الانفجار السكاني.. أم القنابل في العراق

آراء وأفكار 2018/10/13 06:09:01 م

الانفجار السكاني.. أم القنابل في العراق

 د. ناجح العبيدي

حتى أوسع الناس خيالاً لم يكن يتصور أن بغداد ستحتاج لخمسة عقود فقط لتتفوق على العراق كله من حيث عدد السكان. في مطلع تشرين الأول 2018 أعلن الجهاز المركزي للإحصاء أن عدد سكان محافظة بغداد لوحدها تجاوز 8 ملايين نسمة ، وهو رقم يزيد عن إجمالي سكان البلاد بحسب التعداد السكاني لعام 1965. في ذلك العام كان يعيش في العاصمة نحو مليون ونصف مليون إنسان الأمر الذي يعني أن العدد تضاعف أكثر من خمس مرات خلال الـ 53 سنة الماضية. في نفس الفترة ازداد عدد العراقيين إلى أكثر من 38 مليوناً يعيش أغلبهم في مدن مزدحمة تفتقر إلى البنية التحتية القادرة على مواكبة هذا النمو السريع. ومعه تضاعفت الحاجة للغذاء والماء والكهرباء والمدارس والطب والنقل وتراكمت الأعباء على الطبيعة والبيئة والموارد المتاحة.

