المثير في الشعر الخطابي و سر الشعر

المثير في الشعر الخطابي و سر الشعر

ياسين طه حافظ

أولاً علينا احترام الظاهرة لأنها تلبي مطلباً آنياً من الناس الحاضرين وأنها، إن ارتقت، تحقق انجازاً. وعبارة "إن ارتقت" الاعتراضية شرطٌ صعب دائماً توافره إلا بنسبة ما، لكن غالباً لا يُستوفى شرط الفن هذا.

ثانياً، المسألة ليست جديدة. لأنها ذات صلة أولى بحاجة من يستمع. هي تفعل ما لا يستطيع هو فعلهُ وأنها تتحدث عما هو يريد الحديث أو الكلام، بامتياز عنه.
هذا الكلام يعود بي الى شعراء وخطباء الجوامع والى، من بعد، الى شعراء المناسبات الوطنية و "اللاوطنية" .. ويمكن القول إن قصائد المديح أو الغزل أو الطرافة كانت تثير وتسترضي صاحب الشأن وحفنة من بطانته. والقصائد ذات الشأن الاجتماعي أو السياسي تثير حشداً إما مستاءً أو محتفياً وأما خليطاً فيه المشاعر المعلنة والخفية التي لم تعلن. وقد عرفنا بعضاً من ذلك وامتداد هذا ، عراقياً، الى القرن التاسع عشر..
وإذا أردت متابعة الجذور فسنكون في زمن الاغريق والرومان. وهكذا استمر التقليد او استمرت الحاجة. وهنا نجد سنداً عند اوراس في فن الشعر وهو ينصح بأن لا نكثر في الخطابة من الاستعارة ولا نكثر في الشعر من النثر. تُضعف تلك ويضعف هذا. وحين يقول النثر يعني الكلام العادي والسرد لا شعر فيه.
ومن ملاحظة الأمثلة، قديمها وجديدها، نرى أن حشود المستمعين تعنيهم احتياجاتهم وهمومهم ومتابعتها فيما يسمعون. طبعاً من هذه الاحتياجات، تلك ناعمة خفية لحد ما، الاحتياجات العاطفية والمشاعر الخبيئة صعب الإعلان أو التعبير عنها ومن هذه، الأكثر وضوحاً ، متاعب العيش وانظمة الحكم.
هنا يمكننا أن نؤكد موضوعين دائمين لشعر المنبر أو القاعة أو المناسبة، هما: الهم السياسي العام والاجتماعي الخاص أو الشخصي. واذا كان الأول يعني الاستياء من أنظمة الحكم والحاكمين وأوضاع البلدان، فهذه تمس الاحتياجات الروحية والعاطفية وعذابات الكبت أو الهجر أو الفقد أو الحرمان. لكن يندر الّا يختلط هذا بذاك فالقصيدة تثير أكثر ويتسع مدى المستمعين لها، مستويات واعماراً.
ومما أذكره، أن جل قصائد الشعراء الخطابيين، الذين يصفونهم، جماهيرياً لا نخبوياً، بـ "الكبار، كبرهم جاء من هذين الموضوعين. هم يعبرون عن استياءات سياسية واحتياجات اجتماعية وكثيراً ما غطت طبيعة الموضوع ومضمونها السياسي الاجتماعي على المستوى الفني. فهي قصائد، في التحليل النقدي الحديث، مرتبكة أو مخلخلة فنياً وتجميع انتباهات أو إشارات تربطها القاعة لا موضوع القصيدة. لا أحد من شعرائنا يستطيع القول، من دون أن يكذب بأن قصيدته السياسية الاجتماعية التي القاها هي أفضل قصائده أو أفضل شعره وإنها الأفضل فناً. بل هم يختارون للإلقاء قصائد يريدها سواهم، تريدها القاعة أو المنبر أو المناسبة ويحشرون احياناً سطوراً أو أبياتاً قصد الإثارة ، إثارة لا ناس الشعر أو ناس الفن ولكن الناس المستمعين وهم خليط غير متجانس نحترمهم اجتماعياً ونحترم اهتمامهم بالقضايا المثارة ولكننا لا نعتمدهم إدراكاً وتقويماً نقدياً. لهؤلاء الناس احتياجاتهم واستياءاتهم، و أولاء الشعراء متفضلين عبروا عنها وكانوا سبيل راحة لهم. وهذا عمل اجتماعي يحتاج اليه الناس وما إنفكت بحاجة اليه.
بقيت مسألة، أنا حقاً في حيرة منها . ولأني لست باحثاً ولا ناقداً متفرغاً فليس لي إلا إثارتها. تلك هي هذا السرد النثري للأحداث في القصائد. هل نعتمده شعرياً؟ وكيف لا نعتمده ولنا أعمال شعرية مهمة هي سرد نثري عادي لا يميزها عن المقالة غير كتابتها بسطور متفاوتة الطول؟
لسنا وحدنا، لدى أفضل الشعراء في العالم مثل هذا. نثر لا علاقة له بالشعر. جملٌ خبرية وطلبية كما يقول النحاة. أين الشعر في قصيدة ازراباوند، اكبر الحداثيين الصوريين وأمهرهم، أقول أين الشعر في قصيدته "سلام زحل" Pax Saturni
.......
قولوا ليس هناك مظالم،
قولوا حان وقت السلم
قولوا أن العمل متعة
قولوا ليس هناك مظالم
تكلموا عن الفضائل الامريكية ولن تعدموا جزاءً .
قولوا إني خائن ومتشائم
قولوا إن الجهلة الأدعياء يسدون للفن
خدمات جليلة ولن تعدموا جزاءً .
قولوا إن هذا زمن السلم
امتدحوا العواهر الهاويات
امتدحوا القوادين المقنعين
امتدحوا مشغِّلي النساء
امتدحوا الرجال المتحكمين
امتدحوا الوعاظ المحبوبين، لن تعدموا جزاءً
..........................
هكذا تكون قد أحببت أخوتك البشر
يا أيها الكذاب الشهم ، ولن تعدم جزاءً.
نجد مثل هذا، كثيراً منه، عند العديد من الشعراء العرب المعروفين، عند نزار قباني مثلاً ومحمود درويش وغالب شعراء القاعات والمنابر فواحدهم يثير الناس ويرضيهم. فأين سر الشعر في نظمه ؟ في صوتيته ؟ في الاتصال بالجو الروحي للناس المستمعين هل هي المشاركة الانسانية ام ان في الشعر ما لا ندركه ؟ ولماذا المستمع يستجيب أكثر من القارئ؟ نعم أحياناً خاتمة القصيدة في بيت أو اثنين تفتح أفقاً، قفزة، تغير كل شيء وتجعل من النثر العادي الذي قرأناه طريقاً لأفق آخر، وهذا ما تفعله المهارات يوجهها الفكر.. لكننا ما نزال نبحث عن السر؟
قبل أيام قرأت "ملحمة الاسكندرية" وهي ملحمة طويلة. لا اعتراض على ترجمتها. واذا كانت الترجمة نثراً فلا يخفى إنها كانت نظماً. لكني كنت اقرؤها كما اقرأ تاريخاً وأخباراً. كيف اذاً نالت مكانتها الشعرية ؟ هل الخلل في أحكامنا أم ثمة سر في الشعر ؟ يبدو أن الشعر يعمل خارج الكتابة والنص، أم أن للمسألة تسويغ آخر؟ شخصياً أترك السؤال ليجيب عنه سواي ...

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top