الرجلُ القديم في الزمن الحاضر : الحاجة والصفر الثقافي فيcast away

الرجلُ القديم في الزمن الحاضر : الحاجة والصفر الثقافي فيcast away

مهند الخيكاني

لعلَّ أجمل الأفلام ذات الأبعاد المعرفية في تحليل واستكشاف بعض جوانب "الطبيعة البشرية" الأساسية ، هو الفلم الأميركي cast away من بطولة الممثل القدير توم هانكس ، وإخراج روبرت زيميكر ، من إصدارات عام 2000 ، وتم ترشيح توم هانكس للحصول على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل .
تبدأ أحداث هذا الفيلم بعد تحطم الطائرة وسقوطها في جزيرة نائية وغير مأهولة ، حيث يكون " تشاك نولاند " الشخصية البطلة في الفيلم ، هو الناجي الوحيد ، فيبدأ رحلته بالتعرف إلى العالم من جديد والعالم المحيط به يقوم بذلك التعارف أيضاً ، لن نكون مخطئين إذا قلنا إنه يشبه الولادة . ذلك أن الدخول الى عالم جديد مبهم وضبابي يغوص في حدود لا نهائية من المجهول ، يستدعي مرحلة عمرية وفكرية من حياة الإنسان لن تتعدى مرحلة الطفولة .
وهذا ماحدث مع البطل بعد أن أدرك استحالة العودة الى عالمه الذي كان ينتمي إليه ، آخذاً بالانسجام والبحث والتكيف في العالم الجديد الغريب ، وكما قلنا كالطفل ، يعتاد تدريجياً على الحياة من أجل أملٍ هشٍ في يوم ما بالعودة .
أوّلُ الملامح التي نتعرف عليها بما يخص الجانب الإنساني ، من خلال الفيلم ، إن الإنسان لا يستطيع العيش وحيداً ، وإنه مجبولٌ على العيش في أطُر أجتماعية مع الآخرين ، ومن ذلك يخترعُ البطل شخصية " ويلسون " صديقه الوحيد خلال هذه الرحلة ، وحتى نتوخى الدقة أكثر ، كان صديقاً لإجراء المحادثات بمختلف مضامينها ، بمعنى أن الإنسان يحتاج أن يخاطب إنساناً آخر ، وإنه لن يقاوم أن يبقى وحيداً يتحدث مع نفسه فقط ، وإنه يبتكر مايحتاجه ، ودعونا نركز على " مايحتاجه " ، فهي في آخر الأمر المحرّك الرئيس والغريزي الذي دعا بطل هذا الفيلم لاتخاذ كرة طائرة سمّاها "ويلسون" أن تكونَ صديقاً . إذ لم يكن كافيا بالنسبة له أن تكون مجرد كرة يلهو بها وتؤدي دورها كما هو محدد لها ، بل أزاحها باتجاه ما يحقق له حاجته البشرية ،و حاجته لوجود مجتمع حوله . وهي فكرة منطقية الى حد ما ، حيث نرى حتى في قصة آدم وحواء ، إنهما نزلا معا الى الأرض ، بغض النظر عمن سبق من في إطار زمني دقيق ، لكنهما كانا هناك معاً ، ليس فقط من أجل التزواج والتكامل بل من أجل المؤانسة أيضا . من ذلك أيضاً أهمية الحديث الى الأشخاص تجيء من طريقة فرويد ، العلاج بالحديث ، ولو لم تكن هذه الصفة متجذرة في الانسان ، لما كان الحديث يخفف من حدة مشكلاته ، وهنا تكمن أهمية الحديث ، أهمية أن تثرثر عن معاناتك ومآسيك ، هذا غير أن المجتمعات البدائية التي كانت تعتاش على الصيد والإلتقاط ، كانت مضطرة الى التوحد والعيش كجماعات من أجل العيش والنجاة ، وليس فقط من باب الألفة والمؤانسة والحاجة البشرية الى الآخر ، الأمر الذي لا يختلف من عصر الى آخر إلا في شكل الحاجةِ ومضامينها الجانبية لا الأساسية تبعاً لتغييرات الحياة ومجرياتها ، وانعكاس بعضها على بعض .
