انعام كجَه جي:  بغداد.. ما زالت تعيش فيّ وتهب منها عليّ لفحات ساخنة

انعام كجَه جي: بغداد.. ما زالت تعيش فيّ وتهب منها عليّ لفحات ساخنة

ترى مهما حمل الروائي عصا الراعي وحاول أن يهشّ على أبطاله فإن تمردهم عليه مطلوب وجميل

حاورها/ علاء المفرجي

الروائية العراقية إنعام كجَه جي، من الأصوات الروائية التي لها حضور متميز في المشهد السردي العربي، على قلة ما أصدرت إبداعياً، فقد أصدرت أربع روايات حتى الآن هي: سواقي القلوب2005 ، الحفيدة الأميركية – 2008، طشاري – 2014، النبيذة 2017 رواية.. وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) إثنان من أعمالها الروائية هما (الحفيدة الاميركية) و(النبيذة).

ولدت في بغداد عام 1952 وفي جامعتها درست الصحافة. عملت في الصحافة والإذاعة العراقية قبل انتقالها إلى باريس لتكمل أطروحة الدكتوراه في جامعة السوربون. تكتب حاليا لجريدة الشرق الأوسط في لندن ومجلة "كل الأسرة" في الإمارات العربية المتحدة. نشرت إنعام كجه جي كتاباً في السيرة بعنوان "لورنا" عن الرسامة البريطانية لورنا هيلز التي كانت متزوجة من النحات والرسام العراقي الرائد جواد سليم. كما نشرت كتابا بالفرنسية عن الأدب الذي كتبته العراقيات في سنوات المحنة والحروب. في عام 2004 أعدت وأخرجت فيلماً وثائقياً عن الدكتورة نزيهة الدليمي، أول امراة أصبحت وزيرة في بلد عربي عام 1959.
تحدثت إنعام كجَه جي للمدى عن تجربتها في الكتابة، وعن ترشيحها للمرة الثالثة في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن رواية (النبيذة) بعد ان ترشحت في السنوات الماضية عن (الحفيدة الأميركية) و(طشاري)

 تأخرت كثيراً قبل البدء في نسج عمل روائي، حيث العمل في الإعلام والصحافة.. في مقالاتك الصحفية هناك هيمنة للسرد، هل كانت هي السبب في ولوج عالم الرواية فيما بعد، أم إن تراكم الخبرة في الحياة كان السبب.
- لكل شيء وقت. وأظن أنني كتبت الرواية حين جاء أوانها. وقد أفادتني تجاربي في الصحافة كثيراً. كما أن للسن تقديرها.
* تساءلت مرة : "هل أصبحت المقبرة هي المكان الوحيد للم شمل العراقيين؟"، لكنك تتجولين في أعمالك بأكثر من مكان، هل هو تعويض عن فقدان المكان أم هو البحث عن المكان الذي "لايمكنك الهرب منه بعيداً عن قبضته" كما قلت مرة ؟
- لماذا تعيد عليّ مقولات قديمة من الآرشيف؟ تعال نتحدث عن آفاق جديدة، عن الأمل بانزياح شبح الموت عن ذلك المكان العزيز، مسقط الرأس. ألا تراودني رغبة بأن أكتب، ويكتب زملائي الروائيون العراقيون، نصوصاً تخلو من هواجس الحرب والبشاعة والطائفية والخسارات؟ المقبرة الألكترونية التي تجمع عظام الأحبة في رواية "طشّاري" هي مجرد شطحة مجنونة. وبالنسبة لي فإنني بعد بغداد لم أرتبط بمكان بالقوة ذاتها. ما زالت تعيش فيّ وتهب منها عليّ لفحات ساخنة. ورغم أنني أعيش في باريس منذ أربعين سنة فإنها بالنسبة لي كبسولة فضائية وأشعر أنني طافية بين جدرانها في حالة من انعدام الجاذبية. ولعلك ترى المكان في رواياتي فسيحاً ومتعدداً، يمتد من ديترويت في الولايات المتحدة، إلى مانيتوبا في كندا، وصولًا إلى كراتشي في باكستان، ذلك لأنني أكتب في الغالب عن عراقيين فارقوا المكان الأول، لا برضاهم، بل على مضض، وحملوا في حقائبهم وثائق انتمائهم وصورهم والحسرات.

 كاشانية في رواية «سواقي القلوب»، ورحمة في «الحفيدة الأميركية»، ووردية في «طشاري»، وتاج الملوك في «النبيذة»، وحتى (لورنا)، ركزت على سير النساء الحقيقية أو المفترضة، لماذا هذا الاختيار لسرد حكاياك؟
-السؤال ليس النساء بل المسنّات العجائز منهن. إنهن حافظات الذاكرة والقيم. ومن خلال مروياتهن تتدفق سيرة وطن تعرض لهزات وتجريفات عنيفة. وهناك في نصوصي زلم كثيرون، و"سواقي القلوب" تجري على لسان رجل.

