مظهر أحمد وملصقاته للزمن الصعب

مظهر أحمد وملصقاته للزمن الصعب

علي النجار

لم يكن صناع الإعلان في بوادر ظهور علاماته الأولى في أوروبا نهاية القرن الثامن عشر معروفين. كما لم تكن مجالات اشتغالاته كما هي الآن على اتساع رقعتها واختلاف أهدافها ومقدرة وسائلها التقنية وشبكة اتصالاتها. بل كانت مجرد تنفيذ لرسوم مبسطة تروج للأحداث الوطنية والمحلية. ثم لتتوسع اشتغالاته في القرن التاسع بعد أن دخلت الطباعة الحجرية حوالي(1870) كعامل مهم لطبع الكثير من أعمال الفنانين المشهورين الإعلانية. وما فعلته(الآرت ديكو) في هذا المجال ليس بيسير. وكانت لجميع الدول الأوروبية اهتماماتها الخاصة. التي شكلتها مجموعات أو أفراد معينين اشتغلوا على إخراجه فنيا، وهذا ما فعلته مدرسة(غلاسكو للفنون) الاسكتلندية. أو(وليام برادلي) لوكالة شيكاغو للإعلانات وغيرها. كما مساهمة العديد من الفنانين الفرنسيين وبعضهم من المشهورين في هذا المجال مثل تولوز لوترك وملصقاته للرولان روج المعروفة. في بداية القرن العشرين برزت للوجود ملصقات متأثرة بحركات الفن الحديث، سواء منها ما مخصص للصحف أو كطبعات مستقلة أو على شكل لوحات جدارية على المباني. بما يعني أن هناك فنانين تخصصوا بصنع(تصاميم الملصقات)، بالرغم من عدم معرفتنا بأسماء العديد منهم. كما لا ننسى أهمية الملصقات الصينية واليابانية الطباعية في هذا المجال وتأثيراته التي عبرت القارة.
في العراق، أعتقد لم يكن للفنانين الرواد من دور يذكر في صناعة الملصق. ما عدى تنفيذ بعض من ملصقات(فيشات) الأفلام لدور السينما مبكراً من قبل فائق حسن. وبوستر فيلم نبوخذ نصر لسعد الطائي. ثم للمعرض الدولي التجاري قبل نهاية الخمسينيات ومن ثمة استمر تنفيذ ملصقاته لدورات هذا المعرض اللاحقة، من قبل فهمي القيسي. في الجمهورية الأولى أخذ دوره في المجال السياسي والتجاري أيضاً بشكل محدود واستمرت وظيفته لاحقاً كما هي، وكانت تطرح من قبل مؤسسات الدولة على شكل مسابقة وكانت المعارض التشكيلية العربية المقامة في بغداد بداية السبعينيات نصيب من عروض الملصق المواكبة لعنوانها. لكن كان للملصق بينالي في بغداد بمناسبة ضرب المفاعل النووي العراقي من قبل الطائرات الإسرائيلية في عام(1981). وكانت بعض من هذه الملصقات المشاركة منفذة بمقدرة فنية واضحة لبعض من فنانينا الستينيين تقترب من منطقة الملصق العالمي الحديث. من هؤلاء الفنانين محمد مهر الدين ورافع الناصري وعلاء بشير وهاشم سمرجي وغيرهم. وان رجعنا لخلفية الفنانين (مهر الدين والناصري) لأتضح لنا مدى اهتماماتهم الدراسية بالتصميم والخط والطباعة والكرافيك. وهي عناصر أدائية وافية وقتها.
أعتقد أنه لم يزدهر سوق فن الملصق بالعراق بشكل كاف، رغم الظروف المناسبة اجتماعيا لبروزه وحتى سياسياً. لكون تاريخنا الحاضر لا يتعدى كوارث الحرب والحصار والاحتلال وما بعده من دمار للبيئة والانسان. ربما لعدم وجود المؤسسة الفنية، ولانفلات الأمن وهجرة معظم الفنانين خارج البلد. بل حتى القضاء على مرجعية البنية الفنية التشكيلية المتحفية. لكن يبدو أن ثمة أمل في استعادة عافية التشكيل العراقي وبضمنه الملصق الفني، وبكونه يحمل همّ الوطن ويشير ويفسر ويدين كوارثه المتلاحقة. ومن أبرز هؤلاء الفنانين المشتغلين في هذا المجال، الفنان التشكيلي المغترب(مظهر أحمد).
