قناديل: القوى الرمزية الخلاّقة

لطفية الدليمي 2018/11/24 07:15:06 م

قناديل: القوى الرمزية الخلاّقة

 لطفية الدليمي

في التفاتة مثيرة لكنها ليست غريبة على المشتغلين بموازين القوة الستراتيجية التي تُقاس بها مواقع الأمم على الخارطة العالمية، يشير البروفسور( ألفرد ماكوي ) في كتاب له صدر عام 2017 بعنوان " ظلال القرن الأميركي: صعود وانكفاء القوة الأميركية العالمية "، إلى جملة من العوامل التي جعلت الدور الستراتيجي الأميركي ينكفئ بالمقارنة مع ما كان عليه الحال قبل عقود خلت، ويرى الكتاب أنّ عام 2025 سيكون نقطة مفصلية غير قابلة للانعكاس في الانكفاء الأميركي.
من المثير حقاً أن يفرد المؤلّف مساحة معتبرة لعامل يراه مؤثراً في انكفاء القوة الستراتيجية الأميركية؛ فهو يرى أنّ الأميركان تراجعوا كثيراً في مسابقات الأولمبياد الخاصة بالرياضيات التي تسيّدها في العقد الأخير طلبة من سنغافورة وكوريا والهند ومنطقة جنوبي شرقي آسيا بصفة عامة، وثمة اعتقاد راسخ بأنّ هؤلاء الطلبة اللامعين هم من سيقودون ماكنة التطوّر العلمي والتقني في حقبة الثورة الصناعية الرابعة التي ستشهد صعود تقنيات ثورية تتمحور على تطبيقات مذهلة في حقل الروبوتات المعززة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي العميق. نعم لقد أدرك البروفيسور (الفرد ماكوي ) أن الرياضيات قوة ستراتيجية أساسية في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي بدأت ملامحها بالظهور في أفق كوكبنا .
كانت عناصر القوة الستراتيجية للإمبراطوريات الآفلة في عصور الثورات الصناعية السابقة تنشأ من امتلاك كينونات مادية يمكن وصفها بأنها “صلبة”، ومن هذه الكينونات الصلبة: إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية -وبخاصة محاصيل الحبوب- بكميات تؤهلها للتحكم في سوق الحبوب العالمية، امتلاك وسائل الإنتاج الصناعي المادي – المدني والعسكري – واسع النطاق، تطوير منظومات تعليم راقية ومتعددة المخرجات..
الارتقاء بتعليم الرياضيات يعني الموازنة بين المهارات الاحتسابية من جهة وقدرات التفكّر الرياضياتي الفلسفي فهناك سمة جوهرية في مسيرة التطور الإنساني تتجلى في ارتقاء شأن القيمة الاستراتيجية لمنظومة التفكير الرمزي التي توصف بِـ "الرأسماليات الرمزية"، وقد واصلت هذه المنظومة الرمزية الارتقاء في كلّ ثورة صناعية حتى تفوقت في أهميتها على منظومات القوة الستراتيجية الصلبة، ويمكننا ملاحظة بعض آثار هذا التفوق الهائل في الثورة الصناعية الثالثة التي نحياها اليوم (وهي الثورة المعلوماتية) حيث غدت منظومات "السوفتوير" عماد هذه الثورة في كلّ جوانبها، وسوف يستمرّ ارتقاء المنظومات الرمزية في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي ستشهد تراجعا شاملا في كلّ أشكال الستراتيجية الصلبة.
ينشأ دور الرياضيات في هذه اللعبة الستراتيجية من كونها الكنز العبقري الذي يمثل جوهرة الرأسمال الرمزي في التجربة البشرية، وليس غريباً أن نرى مدرسة مميزة للفكر الرياضياتي في كلّ البلدان التي تمثّل اليوم مراكز للقوى الستراتيجية العالمية : روسيا، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، أميركا، الصين، الهند.. وكان لكلّ من هذه المدارس علماؤها الأفذاذ الذين رسموا معالم الثورة الرياضياتية في جميع جوانبها المشرقة.
لا بدّ أن نثبّت هنا حقيقة واضحة : إنّ التأكيد على الارتقاء بتعليم الرياضيات لا يعني أبداً إثقال كاهل الطلبة بالمزيد من الأعباء الروتينية في حقول الرياضيات التقليدية (تفاضل وتكامل، جبر، هندسة، معادلات تفاضلية..) بل يعني الموازنة بين المهارات الاحتسابية من جهة وقدرات التفكّر الرياضياتي الفلسفي على الصعيد الرمزي من جهة أخرى وبما يتيح للطلبة تذوّق متعة الرياضيات وقدرتها الهائلة التي يمكن توظيفها في حقول كثيرة مثل حقل النظم الدينامية العشوائية الذي سيشهد تطبيقات ثورية غير مسبوقة في السنوات القادمة. ولايمكن بلوغ ذلك إلا بتأسيس مدارس مميزة للفكر الرياضياتي لبلوغ ثورات القرن الحادي والعشرين العلمية أسوة بدول العالم ذات القوى الستراتيجية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top