موت الأحزاب ...

آراء وأفكار 2019/04/13 12:00:00 ص

موت الأحزاب  ...

د. لاهاي عبد الحسين

بينما استثمر الحزب الديموقراطي الأشتراكي الألماني في معاناته مع النظام النازي من خلال كسب تعاطف الجماهير الألمانية معه الأمر الذي مكنه من الوصول إلى السلطة على المستوى الإتحادي عام 1949 بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، لم يستطع الحزب الشيوعي العراقي، عميد الأحزاب الوطنية في العراق فعل ذلك. فقد خطفت أحزاب ذات صبغة دينية دوره بأنْ قدمت ضحاياها على ضحاياه. واصل الشيوعي العراقي تمسكه بقواعده الأخلاقية وغلبت على جدالاته النزعة الرومانسية رافعاً شعار "وطن حر وشعب سعيد"، مؤكداً الحرص عليها والموت دونها مما قاد إلى مصادرة حياة الآلاف منهم أو تشريدهم في المنافي عبر عقود معتمة من الزمن. وخرج أعضاء الشيوعي العراقي وأنصاره بالنتيجة مجللين بمشاعر الخيبة والفشل الأمر الذي ساهم بتأجيج النزاعات على مستوى قياداته وقواعده على السواء. وبدا بنظر أجيال لاحقة من أنصاره وبقايا المرتبطين به ممن سحقتهم ظروف المطاردة والوصمة والتضييق غير قادر على تحقيق نصر يذكر. استفاد آخرون وخرج خالي الوفاض. وفيما انشغلت الأحزاب الأخرى بتكتلات واصطفافات متعددة تسعى لهدف واحد لا غير هو الوصول إلى السلطة سجلت الحياة الحزبية في العراق أدنى درجات الفشل على وجه العموم. فشل لم يصاحبه اعتراف وقبول بل انكار ومناورة ومحاولات للقفز هنا وهناك حتى صار الكل متورطاً بصنع طبخة الكل.
على المستوى الرسمي استقال رؤساء أحزاب وحركات سياسية من تنظيماتهم التي أوصلتهم إلى السلطة في بلدان مثل فرنسا ومصر فيما تمسك المسؤول العراقي بمنصبه الحزبي كما في حالة المالكي والعبادي اللذين رفضا التخلي عن رئاسة حزبهما وإنْ أدى ذلك إلى الإنشقاق وتكوين جناحين منفصلين عرفا بإسميهما. سبق أنْ حدث مثل هذا في العراق عندما أحكم حزب البعث السيطرة على قيادة الحزب والدولة وبقي الحزب أداة يعتمد عليها في تصريف شؤون الدولة والمجتمع. جزء من الطبيعة الدكتاتورية التوتاليتارية الشمولية التي صنعت ما يشبهها مضموناً ويختلف عنها شكلاً. أحزاب استبدلت النزعة القومية بالنزعة الدينية المذهبية ودرجت على ما ألفته وأستساغت ممارسته.
شعبياً، عبر العراقيون عن نفرتهم من الأحزاب من خلال توزعهم في الولاء على أعداد لا حصر لها منها وتجسد ذلك من خلال خياراتهم الانتخابية التي أنجبت جماعات وكتل صغيرة لم تتوفر لأي منها فرصة الحسم. وهذا ما أدى إلى تأسيس إئتلافات واسعة تمثلت فيما سمي التحالف الوطني العراقي للأحزاب الشيعية الذي توافق على الإستحواذ على منصب رئاسة الوزراء. وظهر في قبالته إئتلاف القوى العراقية للأحزاب السنية الذي أخذ منصب رئاسة مجلس النواب وانتظمت الأحزاب الكردية في تحالف القوى الكردستانية الذي أخذ منصب رئاسة الجمهورية. وسرعان ما دبت الخلافات داخل هذه التحالفات والإئتلافات فكان أنْ أنشقت على بعضها البعض فيما بقي الشيوعي العراقي يبادل القدم بالقدم من أجل أخذ مكان ما لم يكسبه بالنهاية إلا نائبين فقط من أصل 328 نائباً في مجلس النواب العراقي.
