الثورة- الهوية- التغيير

آراء وأفكار 2018/10/08 08:02:27 م

الثورة- الهوية- التغيير

د.علي المرهج

يعيش المجتمع العالمي اليوم عصر الثورات وهي ليست الثورات التي يعيشها المجتمع العربي، وهذه الثورات هي الثورات الثلاث: ثورة الأنفوميديا (المعلوماتية) وثورة النانو تكنولوجي والثورة الجينومية، وشتان بين ثوراتهم وثوراتنا، وشتان بين التغيير عندهم والتغيير عندنا، كلانا يهدم ويقوض ولكن شتان بين طريقتنا في الهدم والتقويض وطريقتهم.
لكن الذي نتفق فيه أن كل ثورة تخفي وجهاً فيه كثير أو بعض من القبح ولا تكشف عنه، إلَا في زمن متأخر. وهذا ما حصل في ثورات المعرفة المعاصرة وفي ثورات العرب اليوم. فبعد أن كان هدف الثورات العربية التحرير، صار الدمار وتفتيت الشعب الى أعراق وقوميات وطوائف هدف هذه الثورات الأجلى، أما ثورات المعرفة فقد أخفت عنَا وجهها السلبي المُخيف، فالمعلوماتية، فيها تهديد أمني على الشعوب المتخلفة معلوماتياً من جهة إمكانية إختراقها أمنياً وإستخباراتياً، فضلاً عن إمكانية اختراقها قيمياً وأخلاقياً وتفكيك منظوماتها العقائدية والدينية والتقاليدية. بمعنى آخر تهديد مُقومات الهوية الوطنية.
أما ثورة النانو تكنولوجي فمخاطرها معروفة من جهة تهديدها للعالم في حال إمتلاك دولة شريرة أسلحة الدمار الشامل التي تيسر الحصول عليها معرفة وماكنة تقنية النانو تكنولوجي. فيما نجد خطورة الثورة البيلوجية مرتبطة "إحتمال تحطم جحافل الفيروسات والكائنات المولدة صناعياً أسوار المعامل، وتزحف علينا لتأتي على الأخضر واليابس" (نبيل علي: العقل العربي ومجتمع المعرفة، ص18).
فيما يشهد العالم ثورة أخرى مُزامنة لهاتين الثورتين، هي "ثورة الجينوم"، أو (DNA) الذي يُنبئ ببداية جديدة في التعامل مع الأمراض والحد منها وطُرق العلاج، ومعرفة إختيار العلاج المنساسب لكل شخص حسب ما تكشف عنه شفرة (DNA) التي تُساعد أيضاً على تطوير كفاءة وعمر النوع البشري. ولهذه الثورة أيضاً وجهها السلبي، من جهة أخلاقيات العمل بها وطُرق إستخدامها في حال العمل على تغيير الخصائص الوراثية للفرد.
وما نشهده اليوم من تغيير دراماتيكي في العالم وفي الشرق الأوسط، له أشكال عدة، منه ما هو إيجابي، في "ثورة الإنفوميديا" وتحول العالم إلى "قرية صغيرة" في ظل "العولمة" بما فيها من إيجابيات وسلبيات، ولكن العالم لا يعود القهقري، كما يقول "علي حرب"، فقطار التغيير سائر، بكل ركابه بمن فيهم الجالسون بإتجاه سيره، أو الجالسون عكس سيره، ولكن القطار يسير بهم جميعاً، فمن فضائل ثورة "الإنفوميديا" هو هذا التواصل السريع بين أقصى أطراف العالم من كل الجهات الأرض، ومن مساوئه، أن هذه الثورة قد وُظفت بغير ما أُريد لها عند من أبدعها، فقد صارت أداة بيد المُتطرفين والإرهابيين، كي يروجوا لأفكارهم، ولا أعتقد أنها مشكلة يتحملها المنتجون "المبدعون" لها، فقط، بقدر ما يتحملها بنية "العقل المستقيل" الجاهل الذي لا يرى من المعرفة سوى ما يُدركه هو على أنها معرفة نهائية إطلاقية.
