الأطروحة الفنطازية لعلي الشوك وأنا : حكة جرح منسي!

آراء وأفكار 2019/01/14 06:53:08 م

الأطروحة الفنطازية لعلي الشوك وأنا : حكة جرح منسي!

سهيل سامي نادر

في عام 1971 كتبت مقالاً نقدياً نشر في جريدة الجمهورية ، صفحة آفاق ، تناول "الأطروحة الفنطازية" لعلي الشوك . الزميل محمد كامل عارف مسؤول الصفحة قدّم المقال بكلمات قالت إن كتاب علي الشوك حظي بتقدير الكثيرين ، الا أن هذا المقال يتناوله بطريقة مختلفة . هذا التقديم كان محترساً جدا في الحقيقة ، فتناولي المختلف كان نقدياً أكثر من اللازم ، مع بعض الحذلقات الفكرية، فاقمت تأثيرها أخطاء طباعية عديدة .
حظيت مقالتي بتقدير كبير من قبل أصدقائي المقربين، وجلهم من اليساريين غير الشيوعيين، أما البعثيون ، فقد كانوا في تلك الأيام يعيشون هدنة سياسية وفكرية مع ضحاياهم السابقين ، ولعلّ بعضهم ممن يتعاطى الفكر وجد في مقالتي تفكيراً يسارياً مقابل ليبرالية علي الشوك واهتماماته الغريبة ، والباقون منهم ، الذين يراقبون عن بعد وحقد ، عدّوا مقالتي معركة بين "هنود"!
فيما عدا سماعي لمديح شفاهي ، لم يحدث أن قرأت تقييماً لمقالتي . لكن في اليوم نفسه الذي نُشرت فيه كنت في جلسة مسائية مع شلة من الأصدقاء ، فوصف أحدهم قريب من السلطة مقالتي بطريقة أفزعتني. قال مادحاً إياها إنني قتلت علي الشوك ثم رحت أدوس على بطنه!
ما زالت هذه الكلمات ترن في أذني حتى اليوم . هذا الوصف الشنيع نبهني على جملة من الحقائق ، أصوغها على النحو الآتي : لقد مارست بطشاً لا يليق بي بحق شخص مهذب لا يستطيع أن يعاقبني ولا يجادلني ولا يشتكيني ، وإني بطريقة ما أرضيت أولئك الذين يسجلون علينا حركاتنا وسكناتنا الثقافية تأييدا أو رفضاً . كانت الشروط السياسية التي تلفنا ومقالاتنا ونشاطنا الثقافي كله هي من القوة بحيث أن كلماتنا يعاد توجيهها بتوزيع وقراءة لا تعود لنا ، ليس من جهة السلطة والبعثيين فقط ، بل ومن جهة الشيوعيين المتشاطرين أيضاً.
كيف حدث أنني قتلت علي الشوك في كتابه ودست على بطنه ، وكنت أفترش الأرض على بعد أربعة أمتار من فراشه في موقف خلف السدة ، وقد أحببته واحترمته وتعلمت منه؟
كانت مقالتي عن الأطروحة الفنطازية هي الأولى التي أنشرها في "الجمهورية" مترافقة مع انتقالي إليها من "مجلتي والمزمار" ، ويبدو أنني أردت إبراز عضلاتي فيها بالرغم من أن منطلقاتي الفكرية جاءت محاولة لاستثمار مفهوم الفنطازية وتحريكه باتجاه آخر. كنت مع فنطازية تختلف عن تلك التي وظفها علي الشوك ، فنطازيا وجود يخترقنا أو يخوزقنا لا فنطازيا تجميع معلومات وأولاع واهتمامات كما فعل صاحب الأطروحة. ماذا كنت أقصد ؟ لست متأكداً الآن بضياع النص الذي كتبته لكني كنت أفكر بصوت مرتفع ، وكلماتي مارست استعارات وأوصاف مثيرة غير منضبطة ، كما أنني استخدمت للمرة الأولى مفهوم "المحايثة" نظراً لأني كنت أتحدث عن الاختراقات والتنافذات ما بيننا والعالم. كنت بدأت أشق تواً درباً في كتابة لا تخشى تبعاتها !
كان خطأي الأول أنني لم أفكر بألفاظ الثقافة بل بألفاظ الوجود وعلم النفس . بيد أن أطروحة علي الشوك كانت شيئاً جديداً في الثقافة العراقية ، كتابة جديدة تحدثت عن اهتمامات رجل دفع نفسه خارج المتوقع ، أودعها في كتاب لا يتبع خطط الكتب المعتادة.
في ما بعد سيظهر سلوك علي الشوك في كتابات تسلّم نفسها الى الجدل الداخلي لبعض فروع الفن والعلم، ولاسيما في الموسيقى والفيزياء . الخطأ المتمم الآخر أنني لم آخذ بالحسبان أن المجهودات التقدمية في الثقافة العراقية ، شكلت في تلك الظروف مداخل تستدعي التوسع وليس الإعتراضات والصدّ .
منتشياً بأفكاري وأوصافي المبتكرة لم أتبين موقع الكتاب في الثقافة العراقية التي كانت تغير جلدها. وبدلاً من أن أقيّمه على هذا الأساس وصفته كتاباً لطالب رياضيات مجتهد بلا قضية!