الأمر الذي يعيدنا إلى بدايات هذا العالم ، بغض النظر عن حتوتة آدم وحواء ، سنلاحظ إن الإنسان في ذلك الوقت وفي بدايات تأسيس المجتمعات البدائية ، إنه كان ميالاً مثل ميول هذا الرجل الوحيد على الجزيرة ، مبتكراً وكان ابتكاره تلبيةً للحاجة التي تنادي بها أعماقه ، وقد يسأل أحدهم : إن البطل في هذه القصة جاء من مجتمعٍ غير الذي جاء منه الرجل الأول في بدايات تأسيس العالم ؟
وسنقول له : لا فرق ، فلو لم يتحرك الرجل الأول بنفس طريقةِ الرجل الذي في هذه القصة ، لما وصل مجتمعه الذي جاء منه الى ما هو عليه !
ثم إن هناك مشتَركات بين النظرية السماوية / هبوط آدم وحواء ، وبين النظريات الأخرى في تكوّن الحياة بشكل عام وليس الانسان فحسب ، أهمّها أنهما عندما هبطا الى الأرض ، هبطا في مكان يحتاج الى تأسيس من الصفر إجتماعيا وثقافيا وبشريا ، والانسان الأول في بقية النظريات ، هو أيضاً إنسان بدأ من مرحلة الصفر نفسها ، وعلى الرغم من أن آدم وحواء هبطا من السماء ، إلا أن أولادهما هابيل و قابيل ، مثّلا طبيعة الصراع البشري الازلي بأقصى تجلياته ، وهو ما لايختلف عن الاحداث في بقية النظريات .
و بغض النظر عن صحة هذه النظرية أو تلك ، نحن نقف على ملامح بشرية مشتركة تحددها السماء والأرض مجتمعتين ، قائمة على الصراع والبحث عن الغذاء ، وفي النتيجة تحقيقا للنجاة ، بدءا من مجتمعات الجمع والالتقاط وليس انتهاءً بمجتمعات الزراعة في ذلك الوقت ، قائمة على هذا الصفر المشترك . و هناك جانب تاريخي آخر ترتبط فيه بعض جوانب هذه الشخصية وعلاقتها بالكون والبيئة ، مع شخصيات كارتونية شهيرة عرفناها في الحقب الماضية ، وسُلطت عليها الأضواء لآماد طويلة ، مثل شخصية ماوكلي / فتى الادغال ، وطرزان ، وهما مقتبستانِ بإتفاق الآراء من قصة حي بن يقظان الشهيرة التي كتبها فلاسفة عديدون مثل ابن سينا ، والسهروردي ، وابن النفيس ، والتصقت ب ابن طفيل .
وبذلك أننا نستطيع دراسة الماضي والتعرف على " الطبيعة البشرية " أكثر على الرغم من كون هذا المفهوم فضفاضًا ، بحسب رأي معظم علماء الأنثروبولوجيا من جهة وعلماء الوراثة من جهة أخرى ، إلا أن هناك ملامح يمكن من خلالها فهم الإنسان القديم وطريقة تفكيره ، وبعض سلوكياته عبر تجارب حديثة مثل هذا الفلم . أو عبر دراسة الأطفال في الوقت الحاضر ، فالطفل هو نفسه بالأمس وهو نفسه اليوم ، ومن خلال مراقبة عينية للطفل ، سنرى أن هناك سلوكيات مجبول عليها الإنسان ، مثل الحاجة الى النطق ، وهو ما نسميه لدى الطفل " المناغاة " أو " يناغي " ، أو البكاء عند الشعور بالجوع ، أو " اللجّة " وعدم الاستقرار ، عندما يضايقه شيء ما في جسده ، والحاجة الى النطق هنا تستدعي الحاجة الى اللغة من جانب كنتيجة متوقعة يجب أن يصل إليها الكائن البشري خلال مراحل حياته ، ومن جانب آخر نزوعه لتحقيق حاجاته عبر المخاطبة والتنبيه والإشارة بصيغ مختلفة .
إن البشري في ذلك الوقت مهما كان عمره ، فهو يساوي هذا الطفل المولود حديثًا الآن ، كون كل منهما الطفل والإنسان المولود حديثاً ، في المنطقة صفر ثقافياً و إجتماعياً وبلا خبرات . بمعنى آخر ، أن أكثر الاستجابات ستكون استجابات محددة ضمن إطار الحاجة والنجاة . وصحيح إن حاجة الإنسان تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى ، إلا أن الحاجات الأساسية اللازمة للنجاة ستظل ملازمةً للكائن الحي طوال حياته ولا تميّزُ مرحلةً عمريةً معينة عن الأخرى .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top