العراق: صراع الوطن واللاوطن!

آراء وأفكار 2019/01/12 07:09:41 م

العراق: صراع الوطن واللاوطن!

 علاء حميد - باحث انثروبولوجي

ينفرد العراق عن بقية البلدان العالم بالكثير من التوجهات السياسية والاجتماعية غير المسبوقة التي تختلط فيها السياسة بالقوة؛ وكأنها تعبر عن ذلك التعدد الاجتماعي الذي يصل حتى في داخل المكوّن الواحد، ليس على أساس ثقافي أو اجتماعي إنما على أساس تصور ديني وعرقي.
لهذا عاش العراق أطواراً غريبة من التحولات التي لم تطرأ على البال ولا على الحال، إذ كيف نفسر الانتقال من بلد يحارب دفاعاً عن الحياض العربي ونموذجه القومي الى بلد يغزو بلداً عربياً يجاوره؟!.
وحينما نذكر عرض عبد السلام عارف الوحدة على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رد عليه الأخير بوجود معارضة في بغداد ربما تمانع هذا المشروع، وكان رد عارف سريعاً: "من يعارض؟!، الجادرجي؟!، هي طلقة ابفلسين وأخلص منه".
ولكن بعد 2003 تكرست ظاهرة العراق "الوطن واللاوطن"، التي لم تكن جديدة أصلاً، انما هي كامنة في النموذج العراقي "الدولة والمجتمع" منذ ظهور كيانه السياسي الموحد عام 1921، المختلف في هذه المرّة؛ هو حدوث الانفصال التام بين العراقيين والعراق التاريخي والجغرافي.
أين نلمس هذا الانفصال، وماهي مظاهره؟، يمكن لنا أن نلمس هذا الانفصال في تقابل الحقول الاجتماعية التي يعيش فيها العراقيون كفاعلين ومتلقين للفعل، وأزداد حضور هذا التقابل بعد استيلاء البعث وفكره على السلطة، اذ شرع في إعادة ترتيب الاولويات داخل السلوك العراقي، والمقصود هنا بالحقول الاجتماعية هي تلك الانتماءات والادوار التي يشغلها الأفراد في حياتهم اليومية، وهي متعددة على طول حياة الإنسان.
يواجه العراقي كل يوم السؤال الكامن في ذهنه وسلوكه "هل هو شيعي أم عراقي، وهل هو سني أم عراقي، وهل هو كردي أم عراقي؟!....... الخ "، وقد لا يظهر هذا السؤال بشكل علني، لكنه يعبّر عن مضمونه في تمثلات الحياة اليومية بما يواجهه العراقي من مشكلات وأزمات.
الجديد اليوم هو اتساع مساحة الافتراق في ذهنية أغلب العراقيين بين العراق كوطن يمثل لهم مستقراً وانتماءً، وازدياد الرغبة الدفينة بالبحث عن وطن بديل عند أي فرصة سانحة.
ويكفينا التأكيد على قوة نمو هذه الظاهرة بالرجوع والاطلاع على نصوص الأشعار والمقولات الشعبية التي أزدهرت بعد مرحلة التغير في العام 2003، وهناك ما أشتهر منها بين أوساط العراقيين، وتم تداوله على قنوات التواصل الاجتماعي.
معاينة ثنائية "الوطن واللاوطن" في ذهنية الفرد العراقي، تقودنا نحو ملاحظة كيف ينظر هذا الفرد الى وطنه بوصفه تاريخاً ونشأةً وجهت مسيرة حياته، الانفصال يحصل حينما تتغير زاوية النظر لدى العراقي لوطنه، فهو عندما يغادر العراق مكاناً يحضر عنده العراق المتخيّل، ولهذا يعود الى الاتصال بالعراق مرة أخرى عن طريق البحث عنه في الأماكن ذات اللون العراقي "المطاعم، المقاهي، تجمعات العراقيين في بلدان المهجر"، وهنا يتحول العراق الى نموذج للتذكّر من أجل الوصول به الى ذاكرة حية حاضرة من خلال السرد شبه اليومي للأحداث والأيام التي عاشها هذا الفرد في العراق سابقاً.
ولكن، عندما يبقى هذا الفرد في داخل العراق يتكرّس عنده الانفصال بأشكاله المتنوعة لفظياً واجتماعياً، ويغيب العراق كوطن وأرض، ويحضر مكانه الانتماء المحلي الفرعي إذ يبدأ الفرد بقراءة الوطن من خلال هذا المحلي والفرعي بما يحوي من أزمات ومشكلات وصعوبات يومية، يصبح العراق أزمة تتوزع بين الحاجات اليومية ومتطلبات العيش المستقر.