في ما بعد أفادني أصدقاء أن علي الشوك استاء من مقالتي ولم يتوقعها ويتوقع وقاحتها . وبعد عشرات السنين سيمر مروراً في كتابه (الكتابة والحياة) الصادر عن دار المدى عام 2017 على مقالتي عن الأطروحة الفنطازية . والحال أنه ينقل أولاً عن فاطمة المحسن وعلي عبد الأمير مقطعين من تقييمهما الايجابي لكتابه ، ليشير الى مقالتي على النحو الآتي : " أذكر أن هناك شخصاً هو (س. س. ن) مسح الأطروحة الفنطازية بالأرض ، اعتبرها عملا من الوزن الخفيف ، ربما لما تنطوي عليه من روح النكتة ، وأنا أعترف أن روح النكتة طاغية عليها.. " (ص 89- 90)
كان هذا التجاهل لاسمي رداً مهذباً منه على تقييمي ، مع ملاحظة أن نقدي لا علاقة له بروح النكتة الطاغية على الأطروحة حسب ما يقول ، ولا أظنه مارس روح النكتة فيها ، ومحتوى اعتراضي كان على خفتها ، والفرق واضح . والحال كنت أرى أن الأطروحة مليئة بمعلومات لا عمق اجتماعياً وفكرياً لها !.
يذكرني علي الشوك بوالدي سامي نادر من حيث التهذيب والوسامة الحليقة . وكان في سلوكه الكثير مما لوالدي ، يفعل تماماً كما يفعل عندما يأكل تفاحة : يغسلها ، يمسحها بمنشفة ، يضعها على صحن أبيض ، يضع سكينا بجانبها ، فتبدو مثل مشهد رسم ، ثم يقطعها بهدوء كأنه يخشى عليها القسوة . تسمع في نهاية كل قطع ضربة مكتومة لسكين تصل جسد الصحن ، وكان يقطعها رباعية أو سداسية حسب حجمها ، وحسب شهياته منها . حركات بطيئة وأنيقة لا عنت فيها ولا قسوة . بالنسبة لسامي نادر كان هذا يشبه حياته كلها بوصفه مريضاً مزمناً بالسل : البطء ، احترام الأشياء والاشكال ، التعب من الحياة. كان يتصرف كرسام يضع موديلا للتأمل ، وكان رساماً حقاً أراد أن يكون مهندسا معماريا . وبالنسبة لعلي الشوك كان يفعل هذا بأناقة صياغته للعبارات ووضعها في سياقات قصيرة : عبارات لا توتر فيها ، تستلقي الواحدة بعد الأخرى ، كأنها تحافظ على نفسها من الحركة ، كأنها ما قبل الكلام ، ما قبل التفكير.
عن هذا البطء ، والعلاقات الجمالية بين الأشياء ، ولغة تشبه المشي الوئيد ، كتبت عن الأطروحة ، بوصفها أناقة مجردة بلا أفق. فهل كنت أحتاج الى أن يقوم علي الشوك باستعارة سرعة زمانه ، وسرعة شبابي ، لكي يبدو متساوقاً مع فنطازيا أخرى؟
كان أبي يلتفت نحوي منزعجاً عندما يسمع انفجار التفاحة ما بين يدي وأسناني المنشبّة بجسمها الرخو . كان يراني أقوم بفعل متوحش!
لم يتسن لي أن ألتقي الشوك لعقدين . لم أكن أتحاشاه لكن الأمكنة التي يرتادها ليست أمكنتي ، وأصدقائي من الستينيين كانوا أكثر فوضوية من أن يحتملوا رجلاً مهذباً وأنيقا مثل علي الشوك . لعل حكاية نقدي متصلة بهذه الاختيارات التي ما كانت شخصيته تحتل فيها موقعاً على الرغم من حبي له واشتياقي لرؤياه . لم أره إلا في عام 1990 أو في العام الذي تلاه ، وفي مكان لا أتوقعه : بغداد ، في مبنى ألف باء على وجه التحديد . كان يسأل عن الزميل لطفي الخياط من أجل ترويج معاملة له في نقابة الصحفيين . صافحته بحرارة . وكان كعادته ، خجولاً ، مرتبكاً ، متلفتاً يبحث عن شيء ضائع.
بعد عقدين آخرين تقريباً ، في نهاية عام 2010 ، كنت أجلس قبالته في بيت الصديق باسم مشتاق في عمان . لا مهرب الآن من الحديث والعودة الى جرح منسي مازال يحكني . كان سمعه الثقيل أفادني بتمرير اعتذاري الذي لخصته بشباب غرّ ، وعدم رؤيتي للصورة الكاملة . والحال لم يشجعني هو على مواصلة الاعتذار ، وانقلب الحديث الى الموسيقى وديمتري شوستاكوفتش. كان الحدث قد أصبح ذكرى بلا تفاصيل ، فمقالي لم يُحفظ ، وكتابه كان مفتتح طريق مشاه بشجاعة وأناقة. لقد ظل مخلصا على احتياجاته!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top