فيلم مرايا الشتات .. عودة الى أبطال الفيلم بعد قرن

فيلم مرايا الشتات .. عودة الى أبطال الفيلم بعد قرن

أحمد جبار

بعد انشغاله لأكثرمن أربعة عقود بالفيلم الوثائقي ، متبحراً في أنساقه الجمالية و سريته التعبيرية يقدم لنا المخرج / المعلم المستقل ( قاسم عبد ) فيلم " مرايا الشتات " و الذي يعد إستكمالاً لفيلم قدمه سابقاً يرصد من خلاله المنفى الإجباري لفنانيين عراقيين لفضتهم البلاد خارج أسوارها ، هاربين من عسف السلطة السياسية و الإجتماعية . بعد سنوات يعود لهم ليرصد من خلالهم الخيبة السياسية التي حاقت بالبلاد بعد المتغير الذي حدث في عام 2003 م ، المتغير / الحلم بالنسبة لهؤلاء الفنانين فالعودة إلى أسوار الوطن كانت مرهونة بالإنهيار الدراماتيكي للسلطة السياسية ، لنكون إزاء خطاب جمالي مركب سردياً ، و ثقافياً حيث ننفتح من خلاله على ملفات عدة سياسية ، و اجتماعية ، و نفسية ، و فنية في بلاغة عالية تنأى عن التصريح المباشر ، يضعنا صانع الفيلم أمام بوح متعدد الأصوات ننفتح من خلاله على عدة وحدات سردية الأولى فنانة عراقية ( عفيفة العيبي ) تقيم في هولندا انعكست تجلياتها الفكرية و النفسية كمرأة وحيدة واجهت الحياة القاسية للمنفى ، فلا خيار لها إلا الصراع مع الوجود الجديد الذي وضعت فيه ، و إثبات الذات ، وبهذا نكون أمام شخصية عانت صراعاً نفسياً حاداً انعكس من خلال لوحاتها ، وبعد سنوات المنفى يرصد مخرج الفيلم تصالح الشخصية مع تراجيديا الواقع ، وهذا التصالح أسفر عن تغير حاد في منظورها الجمالي تجاه تجربتها الفنية التي يجب أن تعبر عن المتغير الروحي الذي حدث لها بعد أن أثبتت حضوراً فنياً و ثقافياً رسخ هويتها كفنانة اعترفت بها المؤسسة الثقافية في هولندا فإصبحت لوحاتها تنحو منحىً أسلوبياً ، وبهذا يضعنا مخرج الفيلم أمام عوالم تشكيلية معبرة عن المنظور الذاتي للفنانة ، فلا يمكننا أن نفصل التجربة الجمالية عن النسق السسيوسياسي الذي تعيشه المبدعة في منفاها الذي أصبح إختيارياً بعد كل هذه السنوات من الغربة أصبح بلدها الأصل مجرد شذرات بعيدة متشظية في أروقة الذاكرة ، و ما عمق من إنتمائها الحقيقي لهولندا التي أصبحت بالنسبة لها مكاناً / وطناً بديلاً عن بلدها الذي هيمن عليه نسق ثقافي أبوي بامتياز حتى بعد 2003 مع هيمنة السلطة الدينية الراديكالية التي تجعل من المرأة خاضعة أبداً لتراتب قهري تعلن عنه في خطابها المنبري .
أما الوحدة السردية الثانية فقد تصدى من خلالها مخرج الفيلم لرصد حياة فنان تشكيلي بصري يقيم في روما ( علي عساف ) يستلهم أعماله الفنية من التراث الأوروبي ، يحلم بالعودة إلى العراق ليعيد الألق لمدينته المنكوبة التي دمرتها الحروب و الحصارات و الخسارات التي لا تنتهي ، الوحدة السردية الثالثة بطلها نحات كردي ( فواد عزيز ) يعمل في مشغل على مستوى عالٍ من الإحتراف ، و يمارس تعليم الرسم في المدارس الإبتدائية في إيطاليا ومن ضمن اهتماماته الجمالية كتابة قصص للأطفال ، أعماله الفنية تعبر عن جرح غائر في نفسه كفنان منفي يحلم بالعودة إلى بلاده ، بعد 2003 يعود إلى كردستان ليقدم مشروعاً جمالياً في إحدى ساحات المدينة لكنه يصدم بالسلطة البيروقراطية التي تجعله يعود أدراجه بعد أن يتكبد خسائر مادية و معنوية إلى منفاه في إيطاليا التي تحتفي بإحدى تجاربه الجمالية في إحدى ساحات إيطاليا .أما الفنان ( جبار علوان ) الذي يمتلك مرسماً في روما يشكل فضاءً جمالياً تقام فيه لقاءات فنية ، و عروض مسرحية يرصد صانع الفيلم أحدها وهو عرض مونودرامي شكل بوحاً موجعاً لممثل فلسطيني انهكه الصراع الأيديولوجي ودمر هويته الوطنية ، أما ( كاظم الداخل ) الرسام المقيم في السويد الذي يعبر معرضه عن موقفه الجمالي تجاه رسالة فن الرسم وموقفها من الواقع بكل قسوته .
