ما هكذا نقدِّم للعالم كارثة انتحار شباب العراق!

آراء وأفكار 2018/01/08 12:01:00 ص

ما هكذا نقدِّم للعالم كارثة انتحار شباب العراق!

نشر فريق من الأطباء النفسيين من داخل العراق وخارجه دراسة بعنوان:
(The Iraqi National Study of Suicide: Report on Suicide Data in Iraq in 2015 and 2016) شارك فيها كل من الدكاترة : (محمد جمعة عباس، نصيف الحميري، عماد عبد الرزاق، شاكر نعوش، وباحث بريطاني). وتمثّل هذه الدراسة جهداً علمياً كبيراً يستحقون عليها الشكر والثناء والتقدير، كونها استهدفت أخطر ظاهرة تعرض لها الشباب والشابات بوصفهم أهم وأوسع شريحة اجتماعية في العراق. وتمتاز هذه الدراسة بالمنهجية العلمية العالية والدقة في تحليل البيانات الإحصائية، فضلاً عن الجهود الكبيرة التي بذلها فريق البحث للحصول على المعلومات، والصعوبات التي واجهوها من مصادرها المتمثلة بالسلطات القضائية ومراكز الشرطة وعوائل المنتحرين.

 

ولأن الدراسة منشورة باللغة الانكليزية في مجلة علمية متخصصة (Journal of Affective Disorders)، ما يعني أن العالم سيأخذ فكرة عن (الانتحار) في العراق من فريق علمي متخصص ومُعتبر، فإن الصادم فيها، أنها خرجت باستنتاج رئيس، هو أن نسب الانتحار في العراق أقل منها عالمياً (the suicide rate in Iraq is lower than the global rat)!..ما يعني أن العراق بخير إذا ما قورن بالسويد أو النرويج مثلاًّ!.
لنقدم أولاً عرضاً مركّزاً لخلاصة دراسة زملائنا الأطباء النفسيين الأجلاّء المشهود لهم بالخبرة والمستوى العلمي الراقي والمهنية المنهجية.
تبدأ الدراسة بالقول، بأنه لا يعرف إلا القليل عن الانتحار في العراق، وإنها اعتمدت في بياناتها على سجلات الشرطة وتقارير عائلية وأخرى خاصة بتحليل حالة الانتحار، وإنها شملت ثلاث عشرة محافظة من وسط العراق وجنوبه.
وتوصلت الى أن هنالك (647) حالة انتحار في العراق لعام 2015، بمعدل حالة واحدة لكل 100000، وبمعدل (1،21 للذكور، و 0،97 للأناث)، مقابل (1،31 للذكور و 1،07 للأناث) للعام 2016، وإن 67,9% كانت بين الأعمار 29 سنة فما دون. وتوصلت الى أن وسائل الانتحار الأكثر شيوعاً كانت هي الشنق (41%) تليه قتل النفس برصاصة (31%)، تليهما الحرق بنسبة (19%). وإن (54%) منهم لم تكن لديهم محاولات انتحار سابقة. وأشارت الى أن 24% منهم يعانون اضطرابات متعلقة بالطب النفسي psychiatric disorders ، وإن الأضطراب الأكثر شيوعاً بينهم هو الاكتئاب بنسبة (54%)، فيما كانت نسبة الانتحار لسبب اقتصادي (12%).

