منطقة محررة: غيرنيكا أكثر من لوحة

نجم والي 2018/11/20 07:03:35 م

منطقة محررة: غيرنيكا أكثر من لوحة

 نجم والي

القصف الجوي المركز الذي نفذته الفرقة المقاتلة الألمانية "كوندور" في 26 نيسان 1937 على المدينة الإسبانية الصغيرة الواقعة في إقليم الباسك، غيرنيكا، لم يكن في حينه الأول من نوعه. وإذا كان قصف المدينة غير المعروفة حتى تلك اللحظة، قد أثار المشاعر والإحتجاجات عن الرأي العالم في العالم، فإن الأمر له علاقة بتواجد صحفيين عالميين في اليوم الربيعي ذلك بالصدفة قريباً من المكان. الصحيفة المعروفة "إيفينيغ نيوس"، أخبار المساء، جعلت خبر قصف المدينة يتصدر صفحتها الأولى في اليوم التالي: "الهجوم الأكثر رعباً لكل الأزمان".
حتى إندلاع الحرب الأهلية الإسبانية لم يعرف فن بابلو بيكاسو أية أبعاد سياسية. لكن ما حدث في جيرنيكا جعل فنه يتغير بين ليلة وضحاها، وما ساعد على ذلك، هو أن بيكاسو كان قد تسلم قبل الحادث، في أوائل كانون الثاني 1937 دعوة من الجمهورية الإسبانية بإنجاز عمل فني خاص للجناح الذي سيمثل الجمهورية الأسبانية في المعرض العالمي للفنون في باريس، والذي كان على أبواب الإفتتاح قريباً. حتى نيسان من ذلك العام لم يكن بيكاسو قد أنجز شيئاً للمناسبة، خصوصاً وإنه كان يعيش في تلك الفترة قصة حب مع "دورا مارس". لكن إنتشار خبر قصف جيرنيكا في باريس، أثار عنده الحماس، لأن يرسم لوحة لها علاقة بالحدث، لدرجة إنه احتاج ستة أسابيع فقط لكي ينجز اللوحة الكبيرة التي تجاوز حجمها 30 متراً مربعاً، والتي إختارها المؤرخ الفني جيجس فان هينزبيرغين لتكون موضوع كتابه "سيرة لوحة"، والذي صدرت ترجمته الألمانية قبل أيام والذي قدم له بكلمات لبيكاسو: "نحن الفنانين لا يمكن أن نجدب"، قال بيكاسو عام 1949، "حتى لو كنت في سجن، أو في معسكر إعتقال، فأنني سأتحكم في عالمي الفني، حتى إذا إضطررت أن أرسم لوحاتي بلساني الرطب على أرض الزنزانة". رجل مثل بيكاسو لابد أن يصدق المرء كلماته. الرسالة السياسية التي حوّت عليها لوحته فهمها جيداً الصديق والعدو، فهي كانت بمثابة النذيرالذي أوصله بيكاسو للعالم، والذي يشير أن ما حصل في جيرنيكا هو "مجزرة لا أبالية!".
في إسبانيا فرانكو لم يجنِ بيكاسو على لوحته غير التشويه والقذف. على عكس ما حصل عليه من تكريم وإعجاب في بقية العالم. في أوائل عام 1939 راحت "غيرنيكا" تطوف من مكان إلى آخر. بعد عرضها في باريس إنتقلت للعرض في بريطانيا، وعلى هامش المعرض الذي خُصص لها، جُمعت التبرعات لمساندة الجمهورية الإسبانية. الموسورون تبرعوا بسخاء، فيما تبرع الفقراء على طريقتهم. وكان يمكن رؤية أزواج عديدة من البساطيل إصطفت على الأرض أمام اللوحة، أنها البساطيل التي تبرع بها أولئك الذين لم يكن في قدرتهم التبرع بالمال. ومن لم يكن في مقدوره دفع تذكرة دخول للمتحف، إستطاع تعويض ذلك عن طريق التبرع بالبساطيل المستعملة، التي يمكن أن يلبسها الجنود على جبهات الحرب. في النهاية رحلت "غيرنيكا" إلى الولايات المتحدة الأميركية.
من المعروف أن بيكاسو كان قد أوصى وهو على قيد الحياة، بأن إنتقال غيرنيكا للعرض في اسبانيا هو رهن بتحول إسبانيا الملكية آنذاك إلى جمهورية. وهذا ما جعل اللوحة تظل لعقود طويلة في المنفى، في نيويورك أولاً، بعيداً عن وطن مبدعها. خلال الحقبة المكارثية المعروفة بظلاميتها في الولايات المتحدة الأميركية ناصب العالم "الحر" بيكاسو العداء أيضاً. في ذلك الحين أصبح الفنان المقيم في منفاه في باريس فجأة "مخرباً"، لدرجة أن الشرطة الفيدرالية الأميركية جمعت ملفاً ضخماً عن نشاطاته وحياته، بل لم تتردد من منحه لقب "عميل روسي"، خصوصاً بعد رسمه حمامة السلام المشهورة، لأن الحمامة كانت بالنسبة لهم رمزاً شيوعياً روسياً لاغير رسمها بأمر من الروس! لم تعرف شرطة مكارثي اليمينية الحماقة التي ارتكبتها، فحسب فان هينزبيرغين، أن بيكاسو إتخذ في الحقيقة من موديل حمامة من مدينة ميلانو الإيطالية.
ومن الطرائف التي يرويها فان هينزبيرغين عن بيكاسو، أنه في يوم عيد ميلاده التسعين، في 25 تشرين الأول 1971، ومن أجل الاحتفاء به، بنى صاحب الحانة المحببة لبيكاسو في أيام شبابه المبكرة التي عاشها في برشلونة، منضدة خاصة قال أنها تليق ببيكاسو: عند نهاية الطاولة وضع بورتريه لبيكاسو منسوخ عن لوحة للرسام رامون كاساس، فيما وضع إلى جانبه باقة ورد، أمامها قطعة خبز وجرة نبيذ. للأسف لم يأت الضيف الذي توقع صاحب الحانة زيارته، لكن الشرطة أيضاً لم تأت، كما كانت العادة سابقاً.
لم يصل بيكاسو أسبانيا أبداً، بدلاً منه وصلت غيرنيكا بعد سنوات.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top