تعرفت على مظهر قبل أعوام من خلال إدارته لورشة كرافيك مدينة فالون السويدية التي اشتغل فيها لأعوام عديد واكتشافه لبعض الممارسات الأدائية التي اعتبرها صديقة للبيئة. خلال هذه الأعوام ومع تنظيمه للعديد من بينالات وترينالات الكرافيك والبوستر، استطاع أن يطور أدواته الكرافيكية التقنية ومنها الفتوغرافية وبرامجها الرقمية المستعملة في عمله. لتكتمل عدّته المهنية التي بدأها أثناء دراسته الكرافيك في نهاية السبعينيات في بولونيا. بل ولينافس صناع الكرافيك والبوستر البولوني نفسه، مستفيداً ومطوراً درس أستاذه( هنريك توماشسكي). وأعتقده نجح في مسعاه لتحقيق مستوى أدائي يؤهله للخوض في تجارب أدائية تفي فكرته حقها.
في هذا المجال ومنذ عام( 2010) ما يزال مظهر يواصل مشروع قراءة شاملة للوضع العراقي الملتبس مستعيناً بأدواته الفنية التقنية لإنتاج ملصقات تعبر باختزال عن حوادثه المتتالية. من أجل التنبيه والاستيقاظ والتحذير لما حدث ويحدث. هو الذي أدرك أهمية الملصق الفنية والأرشيفية وقدرته على إيصال المعلومة. سرداً مضمراً يثير التوقف والانتباه بما يبثه من إشارات سردية للحدث سواء كان سوياً أو مأساوياً أو تذكارياً أو عاطفياً. لقطات إشارية جمع تفاصيلها من مساحة الحدث، سواء كانت أدوات مادية أو لغوية أو صور شخصية أو علامات أو إشارات متداولة سياسياً وثقافياً وإعلامياً. ولم يتوانَ عن استغلال مجال التواصل الميديوي لبثها بالتتابع بموازاة تواريخ أحدثاها الآنية المنوه عنها.
لم يكن جهد مظهر عبثاً وهو الذي يعمل لوحده من خارج أية مؤسسة. بما أنه مدرك لأهمية وظيفة الملصق الحديث(وكما الدرس البليغ لمتحف البوستر البولوني) لأرشفة وتفسير والإشارة الى الحدث والحادثة. وأنا هنا استرجع زيارتي لمتحف فورد في مدينة مشكن. هذه المؤسسة الضخمة التي ضمت عينات كل منتجات الشركة الصناعية من أصغرها حتى أضخمها كالقاطرات وماكينات الزراعة الضخمة وغيرها. لكن المتحف هذا لم يغفل دور الملصق الأمريكي سواء كان سياسياً أو صناعياً. ليخصص لها جناحا وأفاريز كثيرة. هي إذن مقتنيات متحفية. كما في عروض فنية في متاحف وقاعات فن معاصرة. وهذا اعتراف بقيمة الملصق(البوستر) الفنية التي تضاهي بقية المنتجات الفنية التشكيلية في العرض والتداول.
يردد مظهر قول استاذه عن طريقة إنتاج الملصق(أنت بحاجة الى مقص وقلم وورقة). وبالتأكيد الى برامج رقمية في وقتنا هذا. لكني أعتقد أنه بدون المهارة والثقافة المدركة لغرض صناعة اللقطة الفاعلة(كما في كادر اللقطة السينمائية التي هي الأخرى أرشيفية زمنية) التي غالباً ما تعوم في فضاءات سطح الورقة البيضاء، أو حتى السوداء. ومظهر خير من يستغل مساحة فضاءات أعماله سواء كانت عملاً كرافيكياً أو ملصق. درس الفراغ أو الفضاء الذي اتقنه مظهر، هو الذي يضفي على أعماله سمة الفضول لملاحظة وقراءة مفرداتها الواضحة التي تأخذ حيزا كافيا، غالبا ما يفصلها عن خلفيتها. مما يتيح مجال لقراءة دلالتها بتمعن، أو لكشف شفرتها مباشرة. والمباشرة مطلوبة في صناعة البوستر، لكنها بالـتأكيد مباشرة ذكية مبنية على حسابات في توزيع المفردات الدالة التي غالباً ما تكون متداولة ومعروفة ولها علاقة مباشرة بزمن وفعل الحدث المراد التعبير عنه. هو إذن لا يسعي لأرباك المتلقي بتفاصيل زائدة أو مشوشة لمجرد إظهار المهارة، بل لايصال رسالتها بالشكل المناسب والواضح.