وجاء قانون الأحزاب السياسية رقم (36) لسنة 2015 والذي نشر في الجريدة الرسمية، الوقائع العراقية بتاريخ العشرين من تشرين الأول 2015 ليطلق رصاصة الرحمة على أي حراك سياسي في العراق يمكن أنْ يساهم بتمثيل الشرائح الشعبية المتنوعة تحقيقاً للمصالح الوطنية العليا وتعبيراً عنها. سرعان ما بدا واضحاً أنّه يراد بالأحزاب أنْ تكون تشكيلات تهتم بهدف واحد لا غير يتمثل بإيصال أكثر ممثليها بروزاً إلى السلطة بمعزل عن برنامج واضح يسعى للمحافظة على استقلال البلاد ويحميها من التدخلات الخارجية أو ينهض بالصناعة كوسيلة لتوفير فرص العمل ومكافحة البطالة أو يعلن حرباً لا هوادة فيها على رؤوس الفساد المالي والإداري الذي يضرب أطنابه في البلاد وغيرها مما يهم المواطن العراقي. يعرّف قانون الأحزاب السياسية الحزب بأنّه أي "مجموعة من المواطنين منضمة تحت أي مسمى على أساس مبادئ وأهداف ورؤى مشتركة تسعى للوصول إلى السلطة لتحقيق أهدافها بطرق ديموقراطية".
عموماً، يمكن القول إنّ هذه الظاهرة ليست عراقية فحسب بل وعربية. فقد فشل الحزب الوطني الديموقراطي في حماية الرئيس حسني مبارك من السقوط والتنازل عن الرئاسة. وفعل كذلك حزب جبهة التحرير الوطني مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وتولت المؤسسة العسكرية في السودان إقصاء الرئيس عمر البشير عن السلطة بتحرك سريع. وهذه الأردن ليس فيها غير حزب العمل الإسلامي الذي أثبت أنّه الوحيد القادر على إيصال مرشحيه إلى سدة البرلمان وهو حزب متفاهم مع الحكومة ويعمل بمعيتها ولا يتمرد على سلطة الملك. ولاذت سوريا بالمؤسسة العسكرية والدعم الروسي والأيديولوجيا الوطنية لمجرد البقاء في السلطة ولا زال المشوار أمامها طويلاً لم ينقض بعد.
عزا السيد عبد الرزاق الحسني فشل الحياة الحزبية في دراسته حول الأحزاب منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي حتى ثمانينياته إلى ما أسماه "اليد الأجنبية" التي حالت دون نجاح الأحزاب السياسية في العراق بالمقارنة مع تجربة الأحزاب السياسية في البلدان المتقدمة. ولاحظ الباحث رشيد الخيون أنّ الأحزاب السياسية في العراق قاطبة ارتبطت بصورة واضحة ومكشوفة بعوامل خارجية. فقد رعت المانيا الأحزاب ذات التوجهات القومية ودعمت إيران الأحزاب ذات الصبغة الدينية وكذلك فعل الإتحاد السوفيتي في دعمه للحزب الشيوعي العراقي في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. حقائق لا تزال تعيد تأكيد حضورها إنّما بمزيد من العلانية دون اهتمام يذكر بموقف المواطن المستنكر لها.
استطاعت أوروبا معالجة أسباب فشلها في المانيا وإيطاليا والإتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الأشتراكية بعد مرحلة من مراحل سيطرة الأحزاب الحاكمة. فقد منح الفرنسيون الثقة لحركة "إلى أمام"، التي أسسها إيمانوئيل ماكرون عام 2016. وسرعان ما استبدل إسم الحركة لتصبح "الجمهورية إلى أمام"، وتكتسح الجمعية الوطنية الفرنسية بـ (300) مقعد من أصل (577) مقعداً. وعندما أدرك الأشتراكيون تراجعهم إلى 49 مقعداَ وهو أقل ما حققوه في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ تأسيسها عام 1958، حث زعيم الحزب الأشتراكي جان كلود كامباديليس الحزب بعد تخليه عن زعامته على "تغيير كل شيئ فيه من شكله ومضمونه وأفكاره وتنظيمه". أما ماكرون الذي أصبح رئيساً فقد ترك منصب رئاسة الحركة بعد أيام قليلة من وصوله إلى قصر الإليزيه لرفيقته كاترين باربارو.
