في عودة أخرى الى بناء المدينة واهمية التخطيط الحضري في قبال التصميم المعماري وكيفية التعامل مع النظريات السائدة والنظريات المهيمنة بالاضافة الى النظريات المندثرة، فان تاريخ التخطيط الحضري والمدني تضمن بالاساس نوعين من النظريات، الاول كان نتاجا ً للتوسع الحضري العفوي للتجمعات الحضرية التي تنشأ لسبب رئيسي ما، ثم تتضافر أسباب أخرى لاستكمال تطورها وهذا هو حال الجزء الاكبر من المدن في تاريخ البشرية. تنشأ المدينة لسبب ما، ديني، او اقتصادي، او سياسي، وما الى ذلك، ثم تتداخل معها الاسباب الاخرى، وبشكل مواز ٍ تماما ً لتطور المدينة تبرز الى العيان نواحي التوسع الايجابية والسلبية والتي تدفع ساكني المدينة عموما ً والمعنيين بشكل أخص الى دراسة ذلك لوضع مفهوم (مفاهيم) محددة لادراك هذا التوسع، وقد يتطور هذا الادراك ليتخذ شكل نظرية تخطيط قابلة للتطبيق ويمكن التعامل معها كمعادلة لحساب عوامل هذا التوسع الحضري. هناك الكثير من الامثلة على هذا النوع من التوسع كنشوء مكة المكرمة والنجف الاشرف وبعض مدن المغرب مثل فاس ومدينة دمشق والعديد من مدن الغرب ايضا ً كباريس وروما والبندقية وغيرها. يعد ابن خلدون (1332-1406) في مقدمته من اوائل الباحثين الذين تنبهوا الى مسألة استخلاص هذه المفاهيم التخطيطية المشتركة للتجمعات الحضرية.
أما الشطر الثاني فيشمل النظريات التي توضع قبل نشوء التجمعات الحضرية هذه ومن قبل أناس مختصين وأعتمادا ً على المفاهيم التي استخلصها الدارسون من التجمعات الحضرية في الشطر الاول لوضع نظرية (نظريات) قادرة على التحكم في حركة التوسع الحضري ( Urban Expansion ) وسرعته واتجاهاته واحتمالاته المستقبلية بالاضافة الى توقع النتائج التي تترتب عليه، الايجابية منها والسلبية لمحاولة تفاديها قبل وقوعها أو على الاقل التحضير لها في حالة عدم التمكن من تجنبها. وهناك أمثلة كثيرة على هذه التجمعات الحضرية والتي تمت محاولة توجيهها مسبقا ً أعتمادا ً على فكرة أو أفكار مسبقة، كنشوء مدينة بغداد والكوفة وواسط وحتى مدن ما قبل التاريخ مثل بابل والاقصر، وكثير من مدن الغرب مثل واشنطن ولندن (بعد حريق 1666) وغيرها. وبالرغم من قدم هذا الاتجاه التخطيطي فان التخطيط الحضري ( Urban Planning ) كعلم يعتبر جديدا ً نوعا ً ما، والبعض يعتبر المخطط النمساوي كاميلو سيته ( Camillo Sitte 1843-1903) اول من وضع اسس هذا الاتجاه.
في الواقع العملي لا توجد هناك نماذج مثلى للشطر الاول، أو نماذج مثلى للشطر الثاني، وانما المدينة هي على الدوام مزيجا ً من الشطرين ولكن مع هيمنة لاحدهما واحيانا ً بشكل واضح لايقبل الجدل. والمقصود هنا ان لكل مدينة طابعها الخاص وشخصيتها والمفهوم العام الذي نشأت عليه ومحاولة الحفاظ عليه يمنح المدينة توازنا ً في توسعها الحضري، كما يقدم للسياسة التخطيطية المشرفة على التوسع العوامل والثوابت التي يمكن التعامل معها من دون الوقوع في كوارث عمرانية قد تكلف المدينة الكثير مما يهلك خزينها الحضاري والاقتصادي معا ً، وقد يدمر موروثها الحضاري التاريخي بشكل لا يمكن تعويضه ابدا ً.
