الثقافة للتغيير لا التبرير...

آراء وأفكار 2018/12/08 06:22:48 م

الثقافة للتغيير لا التبرير...

 د. لاهاي عبد الحسين

في جانب من الحقيقة تكمن كل إحباطات المجتمع الإنساني من تمييز وعنف وتفرقة وتخلف، إلخ، فيما يبرقع بنيته الاجتماعية من قيم وأفكار ومعايير يطلق عليها مجتمعة مفردة "ثقافة". وهذه تعمل على بلورة مواقف وآراء تبرر هذه الإحباطات وتشجع عليها بإسم التفسير والتجرد. تتردد تعبيرات من قبيل "ثقافة الفساد"، "أصبحت ثقافة"، وأنّها "ثقافة مجتمع"، يسعى مستخدموها لتفسير كل المشاكل والعقبات من خلالها. وهذه تعبيرات لا تخلو من صحة من حيث أنّ الثقافة تعني بالأساس منظومة من القيم والأفكار والمعايير السائدة التي تبرر لموضوع أو قضية أو موقف معين.

بيد أنّ المشكلة في هذه التعبيرات اكتفاؤها بالوجه الأول للحقيقة وهو الوجه الذي يبرر ويشرعن ما هو سائد ومألوف ويتغاضى عما يحتقن ويغلي خلف الستار مما تقاوم إرادته في الظهور ويقلل من شأن قوة تأثيره. ويمثل هذا الأخير الوجه الثاني للحقيقة بسبب ارتباطه بإرادة التغيير وعدم القبول. أليس للرافضين والمحتجين والمتذمرين منظومة قيمية يتشحون بها من حيث أنّهم يشعرون كمواطنين بأنّ لهم الحق في أنْ يعاملوا بإحترام وكرامة. وأنّ على الإحترام والكرامة أنْ يتجسدا بصيغة حزمة قوانين وأنظمة عمل تحقق المساواة فيما بينهم وتمكنهم من الحصول على ما يتأهلون له من أسباب العيش الرغيد والآمن وأنْ لا منّة لأحد كائن من يكون عليهم. أليس من حقهم أنْ يتساءلوا عن أسباب الفشل على مستوى الأداء الحكومي الذي صار علامة بارزة في مجتمع تحدق فيه المخاطر والأطماع ويستشري فيه الفساد حد التضحية بأبسط حقوق المواطنة من ماء وكهرباء وسكن وصحة وتعليم. وهذا السيد عادل عبد المهدي رئيس مجلس رئاسة الوزراء يبرر خلو وزارات مهمة ممن يتولى أمرها بالإستشهاد بما درج عليه سابقوه بالإدارة بالوكالة أو يعلن عن تأسيس "مجلس أعلى لمكافحة الفساد"، يشتمل على جانبين تنفيذي وتحقيقي بدلاً من تفعيل وتمكين المؤسسات القائمة وفي مقدمتها القضاء والرقابة المالية والعمل على وقف هذه النزعة غير المثمرة لمزيد من التضخم البيروقراطي. وكما جاء على لسانه في المؤتمر الصحافي الأخير الذي عقده في أعقاب فشل إنعقاد جلسة مجلس النواب للتصويت على ملئ الوزارات الشاغرة: نريد أنْ نعرف حجم المشكلة. وتلك زيارة وزير المالية السيد فؤاد حسين إلى محافظة البصرة التي فشلت هي الأخرى بسبب عدم توفر الإحصاءات اللازمة حول العمالة الأجنبية في شركات النفط المشتغلة في العراق للقيام بإحلال عمالة عراقية فيها بدلاً عمن تجلبهم معها. ويحضر السؤال: ترى ما الذي يفعله المستشارون! أليس من ضمن واجباتهم تقديم هذه البيانات الأولية للمساعدة على أداء حكومي فعال على المستوى الإتحادي أو المحلي المحافظاتي!.
