين يتحدث عن رواية "كيم" لـكيبلنج، هو لا يفيدنا بجديد حسب، ولكنه يوقظ فينا انتباهنا وذائقتنا الجمالية بالتقاطاته مما يقرأ ففي وصفه لمتسولين صموتين في الهند، يقول: "هؤلاء الذين يتسولون بصمت، يموتون جوعا بصمت أيضاً." وقوله : "أنت جميل مثلك مثل ثور شيفا المقدس" ووصفه لتلك العجوز الهندية: امرأة تهوى الطعام الجيد والنميمة والتشويق الذي تمنحه الوجوه الجديدة وضحكاتها خافته مثل ببغاء مسرورة فوق كتلة من السكر "ص50: وقوله البريطانيون في الهند لم يكونوا هناك كما كان يُفترض بهم ان يكونوا" .. هذه اللقطات، كل قارئ يأخذ منها حاجته. وذكاء المؤلف في التقاطها، أو التنبيه لها، ذكاء مثقف فطين متمرس. وبعقل رجل الأدب المُلِمّ، يقدم هذا الإيجاز: "الرحلة الأدبية هي عادة أما مناجاة أو حوار، إما تعقّب درب مسافر (يولسيس، بيلغرام، كانديد، اليهودي التائه) أو هي رفقه بين شخصين (الأخ والأخت في الطائر الأزرق كيم وراهبه اللاما في رواية كيبلنج "ك
يوميات القراءة.. وفن تطوير الهامش
نشر في: 13 فبراير, 2011: 05:27 م