فريدة النقاشخلقت الثورات كافة لنفسها قاموسا جديدا في الحياة الفكرية لبلدانها وللعالم أجمع، ولم يكن مثل هذا القاموس مجرد وليد للشعارات والأحلام الكبرى للثوار، وإنما كان أيضاً ابنا لعلاقات اجتماعية واقعية جديدة، علاقات كانت تتبلور وتنضج في رحم المجتمع على مدى الزمن لتكون الثورة قابلتها التي تدفع بها إلى الحياة لتترعرع وتكبر في حماية الثوار كطليقة، وحماية القوى الشعبية التي تلتف حول الثورة التي تعبر عن مطامحها ومصالحها وأشواقها.
كان هذا هو حال الثورات البورجوازية الديمقراطية التي أطاحت بالإقطاع، وكان هو أيضاً حال الثورة الاشتراكية التي أطاحت بالرأسمالية ثم عادت وانتكست.مع الثورة الفرنسية ولدت شعارات الحرية والإخاء والمساواة، وحملت هذه الشعارات المضامين الطبقية إذ انقسم المجتمع بين العمل ورأس المال، وهكذا بقي مفهوم الحرية حكرا على حرية رأس المال وبقيت حرية العامل في أن يموت جوعا أيضا مكفولة ولاح العوار الهيكلي في مفهوم المساواة القانونية دون المساواة الواقعية.وحين انطلقت كوميونة باريس بعد ما يقارب القرن من الثورة الفرنسية تقدم الكادحون خطوات كبرى إلى الأمام على طريق تأمين بعض الحقوق وإنشاء النقابات المستقلة والأحزاب التي تعبر عنهم رغم هزيمة الكوميونة وانتصار الرجعية.. وولدت مع المرحلة الجديدة شعارات جديدة وأفكار جديدة هي بدورها بنت الواقع المتغير، وأصبح شعار المساواة موضوعا للجدل مع كل من الإخاء والحرية.. باعتبار المساواة مفهوما مركزيا دفعت به الكوميونة بعيدا عن الشكلية ومجرد الحقوق المتساوية أمام القانون ليكتسب معنى إلغاء الطبقات ويتجذر في أرض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولينمو هذا المعنى على الصعيد العالمي. وتأتي ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا مستلهمة كوميونة باريس وتراثها المجيد لتكون المساواة الحقة هي أحد أسسها المركزية، ويطور المنظرون والمناضلون الكبار هذا الأساس ليكتسب طابعا عالميا مع انفجار الثورات فيقول «لينين» «إن ماركس لم يقاوم شيئا طوال حياته أكثر من مقاومته للأوهام الديمقراطية البورجوازية الصغيرة، والمغالاة في النزعة الديمقراطية البورجوازية، كما أنه لم يسخر من شيء أكثر من سخريته من الجمل الفارغة حول الحرية والمساواة، فيما يحجب هذه الجمل حرية العمال في أن يموتوا جوعا، أو المساواة بين الإنسان الذي يبيع قوة عمله، والبورجوازي الذي يشتري بحرية وبكل مساواة قوة العمل هذه في السوق الحرة المزعومة».وفي هذه السوق الحرة يصبح العامل الأجير هو العبد الحديث، كما وصفته الأدبيات الاشتراكية بعد ذلك.لن يكون بوسعنا ونحن نتابع عملية إنتاج الأفكار الجديدة في أحضان الثورات أن نتجاوز ثورات التحرر الوطني من مصر إلى الهند ومن الجزائر إلى فيتنام وفي أمريكا اللاتينية كلها إلى ثورة الصين التي بدأت تحررية ديمقراطية ثم تطورت للاشتراكية حاملة الرسائل إلى المستقبل، كاشفة عن الطابع العالمي لإبداع آسيا، ومقدمة إسهامها المرموق في توليد قيم جديدة وأفكار خلاقة تغذي الفكر الثوري بخاصة في البلدان الفقيرة كثيفة السكان.وكان هذا التراث كله يشكل عملية إطاحة منظمة بأفكار المركزية الأوروبية والمركزية الأوروبية الأمريكية بعد ذلك ويضعها موضع تساؤل بكل ما ارتبط بها من منظومة استعمارية واستعمارية جديدة استعلت على شعوب العالم متواكبة مع أشكال النهب والاستغلال التي وقعت عليها إلا أنها نفضت عن نفسها هذا الإرث الاستعماري البغيض خالقة منظومة متكاملة من الأفكار الثورية الجديدة، وأسستها جميعا على الواقع الجديد الذي خلقته.وتدفع ثورة الشباب في مصر بأفكار ثورية جديدة إلى مقدمة المشهد تزاوج بين اتجاهات ثورة يوليو الاجتماعية والوطنية التحررية وبين المطلب الديمقراطي الأصيل الذي كافح الشعب المصري من أجله على امتداد قرنين من الزمان، وها هو القرن الثالث يأتي ليصبح الوعد حقيقة تمشي علي الأرض يرعاها هؤلاء الشباب المتعلمون تعليما حديثا وهو التعليم الذي لم يعزلهم عن طموحات الكادحين وأحلامهم بالعمل والحرية والكرامة الإنسانية والمساواة الحقة لا الشكلية، وإذا كانت المساواة الحقة مطلبا الآن فإنها ستكون بالقطع العمود الفقري للثورة القادمة فهكذا علمنا التاريخ.
حديقة الأفكار
نشر في: 15 فبراير, 2011: 05:00 م