شاعرٌ سرقته الخيول

شاعرٌ سرقته الخيول

شعر : خزعل الماجدي

قبل 27 عاماً ، أي في عام 1992 ، عرفتُ أن الشاعر فوزي كريم قد دخل المستشفى في لندن ،  وكان قد أصيب بنوبة قلبية حادة ، أعلن في حينها إنها سوف تؤدي بحياته ، بل أن بعض الصحف نشرت نبأ وفاته ، كنت يومها في العراق وكان من المستحيل نشر شيء عن فوزي كريم في الصحافة العراقية ، فكتبت هذه القصيدة عنه ، مستثمراً عنوان قصيدة معروفة له ، وقرأتها في أمسية في منتدى المسرح ، كانت مخصصة لي قدمني فيها الشاعر عادل عبد الله . ثم نشرتها في مجلة العرب اللندنية في نهاية عام 1992. 

إلى فوزي كريم
 
لماذا تُراني أحدّقُ فيك؟
وأنسى رفيفَ أغانيك
أنسى النجومَ التي تتساقط
حين تغني.. وحين تئنُّ
وحين تشيرُ إلى جهةِ الروح
أنسى..
ومن رهقٍ أتجمعُ في نقطةٍ وأُناديك
أنسى..
وأنسى الطيورَ التي هشّها الغوصُ في جوهر فاتنٍ وعميق
يدكَ الآن تخرجُ من حائطٍ وتقدّمُ كأساً إليّ
يدكَ الآن تخرجُ من حائطٍ وتُخيط رمادي
يدكَ الآن تُشعل شمعاً لمائدتي آخر الليل
بعد أن  غادر الأصدقاء
أنسى..
وأنسى بأنكَ تخلطُ خمري بماءِ المطر
ولكنني أتذكرُ..
كانت أغانيكَ تحت نخلةِ (الإتحاد) الطويلة
تعلو بعيداً.. وتعلو
فينشقُّ فجرٌ
وتضحكُ بغدادُ من طفلها كيف صار يؤذنُ
أجملُ من أعلنَ الفجر.. فوزي
وأجملُ من صاغَ وردتهُ
أجملُ ظبيٍ حبا نحو منبعِهِ
واستحمَ به وتعمّد.
لنا الصبحُ والليلُ مزدحمَين
والفجرُ لك
لنا كلُّ هذي المباهجُ تعلو وتهبطُ
والسكرُ لك
أجملُ مَن حَمّسَ النارَ.. فوزي
وأجمل من فاضَ في راحتيه
وأذكرُ من تعبٍ ما كان يهذيه كفُّكَ
ما كان يبعثه من دفوفٍ ومن قصبٍ
وأخشابِ طرفاء منقوعةٍ في المياه.
 
لماذا تُراني أُحدّق فيك؟
وأهوى بأن أفتح البابَ
أهوى بأن أتلصّصَ.. كيف تطيرُ
وكيف تطرزُ شالاً من النور
كيف تذوب .
ولكنّ باباً من الماءِ أغلقتهُ ومضيت
لماذا أهزّ على وترٍ مهدَكَ حينَ شتائي؟
وأنت العليل الذي جرّه النومُ
أفتحُ عيني على مشهدٍ أبعدُ الآن من كوكبٍ
حيثُ تغفو
ولا تطلبُ كأساً.. ولا مزّةً
ولا قارباً تعبر نهرَ الجحيمِ به
ماذا دهاك؟
ولماذا تهزُّ على وترٍ مهدَ يومي وليلي وحينَ شتائي
فأبقى أرتجُ تاجاً من الشوكِ، سكران، أرفعهُ أو أكاد 
على رأسكَ
حتى يقودك فجراً يهوذا إلى الصلبِ
أو تتهاوى بعيداً إلى البحر
دونَ يديكَ.. ودون يديّْ
ودون كلامٍ يبدّدُ هذا الظلام
 