بل يصل الأمر إلى تفسير العراق/ الوطن من خلال ما يحمل الفرد من هويات ثقافية واجتماعية، فهناك "العراق الشيعي" وفي مقابله "العراق السني"، يضاف إليهما العراق الذي أخذ يتبلور على أساس النموذج الكردي.
بعد هذا كله يمسي العراق كتاريخ وذاكرة أشبه بقصة يوسف بين أخوته الذين كادوا له المكائد والدسائس لكي يتخلصوا منه، لكن هذا التشابه لا يصل الى نهاية قصة يوسف، وإنما تشابهاً يقع في بدايات القصة.
وهنا نلتقط رواية العراق التائه بين تصورات أهله الذين يتخذونه وطنا وهوية، يقدم سليم مطر في كتابه المعروف "الذات الجريحة" تصوراً عن صعوبة تجاوز العراق وطناً ومكاناً حتى لو أراد من ينتمي اليه عن قصد ودراية بأن يقطع صلته بهذا المكان.
ولكننا نتساءل: ذات مَن الجريحة؟!، العراق أم مجتمعه؟، ولكي يحدد جواب هذا السؤال يواجه التاريخ كمشكلة حاضرة عندما يحاول البحث عن مخرج لأزمة هذا المكان "العراق"، ويسعى للتعامل مع الذات كمعنى كلّي للعراق منذ فجر الخليقة والى يومنا هذا، وكأنه ينظر الى هذا الجرح بعين طبيب يعمل على مداواته بالتخطي، وقد يصل أحياناً الى البتر، وهنا يصبح تاريخ العراق مثل وباء مرضي لا ينفع معه سوى مشرط الجراح، لذلك تصارع الكثيرون لكي يأخذوا دور الجراح هذا، فهناك السياسيون والقوى الدولية وكيانات محلية والقائمة تطول !.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، حضر العراق الخارجي المتخيّل في أذهان المراقبين والمحللين في مراكز البحوث الغربية، وكأنه حالة من الاغواء الشديدة تغري لاكتشاف هذا المكان الذي يحوي المختلف والمتشابه والغريب.
مع حمى ارتفاع رغبة الاكتشاف غاب عنّا أن نسلط الضوء على منطقة مهملة لغاية الآن، الا وهي: كيف كانت تفكر قوى المعارضة بكل تشكيلاتها الإسلامية وغير الاسلامية بهذا المكان الذي أسمه العراق؟، وكيف تتمثله كمكان تسعى للوصل إليه بما فيه من سمات جغرافية تعبر عن انتماء وخصوصية هذه القوى؟.
الغريب أن تاريخ هذه القوى في المهجر لم يدرس وينشر لكي يكون متاحاً لمن يريد معرفة ماذا فعلت وأنجزت في أثناء مسيرة معارضتها للنظام الدكتاتوري السابق، وكما تذهب الدراسات التاريخية الى أن الماضي يحدد الرؤية للحاضر، الملاحظ بشكل أولي أن الصراع بين تلك القوى اتخذ طابعاً شخصياً مناطقياً وعائلياً، حتى الصراع على أساس فكري - إن وجد - انما كان يجري على أساس إزاحات اجتماعية تروم الاستحواذ على العراق بوصفه "استملاكاً رمزياً ومادياً"، كما يعبر الباحث البحريني نادر كاظم في كتابه "طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية"، اذ يحلل كاظم طبيعة الصراع الطائفي في المجتمع البحريني على أساس مفهوم الازاحات الاجتماعية التي تبدأ رمزية ثم تتحول الى مادية.
ربما يظلّ الامساك بالعراق الحقيقي مثل الدخول الى متاهة الوحدة التي يتكلم عنها الاديب المكسيكي أوكتافيو باث في إحدى كتبه، أنه السعي الدؤوب نحو معرفة لماذا امتاز أهل هذا البلد بأن تصل الحال بهم الى أن يكرهوه، بحيث أصبحت بعد 2003 ظاهرة "كراهية الوطن" ملفتة بحضورها وتداولها، وأدت الى النظر اليه بأنه (لعنة) حلت على ساكنيه، ودفعتهم نحو البحث عن مكان آخر لأجل الخلاص منه.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top