ظاهرة الانتحار.. أكبر من أن تستوعبها دراسة
لا يمكن لأية دراسة علمية أن تقدّم صورة كاملة لظاهرة الانتحار، لاسيما في المجتمعات الشرقية والإسلامية، ليس فقط لتعقد أسبابها بل ولأن الباحث فيها لا يمكن أن يصل الى حقائق تخفيها عنه عوائل المنتحرين وأصدقاؤهم ومراكز الشرطة والمؤسسات الطبية المعنية بالأمر. ولا يعنينا هنا الجانب العلمي للدراسة الذي استوفى شروطه المنهجية، إنما الذي دعانا الى كتابة هذه المقالة، هو أن دراسة زملائنا الأطباء النفسيين نشرت بمجلة أجنبية، وإن منظمة الصحة العالمية والمنظمات المعنية المرتبطة بالأمم المتحدة، ومنظمات المجتمع المدني العربية والعالمية، والقارئ الأجنبي بمن فيهم الأطباء النفسيون.. سيخرجون بانطباع أن الانتحار في العراق اقل من معدلاته في أوربا، وان أهله لا يحتاجون الى مساعدات إقليمية ودولية للحد منه، بل إن الحكومات العراقية بعد التغيير ستعتمدها شهادة من علماء الطب النفسي بأن معدلات الانتحار في زمنها هي أقل حتى من بلدان عربية تتمع بالاستقرار.. وهي بالضد تماماً من حقيقة أن ظاهرة الانتحار في عراق ما بعد 2003 تعدّ كارثة اجتماعية غير مسبوقة.
ومن خبرتنا في البحوث العلمية، تأكد لي وجود نوعين من الباحثين، الأول (نصّي) يلتزم بالأرقام وما يقوله الأحصاء، والثاني يعتمد الأحصاء أيضاً، ولكنه يحكّم المنطق ويأخذ بما يقدمه الواقع من حقائق. والمأخذ على هذه الجهد العلمي، أن دراسته الـ(quantitive study) تعاملت مع الأرقام بطريقة (حنبيلة)..اعني أنها قيّدت نفسها بمقارنات احصائية، ونأت بنفسها عن واقع يناقض تماماً تلك النتيجة الصادمة، بأن معدلات الانتحار في العراق هي اقل من معدلاته في العالم. والمؤسف (وهذا هو حال الباحث النصّي) أن التزامها الحرفي بالأرقام دفعها الى أن تقول إنها لا تمتلك أرقاماً عن معدلات الانتحار في العراق قبل 2003 لتحكم ما اذا كانت قد ارتفعت معدلاته بعدها.. فيما المنطق والحقائق ومصادر حكومية وتقارير تتمتع بالمصداقية ودراسات جامعية عراقية تؤكد أن معدلات الانتحار في العراق تضاعفت بعد 2003، إليكم نماذج منها:
• نشرت مفوضية حقوق الأنسان تقريراً عن معدلات الانتحار في العراق حددتها بـ(439 )حالة مسجّلة بشكل رسمي خلال عام واحد فقط أغلب ضحاياها من الشباب توزعت بواقع 119 في ذي قار و76 في ديالى و68 في نينوى و44 في بغداد و33 في البصرة و16 بالمثنى و15 في ميسان و12 في واسط،، فيما كشفت قيادة شرطة محافظة ذي قار، أن حصيلة حالات الانتحار المسجّلة لدى الشرطة منذ مطلع العام الجاري وحتى نهاية شهر آيار بلغت 17 حالة لأشخاص لا تزيد أعمارهم عن 25 سنة (السومرية نيوز، ايار 2013).
• أشارت إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أنها سجّلت في العراق 633 حالة انتحار خلال عام 2013 لوحده، بزيادة وصلت الى 60 في المئة عن عام 2012.
• خلية ازمة الانتحار في محافظة ذي قار، كشفت عن تسجيل مناطق المحافظة 26 حالة بشكل عام منذ بداية عام 2017 ، فيما سجلت احصاءات العام 2016 حالة انتحار واحدة اسبوعياً، وإن معظمهم من المتعلمين.
• سجلت جمعية "الأمل" لحقوق المرأة في محافظة كركوك، 20 حالة انتحار خلال شهر واحد داخل المحافظة.
• افادت وزارة حقوق الإنسان، بأن أحد الباحثين أجرى في 2015 دراسة عن الظاهرة لمدة 11 شهراً سجل خلالها أكثر من 120 حالة انتحار أو محاولة انتحار في مدينة كربلاء غالبيتها بين الفتيات الشابات والمراهقات.
• في عام 2016 سجّلت دائرة النجدة 251 حالة انتحار، منها 128 حالة في بغداد وكانت نسبة انتحار النساء أكثر من الرجال.
• شهد المجتمع العراقي ارتفاعاً في نسب الانتحار، خصوصاً بين الشباب والمراهقين (الحياة، كانون الثاني 2016).