لماذا تُراني أُحدّقُ فيكَ؟
وفي شارعين يطوفان ، آخرةَ الليلِ ، بغداد
أو بروكسل أو  باريس أو لندن.. لا فرق
ومن أين لي أن أُفصّلَ ثوباً جميلاً كثوبكَ ؟
- أبيض فضفاضاً –
كي أرتخي عند بارٍ
أحدّقُ في قاعِ كأسٍ وذُبالةِ ثلجٍ وخمرٍ
وأمضغُ تبغاً رخيصاً
وأحكي عن الروح
تاريخها
والتفاتاتها وملاكين متَّسخين
ساطهما البرقُ
بعد الفجر سقط ملاكان من السماء مقوصا الأجنحة ترش دماؤها الليلَ
والباراتِ والقباب فتلقط من السماء حباً وحنطة، كم بكينا على طرقِ
الليل، رش وجهي ووجهكَ هذا المطرُ، كم بكينا فرط جمالٍ وعرقانٍ
صاعدٍ من المياه.. الملاكان يُمسحان دموعنا.
 
أينَ فجري أُرمّمُ به عتمةَ أيامنا الزائفة؟
أينَ جولاتنا في الجحيم والفردوس نستعيدها من دانتي؟
أينَ عكازتي أقوم بها وأتوضأُ.. وأعطيها لرامبو
((ملاكا أحلامٍ مسحوقةٍ)) كما تقول.. 
إبنا لوسيفر إله الضوء (الحرية والشعر)، دموزي وننكثرزيدا، إدريس والخضر، 
طُردا من الجنة لأن الكؤوس التي ملؤوها كانت مترعة تماماً.
قصّوا أجنحتهم عقاباً على كل هذه البصيرة الشاملة.
* * *
أينَ فوزي لأرمّمَ كأسي الذي كسروه ؟
أينَ فوزي ليشدَّ معي الخيوطَ الرفيعةَ كي نهاتف السماء ؟
أينَ فوزي لنراقب نسغَ النباتِ يعلو سيقانه ونسميه (دامو)؟
أين فوزي لننبشَ في سيرة (جوزيف كنشت )عن ما نساه هرمان هيسّه ؟
اينَ فوزي لنكتبَ على طولِ بغداد لافتةً تقول:
المُلكُ أساس العدل ؟
أينَ فوزي لنُعيدَ إخراج فيلم (رفائيل الفاسق)؟
أينَ فوزي لنتلصّصَ على هنري باربوس من ثقبِ المفتاح؟
أينَ فوزي لنكتب سيرةَ بشار وأبي نؤاس بريشة مغمسةٍ
  بالدموع والخمر ؟
أين فوزي لنُشعل، ثانيةً، شعلةَ الدُورة ونُضيء دجلة
وندور حولها ونرقصَ رقصة العبيد ؟
أين فوزي لنشهد فجرَ بغداد مجروحةٍ ونغني :
( مدنٌ بلا فجر تنام ) ؟
أين فوزي ليعيد لي خاتمي/ فتختي فأزهو بها طافحاً 
بطلعِ الإناثِ يرشقُ أصابعي وعيوني ؟
أينَ فوزي ليشطبَ ببسالةٍ أسماءَ الشعراءِ الكتَبةِ ؟
أينَ فوزي يعدّلُ ضفاف النهر ويزيلُ عنها الأسوار الغليظة؟
أينَ فوزي يدور في آخر الليل على عجلةٍ ، وهو سكران،
يتساقطُ الوردُ من حقيبته على الشوارع ؟
أين فوزي يرشُّ علينا الخمورَ كلما صحونا ؟
أينَ طاسته.. أين قنديهُ.. أين منديلهُ.. أينَ سكندولتهُ ؟
أينَ هلالهُ.. أين إيقونته.. وأين مداه ؟
أين قافلته وهي ترمي  علينا الذهب ؟
راحَ فوزي، فغنيت له:
على جواد الحلم الأشهبِ.. سُرقتَ
سرقتكَ الخيولُ إلى حيث تخرجُ شمسٌ من 
البحر أو حيث تغطسُ في البحر
لا فرق
غابت أغانيكَ يا سيدي وصديقي .