 في النبيذة تعاطيت مع التاريخ بحذر مقتفية أحيانا إثر الوثيقة.. كيف استطعت توثيق أكثر من تسعين عاماً من تاريخ العراق القريب، شخصيات، وأحداث، وأماكن، بل وحتى تقاليد، ؟ وكيف كنت أمينة للحقيقة من دون انتهاك للحدث التاريخي؟
- لم أتعامل مع التاريخ بحذر. ألا ترى أن الحذر يقيد الكاتب ويقتل الخيال ويعطل السرد؟ لقد جمعت بين يديّ وثائق تخص حياة الشخصيات الثلاث في الرواية واشتغلت عليها بأناة. تعبت في البحث التاريخي وكنت أستند إلى ذاكرتي التي ما زالت تحتفظ بالكثير مما عشت ومما بلغ سمعي. ولا تنسى أن الموسوعة الألكترونية توفر للباحث بحراً من المعلومات والصور. هل كنت أمينة للحقيقة كما تقول؟ جوابي هو أن الحقائق رجراجة. وهي في الروايات نسبية وتتبع أهواء الشخصيات. ومهما حمل الروائي عصا الراعي وحاول أن يهشّ على أبطاله وبطلاته فإن تمردهم عليه مطلوب وجميل.

 على هذا الأساس نرى دخول شخصيات حقيقية في رواياتك جنباً الى جنب مع شخصيات افتراضية.. في صياغة هي أقرب للحقيقة – كما دونتها الوثيقة – للحدث التاريخي؟ مثل شخصيات السياسيين الكبار في (النبيذة)؟
- هؤلاء لم يدخلوا في "النبيذة" إلا لأنهم كانوا على علاقة حقيقية مع الأبطال. فقد اقتربت تاج الملوك من نوري السعيد ومن عبد الإله، الوصي على العرش، وكانت لها حكايات معهم. كما أن حبيبها الفلسطيني منصور البادي عمل مستشاراً لرئيس فنزويلا هوغو شافيز. أما وديان الملاح، عازفة الكمان في الفرقة السمفونية، فإن ما ترويه عن "الأستاذ" نابع من تجربتها الخاصة معه. أقصد أنني لا أستدعي السياسي إلى بيت الرواية لمجرد استعادة التاريخ الرسمي بل لأنه كان ذا أثر في مسيرة الشخصيات. لذلك يبدو السياسيون مختلفين عن الصورة الشائعة عنهم لأنني التقطتهم من زوايا أكثر حميمية.

 قلت في حوار صحفي:، أتمنى الكتابة عن المغنية الريفية «مسعودة العمارتلية» التي استرجلت، في ثلاثينيات القرن الماضي، وارتدت الدشداشة الرجالية والعقال وتسمت باسم «مسعود». هل هو إذن مشروعك الروائي، سيرة النساء بموازاة سيرة الوطن؟
- كنت أتمنى فحسب. ولا تتوفر لي الخميرة اللازمة لعجينة مسعودة. وروايتي المقبلة من نوع الكوميديا السياسية السوداء. لي أربع روايات ولا أظنها كافية لوصف: "مشروع روائي". لنقل إنها تسير في اتجاه واحد.

 كل أبطال رواياتك من الطبقة الوسطى، فهل هو إعادة اعتبار لهذه الطبقة التي اندثرت، والتي كانت ضحية الانقلابات والحروب، أم هو رثاء لها؟
- أنا امرأة تتطير من الايديولوجيات وتعتبرها سبب خراب عشّها. وحين أكتب لا أضع نصب عيني أهدافًا وشعارات ولافتات. رويت القصص التي وجدت نفسي منساقة لروايتها ولم أفكر بقضايا إعادة الاعتبار أو الرثاء. الرثاء يليق بالأموات. وأؤمن بأن روح المجتمع الذي نشأت فيه ما زالت حية طالما أننا نتنفس.
* يقول الناقد حاتم الصكرعن روايتك النبيذة كما في كل رواياتك " الإسترجاع هو سبيل السرد كله. تبدأ الرواية وقد انتهى كل شيء" .. مالذي يجعلك تلجأين إلى هذه الطريقة من السرد، بمعنى هل تضمرين غاية ما؟
ـ الناقد المحترف يلاحظ ما لا يلاحظه الكاتب. إنه يحلل ويشرح وفق نظريات تغيب عني. ولعل طريقتي الاسترجاعية في السرد جاءت بالمصادفة لأن مواضيع الروايات فرضت ذلك. لا أضمر سوى الرغبة في التوقف عند زمن عراقيّ راقٍ وثريّ وأشعر بأن من الاجحاف ردمه والعبور فوق ملامحه وتغييبه عن جيل جديد ولد في أزمان الكارثة.

 كل شخصيات رواياتك تسكنهم النوستالجيا، الى بلد شاخ وتمزق بفعل الحروب والمآسي .. هل ما يسكنك نفس الشعور .. وهل ثمة خلاص له؟
- لا تسكنني النوستالجيا لأن الحنين مرض. وقد برئت منه بعد السنة الخامسة من اغترابي. وما زلت أشعر بكثير من البهجة حين أتعرف على ديناصورات معمرّة من الماضي. تحكي عنه وكأنه كان قبل يومين. وأنا نفسي في طريقي للتحول إلى ديناصورة مهمومة بالتوثيق الاجتماعي لعراق متمدن يتعايش أهله بسلام. واجبنا أن نقاوم الانقراض.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top