باليت المدى: الرجل الذي يمشي قرب حذائه

ستار كاووش 2019/02/09 07:25:23 م

باليت المدى: الرجل الذي يمشي قرب حذائه

 ستار كاووش

(لا تعيرهُ إهتماماً، إنه يمشي قرب حذاءه) هكذا قال لي صديقي الهولندي وهو يشير لشخص مرَّ بنا ولم يكثرث لوجودنا، أو ربما لم ينتبه لنا. نظرت الى حذاء الرجل، فإذا به مثبت بقدمه بشكل جيد وليس هناك ثمة مشكلة. انتبه صاحبي لحيرتي فقال لي وهو يغلق عينيه من شدة الضحك (هذا تعبير هولندي مجازي، والمقصود به، إن الشخص المعني متعالٍ أو مغرور)، وبالكاد إقتنعتُ بهذا التعبير، لننتقل لموضوع آخر، وحين جاء ذكر أحد الأشخاص، إنبَرى صاحبي من جديد قائلاً ( في كل الأحوال، لا تجادله كثيراً فأصابع قدميه طويلة) وهنا قلت له، وهل تقصد ان قدميه كبيرتان؟ فضحك مجدداً وهو يوضح الأمر قائلاً (حين يقول الهولنديون أن أصابع أقدام فلان طويلة، فهذا يعني إنه ينفعل بسرعة، ويشتد به الغضب لأمور صغيرة).
ماذا عليَّ أن أفعل ونصف اللغة الهولندية إستعارات وأمثلة شعبية وتعبيرات شائعة؟ لهذا شرعت منذ سنوات بتعلم الكثير منها لأفهم ثقافة وتقاليد البلد بشكل جيد. بدا الأمر صعباً، وربما مضحكاً في كثير من الإحيان، لأن اللغة، أية لغة، تحمل الكثير من التركيبات التي تبدو غير منطقية اذا قارناها بلغتنا الأم. لكن رغم المفارقات التي تحدث، فالأمر لا يخلو من متعة، وجمال لا ينتهي، لأني أنظر الى تلك الجمل والأقوال كما أنظر الى الشعر، فهي مليئة بالغرابة والغموض والاختصار والخيال. وهنا لا يمر عليك يومٌ دون أن تسمع بعض الجمل التي تقول شيئاً، لكنها تعني شيئاً آخر. فيها بعض التورية، وتُجَمِّل اللغة بتعبيرات تعوض عن الكثير من الكلام. فحين يصف الفلاح الهولندي حليب مزرعته قائلاً، إنه حليب أخضر، فهذا يعني ان الحليب من إنتاج أول الربيع، وقت إلتهام الأبقار للأعشاب الطرية اليانعة، بداية إخضرارها. او قولهم ان فلاناً أصابعه خضر، فهذا يعني إنه يفهم جيداً بأمور الزراعة. أما إذا دعاك صديق لبيته وهو يقول (لديَّ مايكفي تحت الفلينة) فهو يقصد ان ما لديه من نبيذ يكفي للسهرة.
الإختصارات تصنع جمال اللغة وتمنحها الكثير من الحلول، وتضفي عليها شيئاً من جمال وروح البلد، فلا يصف الهولندي بداية شروق الشمس الرائقة العذبة، إلّا بقوله (يأتي الصباح، وفي فمه ملعقة من ذهب)، وإن أعجبه طعم الأكل اللذيذ الذي تناوله، يقول (أشعر كأن ملاكاً قد مرَّ بدراجته على لساني).
لكن المفارقات أيضاً تصنعها اللغة، فمازلت أتذكر عند إفتتاح أحد المعارض، وَأَرِدتُ الاستفسار عن رقم الباص الذاهب الى الغاليري، فسألت صديقي يان عن ذلك، فأجابني حرفياً (أعرف الكثير)، فقلت له بإرتياح: لهذا سألتك عن ذلك، فأجابني إجابة صادمة لم أتوقعها أبداً قائلاً (في هولندا حين تقول أعرف الكثير، فهذا معناه إنك لا تعرف شيئاً عن الموضوع). وذات مرة زارني صديق وقد بدا عليه التعب، فسألته: ما بك؟ فأجابني (لديَّ قط) فقلت له: أنا لدي قط أيضاً، فنظر اليَّ وهو يقول (عن أي قط تتحدث؟ عندي قط معناها إني مازلت أشعر بآثار الخمر من سهرة البارحة)! فهل هناك خيال أكثر من هذا؟
وبمناسبة القطط، في بيتي السابق كانت جارتي العجوز مترددة بالتواصل معي في بداية سكني، فأخذت تنظر لي أول الأمر من خلف الستائر نصف المفتوحة، بعدها بيومين أخذت تفتح الباب وتنظر لي بتحفظ، ثم أخذت تقف على عتبة البيت وتحييني بإيماءة من رأسها، وبعد أيام أخذت تقترب لترد على تحيتي لها، ثم اقتربت أكثر لتحدثني وتسألني عن لوحاتي، حتى توطدت علاقتي بها بشكل جيد، وهذه الحالة من التردد في التقرّب من الآخرين يطلق عليها الهولنديون تسمية (القط ينظر من فوق الشجرة) ! مع العلم ليس في الموضوع قط، ولا شجرة. أليس هذا هو اللامعقول بعينه؟ ألا يذكرنا هذا بمسرحية أوجين يونيسكو الشهيرة (المغنية الصلعاء) والتي لم تتضمن بين أحداثها أية مغنية سواء كانت صلعاء أم بشعر!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top