* * *
كيف أعترفُ الآن أن حشداً من الملائكةِ تساقطَ
أثناء رمي الرصاص إلى الأعالي؟
كيفَ يمكن أن أوضّحَ أننا قد صنعنا ألفَ ليلةٍ وليلةٍ
جديدة وفقدناها في الوقت نفسه؟
كيف يمكن أن أحلَّ معادلة: الروح مقابل الغذاء؟
كيف يمكن أن أتّـقي برصاً يتساقطُ من قبة إنليل أو من 
سلاحفِ أبنائِه في الجحيم؟
كيف أعترفُ الآن أن أسماكاً مثلَ رامبو تطلع كلّ يومٍ
على ضفاف دجلة والفرات، وأنها تلبطُ.. تلبطُ
ثم تموت؟
كيف أعترف الآن لمن (يهرم ويشيخ وفي راحتيه زهرةُ حبه لا تذبل)
أن راحاتنا عاطلةٌ ولا تمسك بها شيئاً
سوى الهواء ؟
كيف اعترفُ أن قافلةَ الشعراء المصعوقةِ بالبروق محطمةٌ
في مقاهي بغداد وتحت طاولات طويلة من الرماد.
كيف أحملُ أصابعي.. وماذا أفعلُ بها؟
كيف أحملُ لساني.. وماذا أفعلُ به؟
كيف ألهو بنردي؟
كيف ألهو بيومي؟
لم أعد أتذكر شيئاً سوى متى أقول: لا
ومتى أقول: نعم
* * *
سرقتكَ الخيولُ إذن
لا سرج، لا زوّادة، لا كأس
أفقٌ تسدُّ منافذه الخيولُ الهاربة
أفقٌ غبارٌ لا رنين به سوى بقايا صوتك المطعون
يقرأ آخرَ الليل القصائدَ
شاحبٌ ومقطّعٌ÷،
ودمٌ على موائدنا.. سخامٌ.. ثمة طائراتٌ قربنا وممزقون
 (وتأخذني من يدي)
آخذكَ من يدكَ وأصرخ للبحر للبحر.
ولكن أينَ يدُك التي لوّحت عالياً ثم طاحت إلى الأرض
تسحبها الخيلُ منزوعةٌ من نداءٍ ومن خاتمٍ ومن لطخةِ
خمرٍ كانت تثيرُ الملائكة غيظاً وشهوةً ؟
إذن أينَ أنت الآن لآخذكَ إلى بحرِ موتى وخردةٍ وخرابٍ
ونارٍ من الناس موقدةٍ لا تنام ؟
إذن أينَ أنتَ الآن لتسمعَ ما لم يقله زمانٌ ولا شافهُ بشرٌ
ولا كتبه صانعُ أسطورةٍ أو خرافة ؟
كنتَ ترى (الفخذَ محروقةً) وترى العنفَ منفجراً في
حشودٍ مطوَّحةٍ  بالهتاف، وجُننتَ لتصف (قارة أوبئةً)
يا صديقي.. يا صديقي
لو أنكَ رأيتَ أوبئةَ قارتنا الآن لصمتَّ
وما قلتَ شيئاً سوى طرفِ سبابةٍ تشير إلى الشرق
تلعنُه... ثم تبكي عليه.
ماذا سوى جُثثٍ ودمعٍ لا يجفُّ
ماذا سوى (حجرٍ من جنونٍ ) يصيح
ماذا سوى فكِ الحمارِ يلوحُ أبيضَ رمّدتهُ أُتونها
ماذا سوى الأغصان تشهق : لا أحد.
كلبٌ هزيلٌ راحَ يلوي ذيلَه
كلبٌ هزيلٌ.. آخرُ صورةٍ للموتِ
ينبشُ قلبَـنا ورؤوسنا
كلبٌ يجرُّ خرافةً سوداء تنحبُ أو تشيخ
عرباتّها تمضي بنا تعوي
فنودعُ ما أدّخرنا من جمالٍ في السواقي
ثمَّ نصمتُ ناطرين..
سكبت على صينيّةٍ شعراً طويلاً
والشموعُ تلطخت
حنّاءُ إصبعها ودمعةُ كخلِها
كرخٌ عتيقٌ كُلُه يبكي توابيتاً على ضفةِ المياه
سكبت على صينية تطفو على أمواجِ دجلة
آخر ما تبقى من سلالتها
كُلهم ماتوا
 