لم تنجح أي من الأحزاب العراقية بخوض معارك السلطة بإعتبارها إدارة وليس مجرد هيمنة واستحواذ لبناء نظام ديموقراطي يسمح بالتعددية والحد من السلطة وتوسيع نطاق المشاركة المواطناتية على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين. فلا زال السجال أخلاقياً في أحسن الأحوال ومذهبياً كتلياً في أسوأها. في الوقت الذي يرفع فيه حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي شعار "الأغلبية السياسية"، والتي تعني عملياً الأغلبية الحزبية الشيعية المؤتلفة معه شخصياً فقد تفككت الأجنحة الأخرى إلى مجرد مسعى للحصول على رئاسة مجلس الوزراء. أما الشيوعيون العراقيون فقد دأبوا على استخدام ذات الطرق القديمة التي تقوم على التحريض المباشر والتظاهر العلني ورفع شعار التغيير بدل "إسقاط النظام"، إنّما بلا تأثير يذكر من حيث أنّهم يدخلون ضمن بنية النظام ويتحالفون معه. شعبياً، لم يعد يخفى على أحد ما يردده العراقيون عن "حكم الأحزاب" مما يعبر عنه بـ "غسل اليد".
أما الـ (204) أحزاب التي دخلت الإنتخابات النيابية في أيار 2018 فقد أسهمت بإثراء المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات التي ألزمت كل حزب بدفع مبلغ (25) مليون عراقي كرسم تسجيل إلى جانب (5) ملايين عراقي تدفع إلى الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة ومليون عراقي إلى دائرة شؤون الأحزاب والتنظيمات السياسية. مبالغ بلغت بحسب هذه الإحصاءات أكثر من ستة مليارات دينار عراقي ليس واضحاً كيف يتمّ التصرف بها.
تعمل الأحزاب السياسية في العالم اليوم بصيغة لجان تنظيمية وفكرية مركزة تتحمل مسؤولية وضع السياسات لتعبئة الجماهير وتكوين القواعد الداعمة ليس وفق النمط التقليدي الذي يربط الفرد بسلسلة نشاطات واجتماعات مكلفة من حيث الوقت والجهد والمال. أحزاب لا تضيع وقتاً في نشاطات اجتماعية جانبية مستهلكة للطاقة بل تستثمر فيمن يمكنه أنْ يقدم مساهمة محسوبة على صعيد الفكر والبرنامج والتنظيم الفعال للتعبئة الجماهيرية. هذه طريقة تشبه ما يسعى إليه النظام التربوي الحازم الذي يقدم أجراً أعلى لمن يقوم بتدريس مادة الرياضيات بالمقارنة مع أي مادة دراسية أخرى يتوفر للقيام بها فائض من المعلمين والتدريسيين في بلد مثل السويد، على سبيل المثال. لقد صار واضحاً أنّ على كل الأحزاب القائمة أنْ تخلي الساحة لمن هو أكفأ منها وأكثر فاعلية أو أنْ تخلع ثوبها القديم لتبدأ من جديد. أحزاب ترتفع بمستوى الخلافات إلى فكرية وبرامجية وليس شخصية مزاجية تشتعل على صفحات التواصل الاجتماعي لتطيح بماء الوجه لما تبقى لكثير من ممثليها الشخصيين. قد لا تنتهي الهبّات الشعبية في الجزائر والسودان وقبلها في مصر إلى ما تطمح إليه الشعوب حقيقة ولكنّ مسافة التغيير الشعبي نحو الديموقراطية كنظام يضمن المشاركة للجميع بدأت. ليس هناك ما ينبئ بخفض صولات الشعوب وبخاصة في ضوء المعادلة السكانية التي ينبغي أنْ تكون هاجساً حقيقياً لكل من يروم السلطة ويسعى إليها.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top