مامن شك ان للمدن العريقة طابعها الخاص الذي تعتز به هي ويعتز به ساكنوها، فغالبا ما يمكن التمييز بوضوح بين طابع القاهرة أو طابع دمشق أو بغداد أو النجف أو الموصل أو البصرة. ان المحاولات التي يدفع بها التخطيط غير المدرك لطابع كل مدينة يؤدي الى نشوء قطاعات او بقع حضرية ( Urban Spots ) داخل نسيج المدينة المتجانس يربك تجانسها هذا ويفقدها وحدة المفهوم فيها ناشرا ً فوضى حضرية ومعمارية ستكلف مدننا ما لا تطيقه مما يجعلها أشبه بالثقوب السوداء التي تطفئ تاريخ المدينة وتمتص اقتصادها.
ان السماح لبعض القطاعات الحضرية ( City Sectors ) والاستخدامات ( Land use )غير المناسبة في اجزاء من المدينة لم يكن من المفروض السماح بها ادى الى تحطيم بنية المركز الحضري في بغداد مما احال بعض اجزائها والتي كان يلذ السكن بل وحتى المرور فيها الى قطاعات منفرة وطاردة لمستخدميها كمثل ما حدث في البتاوين والحيدرية والشواكة. كما ان سرطان الفنادق السياحية في المدينة القديمة في النجف احال احياءها الاربعة داخل السور (الحويش والعمارة والبراق والمشراق) والتي كان قربها من الضريح وغناها بالخزين الحضاري المتراكم يمنحها جاذبية لاتقارن، احالها الى قطاعات مفككة متهرئة تعج بالفوضى وعدم التوازن فاقدة لخصوصياتها وضعيفة الارتباط فيما بينها ومع المركز الحضري الاهم في المدينة. هناك اشارات الى ان الدراسات الاخيرة التي انجزت وتنجز حاليا ً حول المدينة القديمة في النجف لم تراع هذه المسائل وقد تفضي الى قرارات خاطئة لن تحمد عقباها.
هناك امر آخر تجدر الاشارة اليه وهو بناء قطاعات من المدينة مع تخطيط مسبق، اي مع نظرية مسبقة للتوسع، مع اهمال الطابع العام للمدينة مما يؤدي الى ما يشبه مدن صغيرة داخل المدينة الام والذي يؤدي بدوره الى تجزئة المدينة الى عدد من القطاعات غير المتفاعلة فيما بينها مما يعمق فكرة العزلة والانفصال ( Segregation ) والتي تسعى مدن العالم حاليا ً جاهدة ً الى تفاديها والتخلص منها والتي تؤدي الى تركيز فكرة الطبقية ( Social Stratification ) في المجتمع وحتى احيانا الى نشوء صراعات وخلق مجتمعات مصغرة متنافرة.
لقد حاولت نظرية المدن الاقمارية ( Satellites Cities ) والتي طبقت بشكل عملي في النصف الثاني من القرن العشرين لبناء مدن صغيرة حول المدينة الام ترتبط معها بعوامل عدة، ولكن لكل مدينة طابعها الخاص، وان توفر على الاقل الوظائف الثلاث الاساسية لكل مدينة (السكن، العمل، والمركز الحضري)، حاولت تخفيف الضغط حول مراكز المدن الكبرى، ولكن الدراسات التي تبعت التطبيق اشارت الى سلبيات كثيرة منها تعميق هذه العزلة الاجتماعية.
ان اهمال الطابع العام للمدينة والتعامل معها كاجزاء منفصلة عن بعض أو غض النظر وعدم المبالاة بالاواصر التي تربط اجزاء المدينة حضاريا ً وثقافيا ً واقتصاديا ً بالاضافة الى الترابط العمراني يؤدي الى نتائج تهلك المجتمع وتفسد امكاناته، فالمدينة مرآة لمجتمعها، والمدينة المفككة تلد و تربي مجتمعا ً مفككا ً، والمجتمع المفكك لايمكن ان يبني مدينة مترابطة.
*مهندس معماري – السويد
بناء المدينة في العراق .. الطابع العام للمدينة
نشر في: 19 أكتوبر, 2012: 05:09 م