ومن محاسنها ليس التواصل السريع فقط، بل الإستثمار السريع أيضاً والبحث عن أماكن للإستثمار يستفيد بها التاجر المنتج، والعامل في دول العلم المُتنامي، فالتاجر يبحث عن أيدي عاملة رخيصة، وعن سوق للتصدير لا كُلفة كبيرة لنقل البضائع فيها للمُستهلك، وعن مواد أولية رخيصة، الأمر الذي جعل كثير من مناطق الشرق النائمة تكون مُشاركة في إنتاج وتصدير القوى الناعمة.
فأفاد من نمط التغيير هذا بعض بلدان الشرق، مثل ماليزيا والهند، والصين، ولحقت بهم "الإمارات العربية المُتحدة"، حتى صارت "دُبي" قبلة للتجار والسائحين من كل بلدان الأرض.
ولربما سيتحول نمط التفكير في هذه البلدان، وهو قد بدأ فعلاً في التحول عبر إنفتاحه على رؤى فكرية جديدة حداثية و ما بعد حداثية، لا لقصد منه، ولكن لأن ظروف ونمط العيش الجديد تقتضي الإنفتاح على الآخر، إن رامت الأنا التي كانت مُتقهقرة تحسين الحال، وهذا ما حصل في هذه البلدان التي ذكرناها آنفاً، فهي لم تتخل عن هُويتها التاريخية، ولكنها قبلت بتجديد الوعي بهويتها الفكرية لا من أجل زعزعة ثوابتها، إنما هو تلاقح ثقافي من أجل تنشيط الوعي العقلاني الخلَاق، كي تكون هذه الأمم مُشاركة في صناعة الحياة المُعاصرة عالمياً، فلم تتخل الصين عن هويتها ونزوعها "الكونفشيوسي" ولا اليابان من قبلها التي لم تتخل عن ديانة الشنتو أو البوذية، ولا حتى عن تراثهم وفلكلورهم الذي بقيَ مؤثراً في كل مُجتمعات الأرض، وهل ننسى نتاجهم في عوالم الرسوم المُتحركة، وكيف أثر فينا وفي أطفالنا؟ أو ننسى ثورتهم الصناعية والتقنية، حتى صار لفظ ياباني = الأفضل، على مستوى الإنتظام السلوكي وعلى مستوى الناتج العلمي.
لا ضياع للهوية، في عوالم مُستقرة ونفوس لا يعتريها القلق المرضي، لأن من القلق ما هو معرفي "فلسفي" يشحذ النفوس نحو الإبداع والتفرد والبحث عن "الإنسان المُتمرد" الذي يصنع قيمه بنفسه.
الهوية ليست بطاقة تضيع، فنذهب للإبلاغ عنها في مراكز الشرطة، إنما الهوية حضور وفاعلية للذات وتمسك لا مرضي بتراث جميل، ننتمي إليه بمحض إرادتنا لا قسر ولا ترغيب أو ترهيب. إنه تراث تشي به ملامح جباهنا السمر، ورؤانا الناظرة النظرة من فرط حضوره الوجداني والعقلي. والتغيير عندنا لا في الهوية التي لا توصيف لها خارج التفاعل التاريخي، الذي نهله العقل، فتماهى معه، كل وفق مخزونه الأثيني، إلَا أنه في الوقت ذاته مخزون وطني، تتكامل به الهوية الوطنية حال إستحضار كل الهويات الفرعية، التي يكتمل إنوجادها بتكامل وجود لون من ألوان الطيف الذي لا تدريج له واضح بائن إلَا في سياق الهوية الوطنية بأطيافها.
