قضية للمناقشة: نموذج وعالم مفتوح

آراء وأفكار 2018/10/09 06:45:08 م

قضية للمناقشة:  نموذج وعالم مفتوح

فريدة النقاش

استغرق الجدل حول التفاؤل والتشاؤم وقتاً طويلاً من النقاش في إطار ندوة اليوم الواحد حول «نموذج ثقافي عربي جديد في عالم متحول» التي أعدّ لها مركز الدراسات السياسية والستراتيجية بالأهرام مع مؤسسة الفكر العربي.
وكانت مداخلة الباحث والاستاذ الجامعي د. عماد الدين أبو غازي هي التي اطلقت حالة من التشاؤم كاشفة عن الواقع العربي البائس لا في ميدان الثقافة وحدها وإنما في بقية الميادين كافة. ووجدت نفسي أذكّر المشاركين بالحملة المشهورة للمفكر الاشتراكي الايطالي «انطونيو غرامشي» فى مواجهة تشاؤم الذكاء علينا بتفاؤل الإرادة، إذ كان يدعو رفاقه- وهو الذي قضي سنين طويلة في السجون- يدعوهم الى الابتكار والصمود والعمل الدؤوب لتغيير الواقع البائس.
وكانت فكرة النموذج التي قيل إنها ترجمة غير دقيقة للمصطلح العلمي «برادايم» موضوعاً لنقاش غني وعميق بدورها. اذ رأيت – ووافقني آخرون إن النموذج يمكن أن يحيلنا الى الواحدية وسطوة الاجماع، وعدم الارتياح من ثم للتنوع والتعدد، أو وضعهما- أي التنوع والتعدد فى مرتبة أدنى تحت عنوان كبير هو النموذج، بينما يتطلع الباحث «فتحي التريكي» أحد المشاركين في أعمال الكتاب السنوي، «افق» الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي الى دراسة كيفية التحول من معقولية التوحيد الى معقولية التنوع في العلوم والفلسفة والاجتماع. وقد أدت فلسفة التنوع الى تحديث أعماق أنماط الحياة فى المجتمعات الغربية التي أصبحت اليوم متعددة ذات اتجاهات مختلفة في وفرة الخبرات والمعارف والاتجاهات.
وظل إبراهيم عبد المجيد طيلة النقاش مصراً على أن «الوهابية» هي الداء و"الوباء".. وجاءت إضافات مجموعة الباحثات والباحثين المشاركين فى الندوة- وغالبيتهم من مصر مثقلة بهموم الاستبداد، وحصارالمثقف، والدائرة المقطوعة مع الجماهير الواسعة، ورغم جدة، بل وأقول عظمة الأفكار وغناها، وجد المثقفون أنفسهم معزولين فى منابرهم العميقة، عاجزين عن التواصل مع الناس أو تكوين معرفة مباشرة عنهم تغني معارفهم العميقة من الكتب واللقاءات الفكرية. وذكرنا الدكتور وحيد عبد المجيد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والستراتيجية بقصيدة «أحمد فؤاد نجم» «يعيش أهل بلدي» والتي غناها الشيخ إمام عيسي ساخراً من الانقطاع التام لا فحسب بين المثقفين والشعب، وإنما أيضاً بين الطبقات.. وبرزت في النقاش الممتع قضايا رئيسة بيّن المشاركون أن بعضها بقيّ معنا منذ نهاية القرن التاسع عشر، مثل قضية حقوق المرأة، والحريات العامة والاستبداد السياسي والمجتمعي، والانقسام بين المحافظين والمجددين والإصلاح الديني، وتواكب هذا الاستدعاء للقضايا الكبري مع مشاعر عميقة بالمرارة إزاء ما آل إليه الربيع العربي الذي لم يعد المثقفون يذكرونه إلا ويضعون بعده علامة استفهام كبيرة، بعد أن كانوا شأنهم شأن بقية المواطنين قد علقوا عليه آمالاً كبيرة، الى أن أجهضته قوى الثورة المضادة المتستّرة بالدين واطلقت الارهابيين من السجون ليجري افتتاح حالة جديدة من الفوضي والعنف المسلح في غالبية البلدان العربية.
وسادت بسبب هذا الوضع حالة من جلد الذات، والمحاسبة القاسية للنفس بحثاً عن طريق جديد، وأمل في نهضة جديدة، وإبعاد اليأس عن المثقف المحاصر حتى يستطيع أن ينهض بدوره في استخلاص ما ينفعنا، وإدراج هذا الاستخلاص في خطط سياسية واقتصادية وتعليمية حتى لا تكون الأفكار مجرد أطروحات نظرية ومثالية يطلقها مثقفون بحثاً عن راحة الضمير، أو التخلص من الحزن العميق بسبب ما آلت إليه أحوال العرب.
ورغم الحذر الشديد لدى المنظمين والمشاركين من الدخول الى منطقة السياسة، إلا أن السياسة ظلت معلقة على رؤوس الجميع، ذلك أن أهمية الفكر تكمن في مقدار ممارسته على أرض الواقع، أي في تحويله الى سياسة، فالسياسة في نهاية الأمر هي ممارسة الأفكار، وهذا يعني على حد تعبير الباحثة تهاني سنديان أن الخطاب الثقافى الفكري الجديد هو مشروع سياسي وهكذا نعود الى نقطة البدء لنعاود الانطلاق إنْ شئنا أن نتقدم.
طرح علينا الدكتور وحيد عبد المجيد في الجلسة الختامية مجموعة عناوين بهدف ترتيب أولويات المثقفين الحاضرين والمثقفات إزاء المستقبل الذي يتطلع الجميع له، وجاءت الحرية في المرتبة الاولى حتى قبل العدالة رغم الإحساس الغامر بالظلم، ليتذكر الجميع الأهداف الخمسة لموجات الثورة في مصر عيش- حرية- عدالة اجتماعية – كرامة انسانية – دولة مدنية، وفي خلفية الجميع ظل الاحساس بالمرارة ثاوياً لأن الشعوب العربية وهي تقاوم الاستبداد والتبعية والتخلف مطالبة بإحياء هذه الأهداف، والعمل مجدداً من أجلها، والحرية هي الهدف الأغلي في قلوب الجميع، وهي التي سوف تزيح الى الخلف هذا الإحياء الضمني اللاواعي- ربما – لفكرة المستبد العادل، وهي فكرة مازالت تغازل خيال البعض ممن سماهم «عبد الله العروي» التقنيين الذين لم يكن يعنيهم سوى التقدم العلمي والتكنولوجي، وفي سبيل هذا التقدم يمكن تأجيل الحرية لبعض الوقت، وهي فكرة ماتزال تراود السلطات حتى الآن رغم كل ما حدث لنا من جراء المراهنة على الانجازات وحدها مع عزل الناس واستبعاد الحوار ثم تغول الأمن خوفاً من أي صوت يعلو احتجاجاً .
كثيرة هي الندوات وورشات العمل والمؤتمرات التي يعقدها مثقفون ومثقفات فى كل أرجاء الوطن العربي ولكن يبقى هذا الثراء والتنوع كالذي شهدته في هذه الندوة نادراً، فالمرء يخرج منها محملاً بأسئلة أكثر كثيراً من تلك التي جاء بها، وفي هذه الاسئلة اختبار للنزاهة والصدق مع النفس ومع الآخرين، لأنها لا تقترح اجابات جاهزة، ولأن الثقافة هي في خاتمة المطاف موقف لا مجرد أفكار.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top