سيكون تسليماً للأوضاع – سواء بصورة مقصودة أو غير مقصودة – الإكتفاء بترديد أنّ هناك منظومة من القيم والمعايير والأعراف التي تبرر الواقع على ما هو عليه لأنّها بذلك تصوره كما لو أنّه جثة هامدة غير قابلة للحراك. وهذا غير صحيح. فالمجتمع قوة حية متغيرة ومتفاعلة على الدوام. وأنّ هذه القوة ليست سلبية بل خلاقة وراغبة ومطالبة بما تستحقه. وما التظاهرات والإحتجاجات التي تندلع بين فترة وأخرى في بغداد والبصرة وغيرها من المحافظات العراقية الا دليلاً على ذلك. بيد أنّ للصاغرين القانتين أو الراضين المقتنعين بواقع الحال وجهة نظر مختلفة. فهم يرون أنّ للتبرير مسوغاته بسبب قدرة الظاهرة أو الحدث على المطاولة والإنتشار مما يبعث على السأم والتسليم بقوته على التأثير والتسيّد. وبذلك تفرغ الثقافة كمنظومة من أحد أهم وجهيها وهو الوجه الذي يرتبط بقوتها الكامنة على التغيير ويكتفى بالوجه التقليدي الذي يستخدم أداة للقبول والشرعنة ليس غير.
ساهم أفراد يصعب حصرهم وتوصيفهم بشيوع هذا الفهم المعتل للثقافة ممن جردوها من القدرة على أنْ تكون معول تغيير وإعادة تنظيم وليس فقط أداة للشرح والتفسير فحسب. اشتمل هؤلاء على أشخاص يعملون في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية بما فيها الديني والسياسي والاقتصادي وإنضم إليهم مشتغلون في المؤسسة الأكاديمية ساهموا بإصدار دراسات ووقعوا على رسائل جامعية تحمل عناوين "ثقافة العشيرة"، و"ثقافة الفساد"، و"ثقافة الغش"، إلخ. أعمال اكتفت بالتركيز على جانب واحد من الثقافة وأهملت الجانب الآخر الذي يلعب دور صانع الحسم في مواجهة العجز والوهن أو التحايل والإلتفاف على وظيفتها الرئيسية في أنْ تبث الحياة في المجتمع وتوقظه من غفوته.
وكان أسس لهذا الفهم المتحفظ للثقافة علماء معروفون لعل أشهرهم تايلور الذي أطلق تعريفاً للثقافة ساد لفترات طويلة من الزمن على مستوى المؤسسات الأكاديمية حتى أعتبر في عداد الكلاسيكيات. وفقاً لتايلور تعرّف الثقافة على أنّها منظومة تتكون من جانبين رئيسيين هما المادي والمعنوي يشتمل على كل ما يمارسه الفرد في الحياة اليومية بصورة ملموسة كالطعام والشراب ونمط الحياة إلى جانب الإعتقاد والتفكير والقيم المجردة التي يؤمن بها ويهتدي بما تمليه عليه من قناعات وتصورات يعتقد بصحتها. وظل هذا التعريف سائداً وشائعاً حتى أدخل علماء محدثون آخرون تغييرات عليه كان من أبرزها التأكيد على دور المدارك والأحاسيس فيما يعتبره الفرد أو الجماعة "ثقافة". فما لا تدركه وتشعر به وتستدخله فردياً لا يقع ضمن محيطك الثقافي. وعليه، ليس كل ما تعرفه وتطلع عليه يصبح جزءاً من ثقافتك حتى تقبله ذاتياً وتقتنع به. فيما بعد تركت فكرة تالكوت بارسونز أستاذ علم الاجتماع وأبرز علماء المدرسة الوظيفية المعاصرة مطلع السبعينيات للفصل بين البنية الاجتماعية والثقافة لتكون الأولى ضمن دائرة اهتمام علماء الاجتماع فيما تكون الثانية ضمن دائرة اهتمام علماء الأنثروبولوجيا كحل للتداخل بين الاختصاصين العلميين أثره لترسيخ الإهتمام بالجانب التجريدي القيمي والمعياري للثقافة على حساب الجانب البنيوي للمجتمع. وكان علماء اجتماع آخرون أسسوا لتوجهات من هذا النوع كما في ماكس