ترجمة: نجاح الجبيلي ربما تحتسي الآن قدحاً من الشاي الحلو في الفردوس. تجلس على شرفة تحيطها حلقة صغيرة من أقرانها. يسأل أحدهم كيف تشعرين وقد غادرت المسيسبي لآخر مرة؟ تبتسم وتقول بصوتها الرقيق الخفيض": حسن، الآن يمكنهم أن يكفوا عن تسميتي بأعظم كاتبة جنوبية حية).امتلكت (يودورا ويلتي) (1909-2001) صوتاً موسيقياً وسلوكاً مثالياً وومضة حادة في عينيها وحساً طاغياً بالفكاهة، وخلافاً لأغلب السيدات الجنوبيات التقليديات في جيلها فإنها قضت حياتها محاولة أن تكشف الحقيقة الفريدة لزمانها ومكانها عن طريق كتابة القصص.
لم يكن شيئاً مألوفاً لفتاة مهذبة من "المسيسبي" أن تعلم نفسها الكتابة. كانت تجيد الكتابة من البداية ولم تفاجأ حين احتضنت مجلة "نيويوركر" محاولاتها المبكرة. قالت بعد مضي وقت طويل:" الآن حين أتذكر ذلك ببساطة يصيبني الذهول، لأني كنت محظوظة جداً. لم يصبني الفزع لأن معرفتي كانت قليلة". بالطبع كانت محظوظة جداً و موهوبة عرفت كيف توفر أفضل مادتها لآلة الطباعة. كان الجيران في شارع "باينهرست" في مدينة "جاكسون" يصغون إلى طقطقة الماكنة القديمة على مدار الساعة. وقد حازت قصصها ورواياتها ومذكراتها الجوائز الأدبية كلها عدا جائزة نوبل التي كانت لسوء الحظ بعيدة عن متناولها أخيراً.حينما ماتت الآنسة (ويلتي) أواخر تموز 2001 وهي في الثانية والتسعين من عمرها كانت قد ارتدت وشاح أعظم كاتبة جنوبية حية مدة أربعين سنة تقريباً منذ موت وليم فوكنر. وفي أواخر حياتها شهدت آلاف الأحداث إلى أن حلّ تكريمها كونها الملكة الجليلة للأدب الأميركي، فهي دائماً مهذبة ومبتسمة ودقيقة في مواعيدها، خجولة لكنها ممتنة للترحيب وتتلهف إلى لقاء أصدقاء جدد. لن أنسى أبداً ليلة في مدينة "جاكسون" عام 1984 في إحدى تلك الحفلات الأدبية وهي دائماً في وسط الجمهور على الرغم من أنها تقف جانباً قرب الباب تحيي معجبيها بابتسامة رقيقة وتوقع لهم وتداعب أيديهم كالأم. وفي الوقت المناسب تسير نحو المنصة. تفتح كتاباً وتشرع بالقراءة في قصة "الرجل المشدوه". وفي لحظة خاطفة تختفي هالة تلك الكاتبة العظيمة كلها وتتركنا مع الحقيقة الواضحة من أن "يودورا ويلتي" هي كاتبة هزلية جداً. وهزلها من النوع الماكر الخطير. تقرأ بسرعة متزايدة ليظل الضحك عالياً ( "حبيبي السيد فليتشر خذ حافظة نقودي واعطني سيجارة بلا مسحوق إن استطعت" قالت ليوتا لزبونها الذي يشتري طقم شامبو في الساعة العاشرة "لا أرغب بالسجاير المعطرة"). وبتلك الكلمات القليلة تستدعي عالماً كاملاً تجتمع فيه حواس الشم والبصر والصوت. إنها تخلق ساردها وتدعمه بسرعة وتطلق عجلات الدوران السردي وتكتسب الضحكة لتكشف الحزن الكامن فيها. بعد قراءتها الذكية ولكوني كاتباً شاباً منفعلاً رحت أتساءل عما أقول وهي تربت على يدي. مسؤولة العلاقات بأناقتها تحوم قريباً منها منتظرة إجراء مقابلة معها. لقد أرسلني مديري لأطلب من الآنسة "ويلتي" أن تتكرم علينا ببعض القصاصات من كتاباتها لنشرها في مجلتنا اللامعة المتخصصة بالأناقة العصرية. وكنت أرجوها من أجل الحصول على أي شيء – رسالة، قائمة البقالة. رفضت طلبي قائلة:" كلا، شكراً جزيلاً". أتذكر إن رفضها لطيف وعذب كأنه قبلة على الخد. أخبرها بأننا قد تقابلنا من قبل،حين كنت فتى في الثانوية، في غرفة كبيرة في قاعة "الأولد كابيتول" في مدينة جاكسون ومنحنتني "علامة تكريم" في مسابقة للقصة القصيرة. عدت إلى البيت من ذلك الاحتفال وقرأت قصتها "طريق قديم" وقررت كتابة القصص. والآن ها أنذا أقف مع الآنسة "ويلتي" وروايتي الأولى على وشك الظهور. وهي لا تكف عن مداعبة يدي كأنها تقدم لي العزاء أو لكي تحذرني من التمادي في الأمل. هذه الليلة تلبس ثوباً رائعاً يصل إلى الكاحل مغطى بقطع صغيرة جداً من الزجاج اللامع مدروز بالنسيج في مدينة "برمنغهام". قدمت إطرائي لها فتقول محدقة بقطع المرايا كلها "هل أعجبتك؟ أريد من الناس أن يروا أنفسهم حين ينظرون إليّ".بعد سنة كنت أجلس معها في مأدبة أدبية صغيرة في مدينة "برمنغهام". أتذكر ما قالته بشأن ذلك الثوب المطعّم بالمرايا. ووددت أن أقول لها بأني قد رأيت انعكاسات ذاتي في مؤلفاتها. لقد تعلمت من قراءة قصصها أن القصص يمكن أن تكون وسيلة ممتازة للحصول على الحقيقة. أحاول لكن الكلمات تلكأت في حنجرتي. رفعت شوكتها إلى فطيرة بالجبنة والتوت وهي منهمكة بمراقبة الضجة حولنا لكن ما زال لديها الوقت لتجيب على أسئلتي بوصفي كاتباً مبتدئاً. وفي اللحظة التي سارت بها الأمور على ما يرام طارت كمية من التوت من طرف شوكتها واستقرت مباشرة على بنطلوني الأبيض الجديد الذي اشتريته للمناسبة. وأصبت بالانهيار ولم ينفع المسح بالمنديل والماء بل وسّع البقعة. أخذت الآنسة "ويلتي" يدي وراحت تداعبها مراراً وابتسامتها ماكرة مليئة بالمزاح. قالت:" قل لهم أن "يدورا" فعلت ذلك بي". يودورا ويلتي: كاتبة قصة قصيرة وروائية تعد من أهم كاتبات القصة القصيرة في الأدب الأميركي ولدت في مدينة جاكسون بولاية المسيسبي عام 1909 وتوفيت عام 20
في الذكرى العاشرة لرحيلها..ذكريات عن يودورا ويلتي
نشر في: 1 مارس, 2011: 05:54 م