إصلاح الدولة العراقية..فساد الوزير والمدير من فساد المفتش| (5) |

آراء وأفكار 2017/08/27 12:01:00 ص

إصلاح الدولة العراقية..فساد الوزير والمدير من فساد المفتش|  (5)  |

ذات يوم جادت الصُدَف أنْ ألتقي بأحد المسؤولين ودار حديث بيننا عن ملفات فساد المسؤول الذي سبقه بعد ان أقيل من منصبه، فقال لي: "لو تعرف حجم الفضائح التي فعلها فلان لتعجبت، لكنني سترتها عليه حتى لا يقول الناس عني بأني جئت لأشَهّر واتشفّى بسمعة الآخرين"، فقلت له: "لكن التستر على الجُرم جريمة، ولا مجاملة في الحقوق، وانت مسؤول دولة!"، إلا انه تهرّب من الردّ دفعاً للاحراج. بعدها جاءني شخص أعرف مني بشؤون هذا المسؤول الذي لم يُجبني، وقال لي: "انما لم يُلاحق سَلَفَه لأن حزب المسؤول السابق هدّده بفضح ملفات فساده إذا فضح صاحبهم.. هكذا حُكِمَ العراق "الجديد".
منذ عام ٢٠٠٣ وحتى عام ٢٠١٧ تسبب الفساد السياسي والمالي والاداري بسوء صرف أكثر من ترليون دولار أميركي، منها مدخولات جناها العراق قرابة ٨٠٠ مليار دولار، جُلها من واردات النفط التي تشكّل بحدود ٩٥٪ من دخل الدولة وقروض بعشرات المليارات، بالاضافة الى هدر الموارد الطبيعية والقيمة المضافة التي تصل تقديراتها الى ٢٥٠ مليار دولار بسبب حرق الغاز والوقود المكلف وتوقف المصانع والمشاريع لشح إمدادات الطاقة والمواد الأولية، فضلاً عن الفساد الذي طال ملفات المشتقات النفطية المستوردة والمدعومة من موازنة الحكومة.
سنحاول في هذه الحلقة تسليط الضوء بصورة مقتضبة على دور مكتب المفتش العام في المؤسسات التنفيذية دون ذكر اسماء وتوجيه الاتهام لأشخاص بعينهم تجنباً للمشاكل، فالامثلة كثيرة حيث أن لجان مجلس النواب وهيئة النزاهة أعرف بحيثيات عمل بعض هذه المكاتب والوزارات ذات العلاقة التي تسببت بضرر بالغ على الدولة وضياع حقوق الشعب.
ظاهرة مكتب المفتش العام في الوزارات العراقية قد تبدو للوهلة الاولى عمل مؤسسي إيجابي رقابي يهدف الى متابعة صرف المال العام والموارد وآلية تنفيذ المشاريع في وزارات الدولة لترشيدها، إلا أن حقيقة عمل هذا المكتب، في أغلب الاحيان، وخصوصاً في الوزارات السيادية، قد تحول الى وسيلة للتغطية على المسؤول الفاسد في الوزارة (من شخص الوزير فما دون)، وأسرع سبيلاً للإبتزاز السياسي والمالي.
من الناحية الادارية، لا يُمكن أن يكون مكتب المفتش العام مستقلاً عن الوزارة اذا كان شخص المفتش أو أي فرد من طاقمه الاداري تابعاً كموظف إداري للوزير، لأن وجوده في المؤسسة التي يُجري آلية التفتيش عليها سيكون غير حيادي بل يتضارب مع المصلحة العامة، فضلاً عن غياب قانونية المنصب وشبهة التقارير الصادرة عن هذا المكتب.
أما من الناحية السياسية، فلا يمكن أن يكون المفتش العام حزبياً (في الأصل) أو خاضعاً لمعادلة المحاصصة السياسية، لأن حاله حال القاضي والدبلوماسي والعسكري، حتى يبقى حيادياً وعادلاً ولاتشوبه شائبة. إن استعراضاً بسيطاً لبعض اسماء المفتشين وانتماءاتهم السياسية وكذلك لأدائهم يُفصح للمراقب عُمق ضلوعهم في حالات الابتزاز السياسي ضد شخص الوزير اذا كان من حزب معارض، وكذلك ما يوفره المفتش العام من غطاء سياسي لمفاسد الوزير إذا كان الاخير من نفس الحزب الذي ينتمي اليه المفتش العام. لقد شهدنا في الكثير من الوزارات تنصيب أشخاص مُسيَسين أو ضعفاء مهنياً أو غير مسنودين سياسياً، تنتهي جهودهم الى حماية ملفات الفساد المالي وسوء الادارة في الوزارة المعنية، أما إذا كانوا من الاكفاء، فيتعرضون للضغوط والتهديد بل حتى النقل أو تلفيق تهم كيدية ضدهم لتبديلهم بمفتشين فاسدين أو غير كفوئين يعملون لحماية الوزير والحزب الذي فاز بوزارة من خلال المحاصصة السياسية.