فيبر الذي اهتم بالتفسير أكثر من اهتمامه بما يترتب على التفسير من فعل إنساني من أجل التغيير تاركاً أمر التغيير لصاحب الأمر والقرار على افتراض أنّ الباحث لا يملك غير أدواته البحثية التي لا تمكنه من ممارسة فعل مؤثر بالمقارنة إلى القوة والسلطة التي يتمتع بها صاحب الأمر. بالمقابل أهملت على نحو مقصود وقسري ومتعنت أفكار علماء من أمثال كارل ماركس وآخرون ساروا على نهجه ممن صعّدوا دور الأيديولوجيا الطبقية وأيديولوجيا الجندر أو السلطة لتكون سلاحاً في سبيل التغيير وإنْ كان بالقوة وعبر الثورة الدموية. واستكمل كارل مانهايم طريق ماركس ولكنّه وسع من مفهوم الأيديولوجيا لتصبح تعبيراً عن نظام الفكر والمعرفة العلمية السائدة في المجتمع ومعبرة عما يعتمل فيه من تغيرات بنيوية. أي أنّ الأيديولوجيا ليست صنيعة طبقة اجتماعية معينة وتنظيم سياسي يعبر فقط عن مصالحها بنظر مانهايم وإنّما هي إنعكاس لقناعة مختلف الطبقات والجماعات الحية المتفاعلة في المجتمع والتي تتطور بما يخدم مآربها وتطلعاتها وتتصارع مع بعضها البعض في ساحة مفتوحة تشتمل على الجميع. أضف إلى ذلك أنّ الأنظمة السياسية الإستبدادية والمتسلطة في فترة ما بعد التحرر من الإستعمار لعبت دوراً مهماً للحد من استخدام الثقافة كوسيلة للتغيير. وقد أصابت في مساعيها من خلال فرض السياسات القمعية وتسلط الأجهزة الأمنية وتنظيماتها الأخرى التي وظفت لهذا الغرض على وجه التعيين. لم يتغير الوضع كثيراً في ظل أنظمة سطحت الفكرة الديموقراطية وربطتها بصندوق الإقتراع متغاضية عما تعرض له هذا الصندوق من إنتهاكات وتجاوزات. وبذلك صارت الثقافة وسيلة للتلميع وتحسين الوجه سواء من خلال الإطراء على أداء هذه الأنظمة وموازاته بما أنتجته أفضل العبقريات في العالم أو من خلال البحث في بطون التاريخ عما يعزز هيبتها وينفخ في قربتها. تأثرت نتيجة ذلك ميادين معرفية وعلمية مهمة كان من بينها التاريخ الذي صار إستحضاراً للماضي ليس لفهم الحاضر والتخطيط للمستقبل بل للغوص فيه وإعلاء مناقبه دون الأخذ بالإعتبار ما اعتراه من صراعات ومعاناة وتصفيات حتى رشح منه ما شرح عنه بسبب المغالطات والإضفاءات التي خفضت من وظيفته المعرفية وعرضتها للخطر.
ساهمت كل هذه العوامل في تشذيب دور الثقافة وتهميشها كعامل تغيير من خلال الحث على النقد والمحاججة والمساءلة والتشكيك وهو ما عبر عنه علي الوردي بفكرة "وعاظ السلاطين" (1954) و"السدنة" من صنّاع أصنام المجتمع بحسب تعبير عبد الجليل الطاهر (1956). فقد صنعت الطغمة الحاكمة دعاتها وأحكمت سدّ أبوابها لتغرق أكثر فأكثر في فضاء الفشل والتراخي حتى صارت النتيجة أنْ تفاقم أمر الفساد والمفسدين وزاد المستهينون بالصالح العام. ودعم هؤلاء جيش من الطقوسيين المتكاسلين الذين يظهرون في مختلف الأماكن والمؤسسات ممن سعوا لإفراغ الثقافة من رسالتها كعامل رصد ونقد في مجال واسع ورحب من الحرية والإستقلالية عن إنتماءات سياسية أو طبقية محددة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top