هذا التكدس غير الطبيعي للبشر ليس حكراً على بغداد وإنما طال جميع المدن العراقية، ومنها ثاني وثالث أكبر مدينتين، الموصل والبصرة. لذا لم يكن صدفة أن تشهد هذه المدن الثلاثة بالذات صراعات وهزات سياسية واجتماعية حادة وأزمات واختناقات وأعمال عنف كان من الصعب تصورها قبل عقدين فقط. صحيح أن الأسباب الملموسة متنوعة ومرتبطة أيضا بفشل الدولة وتشظي المجتمع، إلا أن العامل الديموغرافي والنمو المنفلت للسكان شكل أرضية خصبة لكل هذه التطورات العاصفة. ما بين تعدادي السكان في 1957 و1965 احتاج عدد سكان البلاد لثماني سنوات ليزداد بمقدار مليون وستمائة ألف، أما الآن فإن الأمر يستغرق سنة ونصف فقط ، أي أقل من خمس الفترة السابقة. بموجب معدل النمو السنوي الذي يقارب 3% ، يحتاج سكان العراق لأقل من 25 عاماً لكي يبلغ عددهم ضعف العدد الحالي. لهذا جاءت آخر تقديرات صندوق السكان التابع للأمم المتحدة فيما يخص بلاد الرافدين مرعبة بكل المقاييس. يتوقع الصندوق أن يبلغ سكان العراق في عام 2050 قرابة 81 مليوناً. ومع نهاية القرن الواحد والعشرين تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن العدد سيقفز إلى 155 مليون نسمة. لو صحت هذه التقديرات فإن عدد العراقيين سيكون في عام 2100 أكثر من ضعف سكان إيران أو تركيا. يبدو هذا الرقم من صنع الخيال، لكن تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء في العراق تؤكد أيضا هذه التوقعات المتشائمة. سنوياً يتكاثر العراقيون بأكثر من مليون نسمة، وهو رقم مرشح للارتفاع ويضع أية حكومة أمام تحدٍ عسير. لهذا يبدو انضمام العراق إلى نادي الدول التي يزيد عدد سكانها عن 100 مليون نسمة مسألة وقت لا أكثر، ما لم تحدث معجزة ويطرأ تغير سياسي أو اجتماعي حاسم ينزع فتيل هذه القنبلة التي تهدد شظاياها الجميع.
تقف وراء هذا النمو السريع عوامل عديدة ، في مقدمتها تحسن الرعاية الصحية وتقدم الطب الذي ساهم في تخفيض وفيات الأطفال إلى مستويات متدينة ورفع توقع الحياة، وهي تجربة مرت بها جميع بلدان العالم. غير أن الدول الصناعية المتقدمة والبلدان الناشئة، وبما فيها الصين والهند، أكبر بلدين في العالم من حيث السكان، نجحت بوسائل مختلفة في ضبط التطور الديموغرافي وبما ساعد في خلق ظروف مناسبة لنجاح عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية. في المقابل تكمن المشكلة الأكبر في العراق وفي بلدان إسلامية وإفريقية كثيرة أخرى في عدم اكتمال عملية التحول الديمغرافي، فبعد أن كانت معدلات الولادات والوفيات عالية في الوقت نفسه على مدى قرون، نشهد منذ نحو ثمانية عقود تراجعا مستمرا في معدل الوفيات، بينما حافظ معدل الولادات على مستواه العالي أو أن تراجعه كان طفيفاً للغاية. لهذا فشل العراق، بعكس بلدان إسلامية أخرى مثل إيران وتركيا وتونس، في ردم هذه الهوة.
يتجسد أكثف تعبير عن هذه المشكلة في مؤشر معدل الخصوبة الذي يقيس متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة خلال حياتها. بحسب تقديرات صندوق السكان للأمم المتحدة يعتبر معدل الخصوبة في العراق البالغ حاليا 4,3 بين الأعلى في العالم. صحيح أن تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء أقل نسبيا وتبلغ 3,9 لعام 2018، إلا أن هناك ما يدعو للشك بدقة هذه الأرقام. وفي كل الأحوال فإن بقاء هذا المعدل على مدى عقود طويلة عند مستويات مرتفعة ليست مشكلة إحصائية، بل هي قضية خطيرة تمس الكثير من الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع لأن قوانين الديموغرافية لا ترحم ونتائجها تفرض نفسها على الجميع عاجلاً أم آجلا.
يرتبط ارتفاع معدل الخصوبة وبالتالي مشكلة الانفجار السكاني في هذه المرحلة أولاً وأخيراً بدور المرأة ومكانتها في العائلة والمجتمع. من جهة تعاني المجتمعات العربية والإسلامية عموما من ظاهرة زواج القاصرات في ظل وجود فكر ديني يبرر هذه الممارسة البشعة بحق الطفولة بحكايات عمرها 1400 عام. ضمن هذا النهج تأتي المحاولات المتكررة لقوى الإسلام السياسي لتعديل قانون الأحوال الشخصية والسماح بإبرام الزواج وفق المذهبين الشيعي والسنّي على أمل فتح الباب على مصراعيه أمام تشريع زواج الفتيات الصغيرات. في الواقع العملي تحذر الكثير من المنظمات الحقوقية النسوية من انتشار ظاهرة زواج القاصرات بعد 2003، الأمر الذي يُنذر بعودة معدل الخصوبة للارتفاع من جديد واستمرار دوامة الفقر والعنف.
