قضية للمناقشة: الاستغلال والهيمنة.. وليس الدين

آراء وأفكار 2019/04/16 12:00:00 ص

قضية للمناقشة: الاستغلال والهيمنة.. وليس الدين

فريدة النقاش

فى نهاية صيف عام 2001 انعقد المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية فى “دربان” بجنوب إفريقيا، واتخذ المؤتمر قرارات بالغة الأهمية وعلى رأسها مطالبة الأمم المتحدة برد الاعتبار وإعادة اعتماد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379 لسنة 1975 الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية، ثم نجحت الحركة الصهيونية وإسرائيل فى إلغائه لاحقاً، وتواطأ معهما بعض العرب بدعوى فتح الطريق للسلام.
وكان هناك قرار آخر بالغ الأهمية أيضاً ينص على مطالبة الدول الاستعمارية، والولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص بدفع تعويضات للشعوب التي كانت قد استعمرت بلدانها، ومارست عنصريتها ضدها سواء بالاستعمار المباشر، أو بخطف ملايين الإفريقيين من بلادهم وتهجيرهم قسراً إلى أمريكا للعمل عبيداً فى مزارع الأغنياء، وعرف هؤلاء المستعبدون المستضعفون أقسى أنواع الهمجية التي مارسها ملاك العبيد ليسجل تاريخ الإنسانية صفحات مظلمة تنتمي إلى عصور التوحش، وأصبحت حكاياتها الفاجعة مادة لم تنفد حتى الآن للأدب والفن، وهي تحفر فى ذاكرة الإنسانية صفحات لا تنسى. والآن يطالب رئيس وزراء المكسيك إسبانيا والدول التي استعمرت بلاده بالتعويض عن سنوات الهوان. وبدأ مؤتمر “دربان” فى حينه كأنه عودة الروح فى خطوة جبارة على طريق استعادة حركة التحرر الوطني لحيويتها، وإعادة التأكيد على أهدافها، وعادت الوفود من “دربان” محملة بالأمل والوعود. وفي الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبعد أسابيع قليلة من مؤتمر “دربان” وقراراته وتوصياته التي أرقت الدوائر الامبريالية، وقعت عملية قصف برجي مركز التجارة العالمي فى “نيويورك “ حين فجر طيارون أنفسهم بطائراتهم وركابها فى البرجين، وأيضاً فى مقر وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” فى واشنطن.
وأصبح هذا الحادث بوحشيته وخيال منفذيه هو الشغل الشاغل للعالم كله، وجرى التعتيم بمهارة على نتائج مؤتمر “دربان” الذي أنطوت صفحته قبل الأوان.
وأذكر يومها أن المفكر الراحل “سمير أمين” كتب مشككاً فى الروايات التي قدمتها المخابرات الأميركية، وهو يتساءل من ياترى الذي يقف وراء هذا الحدث الجهنمي؟
وتشكك “سمير أمين” أيضاً في التفسير الذي يقول إنها مجرد مصادفة، خاصة أنه هو كان قد لعب دوراً مرموقاً فى بلورة نتائج “دربان” ومقرراتها. ورغم أنني أتحفظ كثيراً على تفسير المؤامرة السهل والمربح أحياناً الذي يستخدمه سياسيون ومواطنون عاديون، توقفت أمام شكوك “سمير أمين” متسائلة عن من خطط أصلاً ؟
في 2001 كان ثلاثي حركة التحرر والتقدم العالمي مازال يداوي جراحه بعد كارثة إنهيار منظومة الدول الإشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، وواكبها تآكل دولة الرفاه الاجتماعي فى أوروبا، وإنتكاسة حركة التحرر الوطني فى العالم الثالث، وهو الثلاثي الذي كان قد شكل الوعي التحرري العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