نعود للتغيير، الذي لا يعني تغيير الأنفس وإنتماءاتها الوطنية، بقدر ما يعني تغيير نمط التفكر الأحادي كي يعي الآخر الداخلي الناطق بعمق الإنتماء للهوية الوطنية، وهذا الفصل بين أنا "أنوية" إقصائية وأنا "نوعية" "تعددية" تقبل هُويتها الأثنية، وهُوية "الأنا" المتداخلة معها وطنياً، لا وجود لها في عوالم التغيير إلَا بتفعيل الوعي الفلسفي، الذي يبحث عن الآخر بوصفه الوجه الآخر للعملة، أو "الذات عينها كآخر" بعبارة بول ريكور. وهذا الآخر مرة يكون مُتشاكل هوياتياً مع الأنا الوطنية، وأخرى يكون مُبايناً لها من حيث البعد التاريخي للأنا المُتشاكلة، أو المتعايشة وطنياً المشكل الجوهري للأنا، ولكنه آخر من نوع مُشكل عرضي للأنا، لكنه مُشكل للوجود من نوع "النوابت" لا "الثوابت"، بتعبير مُستعار من الفارابي وأبن باجة، على ما في رؤيتهما للمفهومين من بعض تغاير وإختلاف.
هناك من يعتقد أن التغيير يحمل في طياته نزوع لإفراغ مفهوم الهوية من محتواها الأصلي، ولم أجد بغير تعريف المنطق للهوية، على أن "الشيء هو هو ولا يُمكن أن يكون غيره" تعريفاً يُرضي غرور الذات المتأترثة، ولكن لا مصداق لهذا التعريف اجتماعياً كان أم فلسفياً، وإن كان فيه بعض من إرضاء لغرور الذات، فهو من قبيل التوصيف العام لنشوء الأمم، كأن تكون الأمم الشرقية، ذان نزوع معرفي وجداني، عاطفي، باطني. وهناك شعوب أروأميركية، ذات نزوع معرفي برهاني، إستدلالي، ولكنه ليسم من قبيل التكوين الأرومي للأمم، إلَا وفق تصور إستشراقي "كولنيالي"، وإلَا كيف يكون ابن رشد الذي هو من أرومة الأمم العربية من كانت فلسفته ذات تأثير في تغيير نمط التفكير الغربي، وتوجيهه نحو تبني الرؤية العقلانية، كي يكون المُمهد لظهور النزعة العلمية العقلانية الأنسنية في أوربا؟!.
بفضل رؤى ابن رشد بدأت حركة التنوير الأوروبي في الإنتشار، مع الرشدية اللاتينية، المؤمنة والملحدة، المؤمنة مع الفلاسفة المسيحيين، والملحدة مع القائلين بقدم المادة، وتبنيها على أنها أقوال مُمهدة لظهور العلمانية في أوروبا.
ولكنك لن تجد في فلسفة ابن رشد خروج عن الإنتماء الهوياتي للرؤية الإسلامية ببعدها الكوني ونزوعه العالمي لتفعيل القول الرسالي، وإن إختلف حوله الدارسون.
ولن تجد شعوراً بالنقص يعتري الغربيون أزاء نهلهم من المعرفة الرشدية وإن كانت أصوله إسلامية، لأن المعرفة حرة "تنتقل من جميع الجهات إلى جميع الجهات" كما يقول أستاذنا مدني صالح، والعقل النقدي الحر هو الذي يُقبل على المعرفة أنَا كانت ومن أي جهة جاءت، فالعلم لا دين له، فلا وجود لأسلمة في العلم، كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين الذين حاولوا تنميط العلم وأدلجته وتديينه وتدجينه بإسم الإسلام، والأمر ذاته ينطبق على باقي الديانات، فالعلم لا تهويد له، كما لا نصرنة فيه. إنه نتاج الإنسانية جمعاء، في مرحلة ما كان اليونان هم مُنتجوه ومصدروه، وثانية كان العرب والمسلمون هم بناته ومروجوه، ولم يكن ببعيد عن نتاجات الحضارات الشرقية القديمة، رغم طابعها الأسطوري، وكذا الحال مع الغرب، فهم اليوم صُناع النظرية العلمية ومؤسسوا التقنية، وربما يكون القادم العلمي للشرق الأقصى، وهذا ما تشي به "النمور الآسيوية"، وستبقى الهوية جذراً تاريخياً مُتأصلاً لا تفسير سلفي أو حداثي لها، وربما يكون الشعور والوجدان في الإنتماء للأرض هما المعبر الأرقى للإحساس بالهوية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top