من جانب آخر تنظر الثقافة الاجتماعية والدينية السائدة إلى المرأة كماكنة لتفريخ الأطفال أو كحقل للزرع والتكاثر باعتبار أن "النساء حرث للرجال". مثل هذه النظرة الدونية للمرأة تزخر بها العقلية السائدة وتساهم بدرجة كبيرة في حرمان المرأة من التمتع بفرص عادلة في التعليم والعمل. ضمن هذه العقلية يندرج أيضاً الموقف الرافض للإجهاض واستخدام وسائل منع الحمل. هكذا تنشأ حلقة مفرغة من امتهان الكرامة والجهل والإنجاب تصب في نهاية المطاف في النمو المفرط للسكان. كما تعود ظاهرة تضخم عدد الأطفال في العائلة جزئياً إلى ظاهرة الزواج من الأقارب التي عادت للانتشار في العراق. لا تقف الظاهرة بعيداً عن الموقف الديني الذي يحرم الزواج من "المشركين" ويكرس التمييز بحق أتباع الديانات الأخرى، هذا إضافة إلى إحياء القيم العشائرية المتخلفة.
رب سائل يسأل: ما الضير من نمو السكان؟ أليس الإنسان أثمن رأسمال؟ ولماذا هذا التقليل من شأن العامل البشري في عملية التنمية؟ .. لا يجوز التعامل مع العنصر الإنساني ككم فقط يقاس بالملايين وتجاهل العامل النوعي. هذا ما تثبته مؤشرات وتجارب عملية لا حصر لها. ما يجمع العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وليبيا والسودان ومالي وغيرها، ليس فقط الحروب الأهلية والصراعات المستمرة منذ عقود ، وإنما أيضا أن جميع هذه البلدان تظهر معدل خصوبة يزيد عن 4 وتسجل نمواً سنوياً للسكان يزيد عن 3%. غير أن هذه الأرقام هي في نهاية المطاف مؤشرات متوسطة وتتباين بقوة من فئة إلى أخرى داخل نفس المجتمع. من الواضح أن معدل الخصوبة يرتفع في العادة بشكل كبير لدى الفئات الفقيرة والمهمشة والمحرومة من فرص التعليم والتأهيل. وهكذا يجد المجتمع نفسه أمام حلقة مفرغة من الفقر والبطالة وكثرة الأطفال لأن العائلة لا تملك عادة الوقت والوعي والمال الكافي للاهتمام بتعليم أطفالها. يترافق ذلك مع تضاؤل الطبقة المتوسطة، التي تلعب عادة الدور الرئيس في تماسك المجتمع وتطوره.
في نفس الوقت يعني تسارع معدلات نمو السكان ارتفاعا في نسبة الفئات العمرية الشابة، وهي ظاهرة تلاحظ في كل البلدان التي دخلت في أتون حروب أهلية لا نهاية لها. ليس من العنصرية القول بأن معظم الجرائم الجسيمة كالقتل والاعتداء الجسدي والاغتصاب والسطو وغيرها يرتكبها ذكور. بين هؤلاء النسبة الأكبر هم شباب في عمر يتراوح بين 18 و40 عاما. هذه الأرقام تؤكدها إحصائيات الجريمة في كل البلدان دون تفريق بين الدول المتقدمة والنامية. لكن بما أن نسبة الشباب ترتفع باِطراد في البلدان ذات النمو السكاني العالي فإن احتمال حدوث هذه الجرائم يصبح أكبر، بينما تعتبر ظاهرة الشيخوخة أحد أسباب تراجع معدلات الجريمة في الدول الصناعية. ينطبق هذا أيضاً على أعمال العنف بغض النظر عن توصيفاتها. باختصار يمكن القول بأن الشباب الذكور هم في العادة أبطال الاحتجاجات والثورات والحركات الإصلاحية وفي نفس الوقت المحرك الرئيس للاضطرابات وأعمال العنف والشغب والتطرّف والإرهاب. ليس من المبالغة القول أن مئات الآلاف والملايين من الذكور الشباب يمكن أن يتحولوا في ظل أجواء الاحتقان الخطيرة في الشارع العراقي ومظاهر التشظي السياسي والديني والمذهبي والعشائري والصراع الضاري على الموارد المالية وفرص العمل والوظائف المحدودة إلى قوة تدميرية هائلة يصعب التحكم بها.
لم يتحقق الأمل في العراق بتراجع معدل الخصوبة تلقائيا والانتقال بمرور الزمن الى معدلات نمو مقبولة كما حصل في بلدان كثيرة. كما أن المجتمع دفع وسيدفع ثمناً باهظاً جراء غياب سياسية سكانية فاعلة خلال العقود الماضية. صحيح أن أي تقدم ملموس على طريق تنظيم الأسرة لن يتحقق بين ليلة وضحاها وإنما يتطلب عقوداً عديدة، لكن ذلك لا يعفي الدولة والمجتمع من تبني برنامج متكامل لوضع العلاقة العضوية بين السكان والتنمية في إطارها الصحيح. غير أنه يجب القول بوضوح تام بأن الأوضاع الملموسة في العراق لا تبشر بخير نتيجة غياب أبسط المستلزمات. حتى الآن ما تزال البلاد تنتظر إجراء تعداد جديد السكان رغم مضي أكثر من 20 عاماً على آخر إحصاء من هذا النوع.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top