عواد ناصرمثلما وعدت (المدى) بأنني سأواصل الكتابة اليومية لها حتى سقوط مبارك.. وها أن مبارك سقط وسأتوقف عن الكتابة حول هذه القضية، وهذا آخر ما أكتب.تابعت تظاهرات الشبيبة المصرية، وقبلها التونسية، على الفضائيات العربية والأجنبية، بالحماس والشوق، نفسيهما، اللذين تابعت فيهما سقوط صدام حسين، مع الفارق الحزين وهو أن الدبابات الأمريكية أسقطت صدام وليس شباب العراق.
هذه مفارقة قاسية علينا تأملها لبحث أسباب التغيير في العالم العربي وكشف أزمة العمل السياسي المعارض ارتباطاً بثنائية الديمقراطية والاستبداد.بينما يدور مصطلح الحداثة غريباً، كوميدياً، بل كئيباً، في اللغة العربية وآدابها المعاصرة، بفرح نقدي يدعو للسخرية، كانت "الحداثة" تدور في أورقة السلطات الحاكمة على شكل أدوات تعذيب.الناطق باسم الجيش المصري أعلن بسطور معدودات سقوط الرئيس وأن الجيش ليس بديلاً عن الشرعية، وأدى التحية، في لحظة مؤثرة، لشهداء ثورة مصر.الجيش المصري لم يكن جيشاً مهنياً وهو يواجه المتظاهرين، إنه نزل إلى الشارع بأوامر علنية وصريحة، وكان معبراً حقيقياً عن صورة السلطة الحاكمة في مصر، فهو جيش منتظر ومتردد وحائر، أسهم المتظاهرون في تحييده وكسب جانبه، وعدم الاحتكاك به، لأن تاريخ العلاقة بين الناس والسلطة هو تاريخ المواجهة بين الشرطة والأمن وليس بينهم وبين الجيش النائم في ثكناته منذ عشرات السنين.القلق لم يزل قائماً، على ضوء تاريخ المؤسسة العسكرية العربية، لأن وعود العسكر هي أحد الأسباب الأساسية في تدهور حالنا وبلوغها نقطة الصفر.العسكر، مؤسسة مهنية، لا دور سياسي لها، في الدولة المدنية، ورجالها (في الملمات) للدفاع عن الوطن لا أكثر، وزجها في الحياة السياسية قضية ارتبطت بالانقلاب العسكري، سيئ الصيت، وما ثورات العرب إلا تدخل سافر في الحياة المدنية لبلداننا، عبر الانقلاب العسكري. مصر، اليوم، على أبواب مرحلة صعبة، فمطالب المصريين، بعد أكثر من ثلاثين سنة من القمع والفساد، تكللت بالنصر ولكنني خائف على نصر طرد الحاكم ولم يرسم طريق المحكومين.كلما اتسعت مساحة العسكري ضاقت مساحة المدني... والقلق لم يزل قائماً من فلول الانتهازيين الذين تدربوا على التقاط الفرصة العابرة، المشوشة، المختلطة والملتبسة، للبروز وسرقة مواقع وأدوار غيرهم من يستحقون موقع الواجهة والقيادة، ولم يزل القلق قائماً، من هتافي الحقب الفاشلة الذين وجدوا في لحظة الحرية المصرية انتقاماً آيديولوجياً من آيديولوجيا فاشلة، من دون أن يدركوا أن آيديولوجيتين متناقضتين هما تنبعان من جذر واحد: عصبوية الفكرة.من المخجل أن نعجز، نحن الحالمين بالحرية، من المحيط إلى الخليج، عن تنظيم شؤون حياتنا بما يكفل حتى المستلزمات الأساسية في التعليم والصحة والأمن، ويقال لنا: اكتفوا بأحلامكم، أيها الشعراء، لأن الواقع هو ملك السياسيين.نعم، الواقع ملك السياسي المستبد، الحاكم الذي يعيش في بحبوحة تقارير كاذبة ومعلومات مزورة وديباجات مديح مزيفة من مستشاريه وضباط حمايته ووعاظه ممن يسمون بـ (المثقفين).. والمثقفون، في أي بلد، مشارب ومواقف ومصالح وتناقضات، فهم فئة تتشكل من مجموعة رؤى ومصالح وأهداف، وليسوا طبقة تتوحد في المعاناة والقهر والأحلام.الدولة المدنية صناعة ثقافية، أي أن شغيلة الفكر والعقل، في الاقتصاد والاجتماع والعلم والفن هم من يصنعون هذه الدولة، لكن هذه الشريحة لن تجد طريقها إلى العمل المثمر بمعزل عن مناخ من الحرية وكفالتها دستورياً، ولهذا السبب نجد أن بلداننا على غاية التخلف والفساد لأن الحرية شعار إعلامي، مزيف، ترفعه الدولة العربية في إعلامها الخائب، بما يعني "حرية السلطة" لا حرية الناس.لا ينكر أحد أن ثمة هامشاً ما، محدوداً جداً، في دولة عربية مثل مصر، وهذا منتج تراكمي ترسخ عبر سنوات من تاريخ الفكر المصري، أدباً وعلماً وفناً، رغم بؤس حرية التعبير، عبر تاريخ مصر الحديث.. إذ يمكن إحالة الإشكال الفكري/ السياسي، بهذه الطريقة أو تلك إلى تراث من المواجهات الفكرية قادها مفكرون كبار في مصر بدءاً من علي عبد الرازق وطه حسين وسلامة موسى مرورا بسيد القمني ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، مما يمكّن المثقف الراهن من العودة إلى مراجع مرموقة تسعفه في جدل الفكر والسياسة والانتصار إلى متطلبات الراهن المتوتر.جابر عصفور، ومن يشبهه، يمثل صورة المثقف المتورط في سلطة استبدادية ليقود ثقافتها، حيث أدرك بعد عشرة أيّام، أن الارتباط بنظام سياسي في طريقه إلى السقوط مسألة خاسرة لا تعود عليه إلا بمزيد من الاستنكار، وبـ "ذكاء" المثقف الحكومي، الأكاديمي، الإعلامي، التقط حسابات الربح والخسارة فآثر أن يتراجع عن قبوله بالمنصب، ولو بعد حين قصير.. فلا يجوز أن يستوزر شخصاً ما من دون أن يؤخذ رأيه، وعليه، أفترض أن عصفور قبل الوزارة في وقت حرج، غامض، غير واضح المعالم، وقد تصور أن الحكومة التي هو وزير فيها قد تتجاوز الأزمة الحرجة، لكنه يئس قبل رئيسه، وأنه أقل عناداً منه، ليعلن استقالته، فيسقط بسقوط رئيسه، ليعلن سقوط مثقف.ثلاثة آلاف مثقف وموظف في مؤسسة "الأهرام" وحدها، كان الكثيرون منهم، لا كلهم، ماكنة لصناعة الكذب.المثقف ليس كياناً حصيناً، إنه أكثر مكونات المجتمع هشاشة وقابلية للتدجين إلا من
مؤشرات ما بعد مبارك.. سقوط مثقف السلطة
نشر في: 18 فبراير, 2011: 05:09 م