فيما يلي بعض المقترحات والحلول:
إولاً: إلغاء مكتب المفتش العام من الوزارة وتشكيل هيئة مستقلة تضم جميع مكاتب المفتشين العموميين، غير مرتبطين إدارياً بالوزارة بل برئاسة الوزراء، ويتم رفع تقاريرهم الى الحكومة العراقية ومجلس النواب ومجلس القضاء. كما يجب مراجعة آليات التفتيش الفنية ومساحة حركتها الفعلية دون الاصطدام أو التداخل مع آليات المؤسسات الأخرى ذات العلاقة كديوان الرقابة المالية ودوائر الرقابة الداخلية وغيرها.
ثانياً: يكون شخص المفتش العام، المشرف على ملف الوزارة أو الهيئة التنفيذية المعنية، مهنياً وكفوءاً وذا خبرة عملية ومستقلا حزبياً ولا يَمُت بأيةِ قرابة لشخص الوزير أوحزبه، لضمان الاستقلالية في العمل.
ثالثاً: مراجعة ملفات المفتشين العامين الذين تم إبعادهم للتحقيق بحيثيات إقالاتهم لإنصاف المظلومين، وكذلك التحقيق بملفات المفتشين العامين غير الكفوئين وخصوصاً الذين تربطهم علاقة شخصية بشخص الوزير أو بحزبه (قبل وبعد ٢٠٠٣)، وبأثر رجعي منذ عام ٢٠٠٣، وإحالة ملفاتهم الى القضاء للتحقيق معهم واتخاذ اللازم بحقهم.
رابعاً: في حال ثبوت ادانة لأي مفتش، يجب إحالة جميع ملفات عمله الى التحقيق، واستدعاء كافة الوزراء والوكلاء والمدراء العامين الذين تعامل معهم خلال فترة الخدمة لمراجعة ملفاتهم، وجرد أوضاعهم المالية قبل وبعد ٢٠٠٣ (داخل وخارج العراق) وحجز الأموال المنقولة وغير المنقولة لكل من يُشتبه به.
خامساً: تشكيل لجان تحقيقية مختصة للتدقيق والتحقيق بملفات جميع الوزراء والوكلاء والمدراء العامين والمفتشين منذ عام ٢٠٠٣، مع تخصيص جوائز مالية لكل من يُخبر عن قضية (بالدليل) تقود الى إدانة بحسب السياقات القانونية.
سادساً: تشكيل لجان متابعة مع السفارات العراقية والتواصل مع الاجهزة القضائية وتفعيل اتفاقيات التعاون الدولية لملاحقة جميع المسؤولين المتقاعدين الذين خرجوا من العراق ومازالت الشبهات والتهم تلاحقهم، لجلبهم الى القضاء ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة و الحجز على الممتلكات التي تم نقلها بأسماء ذويهم بنية التهرّب.
إن شعار الاصلاح ليس ترفاً وعلى من يرفعه يجب أن يكون نزيهاً وجريئاً وعلى قدر من المسؤولية وبعيداً كل البعد عن الشبهات. لذا فإن مهمة رئيس مجلس الوزراء ومن سيخلفه ليست باليسيرة وستستمر لسنين أطول من عُمر داعش والقاعدة لتحرير الشعب العراقي من قيود الفاسدين وتبعاتهم. إن ظاهرة الاثراء السريع التي اتسم بها بعض الساسة المخضرمين واضحة للعيان وخصوصاً لمن يعرف تأريخهم وإمكاناتهم المالية قبل عام ٢٠٠٣، وهذا ما يوجب النظر على نحو من الجد والسرعة في ملفات كل موظف حكومي، مهما كان منصبه في الدولة، والتحقيق في كيفية ثرائه وامتلاكه العقارات والاستثمارات والمؤسسات "الانسانية" والقنوات الفضائية التي روّجت وتروّج لديمومة وجوده في الاجهزة التنفيذية الحساسة بإسم "الديمقراطية"، علماً بان أحد الخيوط المهمة التي توصل الى كشف ملفات هؤلاء المجرمين يتمثل في الافراد الذين تستروا ومازالوا يتسترون على ملفات الفاسدين، كالمفتش الفاسد وغيره من المسؤولين غير المسؤولين في السلك الحكومي.
* أكاديمي وزميل في جامعة كولومبيا، نيويورك

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top