• نشرت مفوضية حقوق الإنسان العراقية في مارس/ آذار 2014، إحصائية كشفت عن تصدر المحافظات الجنوبية النسب الأعلى في الانتحار، في مقدمتها ذي قار التي سجّلت 199 حالة في 2013 (القدس العربي). وفي تصريح حديث للقضاء العراقي فقد تصدرت بغداد وكربلاء وذي قار حالات الانتحار للعام الماضي بواقع 38،23،22 حالة على التوالي(الحرة عراق،5/7/2017).
• أثارتزايد حالات الانتحار بين الشباب والفتيات في محافظة ذي قار المزيد من القلق بين الأوساط الشعبية، داعين الجهات المعنية إلى التدخل لمعالجة أسباب ودوافع الانتحار والحد من هذه الظاهرة الآخذة بالتزايد (المدى).
• حالة من القلق والخوف تشوب الشارع الشعبي البصري بعد تزايد حالات الانتحار في المحافظة ووصولها درجات مقلقة تقترب من الظاهرة(غوغل).
• وسام (25) سنة خريج كلية، احرق نفسه ليلة تزوجت حبيبته من رجل ميسور!، و(س) في الثامنة والثلاثين، انهى حياته بطلقة من مسدسه في مدينة الشطرة، و(ص) في التاسعة والثلاثين ألقى بنفسه من فوق منارة مسجد في مدينة البطحاء!، وعشرة شباب انتحروا بشهر واحد في ذي قار! (الشرقية 31 تموز 2017).
تغييب الفقر والبطالة ومحنة النازحين
وملاحظتنا النقدية الرئيسة على الدراسة والتي نهدف منها الى لفت انتباه الرأي العام العالمي لمحنة شباب العراق بشكل خاص، أنها أفادت بأن نسبة العامل الاقتصادي بوصفه أحد اسباب الانتحار كان Financial problems (12.4%)، فيما الواقع يقول إن البطالة في قطاع الشباب، والفقر (الشعبي)، والنزوح تعدّ أهم ثلاثة أسباب للانتحار. فالتقارير الرسمية وتصريحات مسؤولين تعترف، بأن معدلات البطالة بعد التغيير سجلت أرقاماً قياسية على صعيد العراق والدول العربية والشرق الأوسط، حيث بلغت في ذي قار (34%)، وأن الأوضاع الاقتصادية ازدادت سوءاً لتسجّل هي الأخرى أرقاماً قياسية، حيث تعدّى عدد من هم دون مستوى خط الفقر سبعة ملايين عراقي، وإن هنالك ما بين أربعة الى خمسة ملايين عراقي نزحوا من بيوتهم وسكنوا المخيّمات.
والتحليل النفسي يوصلنا الى أن توالي الخيبات والتعرض الى الإحباط عبر اكثر من عشر سنوات والضائقة المالية التي يعانيها الشباب لاسيما المتزوجين منهم، تجعلهم عاجزين عن مواجهة الضغوط الحياتية والمتطلبات الأسرية، وشعور المواطن بأنه غريب في وطنه، واحساسه بانعدام المعنى من وجوده في الحياة.. دفعت بعدد كبير منهم للانتحار في ظل غياب المعالجات الحكومية الحقيقية لمشكلة البطالة.
وهنالك قضية اجتماعية خطيرة شكّلت سبباً رئيساً للانتحار، ولم تتعرض لها الدراسة، هي نزوح خمسة ملايين عراقي ليعيشوا حياة قاسية في مخيمات بائسة، فضلاً عن تعرضهم الى إهانات واعتداءات على كرامتهم الإنسانية. ولكاتب هذه المقالة دراسة وثّقت حالات أو محاولات انتحار لعشرات الفتيات من عوائل النازحين في المخيمات.
ختاماً:
نعيد التوكيد بأننا نقدّر عالياً الجهد العلمي الكبير لزملائنا الأطباء النفسيين، وأن الهدف من هذه المقالة هو تصحيح الفكرة التي أخذها القارئ الأجنبي، والهيئات الدولية، ومنظمة الصحة العالمية، والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، بأن نسب الانتحار في العراق أقل منها عالمياً، وتعريفهم بأن معدلات الأنتحار بين شباب العراق تضاعفت بعد 2003، وأنهم مهددون بالمزيد إن لم يتم معالجة أوضاعهم الاقتصادية بالدرجة الأولى، والقضاء على الفساد الذي يؤمن القضاء على الفقر (الشعبي) في بلد يمتلك كل مقومات الرفاهية لشعبه.
ملحوظة:
سنقوم بترجمة هذه المقالة إلى اللغة الإنكليزية ويُدفع بها إلى المجلة الأجنبية ذاتها.
* مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top