كل هذه الوحدات السردية التي نهض بتشكيلها البناء المونتاجي المتوازي الذي تعتريه إنكسارات تعيد لنا شذرات من ماضي الشخصيات ، جعلت من الشكل الفيلمي حداثي بامتياز تماهياً مع تجليات الحداثة في وعي الشخصيات المحورية التي تصدى صانع الفيلم لتجسيمها ، و المتتبع لتجربة الفنان السينمائي قاسم عبد سيجد إنه يستغرق في مجمل أفلامه أيما إستغراق في الغوص في أعماق شخوصه ، و محاولته التجول في أروقتها الداخلية عبر أفعالها ، و ردود أفعالها و مواقفها من الوجود ، و في هذا الفيلم يتداخل الفني بالنفسي ، فنحن أمام فيلم فن بامتياز لكنه لا ينفك من سلطة مرجعه ( الفنان ) كقارىء للحدث ، و معبر عنه في ذات الوقت ، عبر وثيقة جمالية تفصح عن ما يعتمل في داخله ، ولهذا نجد إن كاميرا الفيلم بدت وكأنها ساردة تكتفي برصد الحدث ووصفه ، لكنه في الحقيقة كان يرسم عبر بنيانه التشكيلي للقطة ، وتحولاته المونتاجية البليغة ما بين الماضي و الحاضر ملامح الشخصيات ، و تسعى بكل طاقتها التعبيرية للإيحاء بما لا تقوى الشخصيات على قوله في مقابلاتها الشخصية ، عبر إقتصاد بليغ بالحركة ، وبهذا يضعنا الشكل الفيلمي أمام وحدات سردية لا تجمعها حبكة دراماتيكية بقدر ما يجمعها نسق فكري رافض ومتمرد ، فكل الشخصيات تحول المنفى لديها من إجباري إلى اختياري ، كل الشخصيات لم تعد متصالحة مع العراق المكان الأصل الذي تحول الى مجرد ذكرى بعيدة ، كل الشخصيات حاولت العودة إلى العراق لكنها تصطدم بنسق ثقافي يسوده العنف الذي شذبته الثقافة الأوروبية عبر سني تجربتهم الاجتماعية ، إلا إن هذا لا يمنع الشخوص من الإنهمام بالتعبير عن أزمة الإنسان العراقي المعاصر ففي إحدى الأعمال الفنية التي تتوغل الكاميرا برصد تفصيلاتها يجعل منها المونتاج إستعارة بليغة عند مقاربتها مونتاجياً بأمواج بحر تعبيراً عن المغامرة القاسية التي مر بها المهاجر العراقي في بحر أيجة ، والتي راح ضحيتها الكثير ، لنكون أمام تحول مونتاجي عبر بحدة عن الغضب المستتر في تفاصيل ذلك العمل ، وبهذا نكون أمام معالجات فنية إن دلت على شيء فإنها تدل على استيعاب عميق لسرية الأعمال الفنية ، و أنساقها السسيوثقافية المضمرة ، و استيعابه التام للشخصيات المحورية التي جعلنا ننظر لها بحنو كبير على اعتبارها منفية أبداً ، و بعضها ينتظر الموت كمداً في الغربة مترقباً ذكرى بعيدة هاربة في ظل تراجيديا الحاضر ، هكذا يضعنا مخرج الفيلم أمام ستراتيج تركيب زمني على رغم من صنعته الفنية إلا إنه يراهن على صدقه في عرض دراما الحياة التي يسعى قاسم عبد كصانع أفلام وثائقية إلى رصدها دون رتوش مسرحية ، حيث يتوسل بشفرات فن الفيلم للإمساك بدراما الحياة ، عبر ملاحقته للشخصيات و تصفحه لدواخلها عبر صوغ جمالي يكتسب شعريته الخاصة .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top