لنعاين بعض من ملصقاته الأخيرة:
لم تعد المطبعة اليوم لوحدها من يوصل شفرة الملصق للمتلقي، فالميديا بوسائلها الناقلة الخارقة السرعة أحياناً ما تعوض عن ذلك. ومظهر وهو يصنع ملصقاته لم يكن يدور في خلده كما أعتقد سوى أن تصل رسالته بوقتها، لذلك هو أعتمد وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة ناقلة لها. ربما على أمل أن يكتمل مشروعه ليبدأ مرحلته الثانية: انتاجه ورقياً. وهكذا استطعنا أو استطاع متابعوه من ملاحقة إصداراته المواكبة لحوادثها. رغم كونه لم يقتصر عن التعبير عن قضايا وطنه الأمّ(العراق) فقط، بل تعداها أحياناً الى البلدان المجاورة التي تعرضت لما تعرضنا له. أو تعرض شخوصها دعاة الديمقراطية للتصفية الجسدية.
في ملصقه عن حرية الكلمة في العراق، يحول قلم الكتابة الى رصاصة مهيمنة بميلان على مساحة الملصق مع كتابة بخط صغير وبالانكليزية(عصابات العراق). في هذا الملصق وكعادته في التقشف في استخدام المفردات المركبة على غير ما تعودنا عليه في الملصقات العراقية. فالمغزى واضح وبمفردة واحدة متقشفة ومهيمنة. كذلك اللعب على نحت الكلمات لاظهار المعنى. وهذا ما يجيده مظهر في بقية ملصقاته.
في ملصقين آخرين يستعمل مظهر خارطة العراق ليعبر عن قضيتين مختلفتين، الأولى خطر التلوث النووي. حيث أدرج الخارطة في الأعلى كجسم الجريمة، في الأسفل شريط تحديد منطقة الجريمة وعلامة التحذير الصارخة(خطر ممنوع ابق بعيداً.. المظاهرات مستمرة). الملصق الثاني عبارة عن قمع يدخل قمة الخارطة ليستقبل قطرة البترول التي تتحول الى قطرة دم في الأسفل. وعبارة مخاطر الأحزاب الدينية والمظاهرات مستمرة. والمظاهرات مستمرة عنوان لأكثر من ملصق نفذه. ولا أعتقد إننا بحاجة الى شرح مضمونها. ما دام النص المكتوب والرسمة توضحهما خير توضيح.
مظهر أيضاً يوظف الصورة الفوتوغرافية لرموز أدبية واجتماعية معروفة كالشاعر مظفر النواب الذي قارنه بقلم العراق الذي يذيل ملصقه. أو عمو بابا في توريته اللغوية(عمو الوطن بابا). وهكذا يستمر في تفكيكه للخطاب الاحتجاجي وإعادة صياغته صورة ونصاً مناسباً لأغراضه.
أود أن أختم مقالتي هذه بفنتازيا تراودني. ماذا لو اسقطنا كل مفردات ملصقاته التي تتكاثر من على سطح فضاءاتها، بالتأكيد سوف يكون لدينا كم من الأدوات والآلات والرموز والإشارات والنصوص التي ألفها أو اقتبسها من الصحف ولغة الشارع الاحتجاجية. لنجمعها في حاوية واحدة تستوعبها. سوف تكون بالتأكيد حاوية أكبر مما نتصور. وحيث عصي البوليس الصاعقة والأسلحة الثقيلة والطائرات وحبال المشانق والأقفاص والطيور والحيوانات والأدوات البسيطة ورموز الميديا والبث والأزرار غير ذلك. لقد عثر مظهر أحمد على كنزه. وما عليه الا أن يمد بصره ليلتقط ما باستطاعته توظيفه، ليس من أجل اللعب حسب، رغم كونه لاعباً فنياً ماهراً. بل من أجل ألا ينسى أنه ابن هذا الوطن الذي غادره منذ عدة عقود. لا ينسى إنسانه الذي تعرض الى هذا الكم الخرافي من الاضطهاد والخراب الجسدي والنفسي والاجتماعي وسلب حريته بحجة المظلومية. لقد صنع مظهر درس الملصق البليغ، وما علينا سوى إيصال رسالته الى أبعد حدها.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top