أخذت قوى اليمين فى العالم تتصدر المشهد بالتدريج فى ظل هذا المناخ المواتي، وتوجت انتصاراتها فى ميادين متعددة، وكان لابد لها فى هذا السياق أن تنتج أدبياتها والتي انتشرت انتشارا واسعاً عبر الهيمنة الأميركية على ما يزيد على ستين بالمائة من الإعلام العالمي بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وانتشرت كالنار فى الهشيم نظرية “فرانسيس فوكوياما” الأميركي التي تقول إن التاريخ قد وصل نهايته مختاراً الرأسمالية إلى الأبد، ودشنت هذه النظرية سياسات الليبرالية.. كذلك انتشرت نظرية “صامويل هنتنجتون” رجل الأمن القومي الأمريكي حول صراع الحضارات الذي يتأسس من وجهة نظره على الدين، ليحل الدين عالمياً محل الثقافة رغم أنه كان ولا يزال أحد روافدها، وتتوالد كالفطر الحركات الجهادية ترفع الشعارات الدينية فى عمل دؤوب لخلط الدين بالسياسة برعاية الامبريالية.
ودفعت عمليات الإفقار المتزايدة لبلدان الجنوب تحت راية السياسات الليبرالية الجديدة، جنباً إلى جنب الاستغلال والفساد والاستبداد دفعت بملايين المهاجرين شرعيين وغير شرعيين إلى بلدان أوروبا، ونشأت حالة الإسلاموفوبيا “كراهية المسلمين والتوجس من الإسلام” أي أن نظرية “هنتنجتون” حول صراع الحضارات قد أخذت تمشى على قدمين، وذلك رغم أن المسلمين فى أوروبا وأمريكا لا يشكلون أغلبية المهاجرين.. وأخذت عملية نقل الصراع العالمي والمحلي من أرضية الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والسياسية فى خاتمة المطاف إلى أرضية الهوية والدين والطائفة والعرق والثقافة بعامة أخذت تتجذر فى كل مكان.
وجرى في هذا السياق تدشين الآليات التي قامت بوضع مخطط صراع الحضارات وسياسات الليبرالية الجديدة معاً موضع التنفيذ، وكان التزوير المفضوح لحقائق الصراع واحداً من أهم هذه الآليات، كما حدث في تبرير الحرب الأميركية على العراق عام 2003، وجرت عمليات جبارة لصناعة نجوم في ميدان الفكر والثقافة مستهدفين تشكيل وعي العالم الجديد، فبرز نجم باحث في الإسلاميات أخذ يقرأ التاريخ معكوساً هو “برنارد لويس”، فقال مثلاً فى “ الهجوم الأخير للإسلام” إن الحملات الصليبية للغرب كانت رداً غربياً شبه جهادي على “التوسع الجهادي للشرق العربي الإسلامي “وهو يتناقض تماماً مع حقائق التاريخ، ولأن تعايشاً سلمياً حقيقياً بين الديانات والأعراف، والثقافات قام في ظل الإسلام، وتقف تجربة الأندلس شاهداً حياً على هذه الحقيقة، فإن المسلمين رفضوا وصف الحرب الأوروبية عليهم في العصور الوسطى بالصليبية، وأطلقوا عليها إسم حرب الفرنجة، وشارك مسيحيو العالم الإسلامي في صد ومقاومة هذه الغزوات.. وبعد أتمنى أن لا يستنتج أحد أننا نحن الأبرياء الضحايا وبلا عيوب أو مشكلات، فمثلنا مثل كل شعوب العالم لدينا نزعات التعصب والإنحيازات الطائفية والعرقية.. و.. و..
وعلينا ونحن نسعى إلى النهضة والتقدم والعدالة أن ننقد أنفسنا بنزاهة حتى ونحن نتعامل مع العدوان الخارجي، ودون أن ننزلق لتبنى كل ما يصدرونه لنا من أفكار مع بضائعهم وجنودهم وخاصة نظريتهم حول صراع الحضارات والديانات، ونرد الصراع دائماً لأصله، ونشحذ ونطور مقاومتنا للاستغلال والهيمنة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top