باليت المدى: لكنه ليس رساماً!

ستار كاووش 2018/09/29 05:45:39 م

باليت المدى: لكنه ليس رساماً!

 ستار كاووش

حين كنت يافعاً، ولشدة ولعي بالرسم، كنت استغرب كثيراً من وجود أشخاص ليسوا رسامين، رغم إنهم يبدون رائعين! ربما يبدو الأمر طفولياً أو نرجسياً، لكن هذا ما كان يحصل معي، فكل شيء وأي تفصيل وكل لمحة وحضور في هذه الحياة كان يحيلني للرسم. كنت أضع الرسامين وما ينتجونه في كفة، وكل الناس الباقين بجميع اختصاصاتهم وما يقومون به، في كفة أخرى. حتى صرت محكوماً بالرسم الذي لم أرَ سوى جماله وقوة حضوره، لا يحرك مشاعري سوى خلط الألوان وتحويلها الى أشخاص يعيشون على قماشة الرسم. لازمني هذا الشعور طويلاً حتى بعد دخولي الى اكاديمية الفنون، وقتها كنت استغرب كثيراً حين تُغْرَمَ فتاة بشاب ما وتحبه، ويستمر هذا الحب بنجاح رغم كون ذلك الشاب ليس رساماً وليست لديه ميولاً لعالم الرسم. كنت أردد مع نفسي بإستغراب مع كل حالة مشابهة (لكنه ليس رساماً!). سنوات طويلة وأنا على هذا الحال، أنظر الى كل شيء من باب الرسم فقط، لا أحيد عن ذلك ولا أتردد. كان بداخلي شعور عميق يدفعني للتفكير بأن الناس جميعاً كانوا يودون أن يصبحوا رسامين، لكن لسبب ما، لم تنجح محاولاتهم، فاختاروا على مضض أعمالاً اخرى غير الرسم.
ذهبت تلك السنوات وتماهى ذلك الاحساس وذاب مع الخبرة التي منحتني اياها الأيام، وعرفت أن الجمال موجود في كل تفاصيل حياتنا، وهو يحيطنا ويظلل كل ما نقوم به، لكن هذا الجمال يحتاج أيضاً الى مفاتيح علينا أن نملكها ونسير على ضوئها، مثل الأنفتاح والحرية التي هي أساس الفن والابداع وبدونها تضيق علينا كل المساحات. كذلك علينا أن نفتح أبواباً جديدة لتتسع الرؤية التي تقودنا الى فضاء من الخيارات الجمالية. وهناك الانتماء الذي يجعل الفن خلاصة لوجودك، ثم المتعة التي توفرها لك كل المفردات التي تحيطك، وبذلك توفر غذاءك اليومي الجمالي الذي يمنح روحك جناحين تطير بهما بيسر ومحبة. في حالتي بقي الرسم هو المثال الممزوج بتلك المشاعر القديمة، الرسم الذي تنعكس ظلاله بشكل ما على الطريقة التي انظر بها الى الناس، فهو ذروة بهاء الإنسان، ونموذج للنشاط الذي يحركه القلب والعين والذهن واليد. الرسم هو الإنسان، لكن على هيئة عمل فني، إنه أنا موضوعاً على قماشة الرسم، هو خلاصة تطور الإنسان ورقيه على مرِّ العصور.
ورغم أن رؤيتي وطريقة تفكيري الآن قد تغيرت كثيراً، لكني استرجع دون قصد رؤيتي الطفولية تلك، لأقارن جمال الفن، بالنوافذ المغلقة والطرق المسدودة التي تحيط ببعض الناس، أعقد هذه المقارنة حين أنظر الى البلدان المتقدمة التي تحترم الفن والابداع وما تقوم به من أجل رفع مكانة الثقافة والفن والابداع بشكل عام، مثلما قامت هولندا قبل فترة بتغيير الدستور وإضافة فقرة جديدة له تنص على إجبار تلاميذ المدارس الابتدائية لزيارة لوحة الحراسة الليلية التي رسمها ريمبرانت، لكي يتعرف الاطفال على ثقافة بلدهم وهم يقفون أمام أعظم لوحة كلاسيكية في التاريخ. وأدير بصري لأقارن ذلك بما يحدث في بلدنا مع الاسف، بلدنا الذي أخترعت فيه الكتابة والرسم والنحت، بلدنا الذي كتبت فيه أولى الملاحم وبنيت أعظم الابراج. نعم، أقف مستعيداً محبتي العميقة للرسم، لكن يملأني الحزن والحَمِيَّة على بلدي الذي يستحوذ عليه رجل دين يحرم الرسم، ويحكمه رئيس لا يستمع الى الموسيقى، ويستأثر به شخص رجعي يحطم التماثيل الجميلة، ويذله إنسان منافق ينظر بانتقاص كبير نحو الثقافة .. وربما يهيمن عليه كائن انتهازي يضحك الآن بسخرية، وهو يقرأ هذه الكلمات!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top