من كان يعلمُ أن طريقنا في آخر الليل إدلهَّم إلى قبورٍ أو
سوادٍ أو خراب، كنا ندغدغُ هذه الطرقات بالضحك البريء
 وتمتمات الشعرِ والأرواح
كنّا نغذُّ الخطوَ نحو الوهم أو نمشي إليه 
كما العساكر يقرعون الطبلَ دون سماعَ شيء
كنّا نعدّ النجمَ في عزّ الظهيرةِ
لكنَّه في الظهيرة كان يسكرُ في خلوةٍ
ليرطبّ حنجرة يابسة
يا لكاردنيا.. أحبت زمرةً من نافضي الأوهام، أحبت
شكلَه وطرازَ خمرتهِ ونشوةَ ظُهرهِ ومسائهِ وجنونَ ليلته
التي ما زال يمنع فجرَها كفُّ الحصيري
إذ يصول على الموائد:
 
- عبد الأمير.. ماذا بجيبكَ؟
- منٌّ وسلوى
يالعاصفة الغبار ووردنا المنهوب في نارٍ تشبُّ وتنطفي في الماء
- ماذا بجيبكَ يا زمان
- غيمٌ وأسلحة
عبد الأمير يقول: إذن وداعاً.. لن أُؤجّلَ سكرتي
ذهبوا إلى ليل
وخلونا إلى ليل
وصار الليل أطول ما يكون
* * *
قربَ رفيف أجنحةِ القُبّرات
قربَ بستانها المغلّـفِ بالشمسِ
قربَ منهلٍ من مناهلها
وقربَ جداولَ لا تنتهي
انتصبَ تمثالُ فوزي شارداً بين حشدٍ من ذوي الرؤوس السود
 يلهجون بدعاءٍ سومريّ له.. وللماء يفيضُ من
لحيتهِ.. ومن كتفيه (مثل إنكي)
وكانت الأسماكُ تلعبُ في عيونِه وفي حقيبتِهِ ويديه
الأسماكُ تقفزُ من حضنِه نحو رقبته
ولا شيء سوى ابتسامتهِ الساخرة
كانوا يصعّدون نشيدَهم له وابتهالاتهم فيه بلغاتٍ عديدة 
وكان يهمسُ لهم دون أن يسمعوه:
 (قلبي الذي باتَ يعرفُ الناس)
أخذَ أهلُ الكرادة تمثالَـه ووضعوه في قصرٍ، 
وأوقفوا حرساً خاصاً أمامه يؤدي طقوس المجيء والذهاب 
مثل رقّاص ساعةٍ
ماذا يفعلُ تمثال فوزي بكل هذه التحايا المخزيةِ (كما يسميها)،
نزلَ عن قاعدة تمثاله، وقلبه ينبضُ بين يديه،
وأخرجَ من دُرج الموسيقا (فانتازيا شومان) ، التشيلو والبيانو فقط ،
 وانحدر مع الضوء إلى آخر آباره.
كأسه معلّقٌ في البروق (كان الحرسُ يذهبُ ويجيء كما 
رقاص الساعة) وكان هو يرتّبُ عناصر الطبيعة مع (مندليف)
 ثم يعود إلى قاعدة تمثاله وهو يشهقُ من حسرةٍ
أو لذةٍ، ويوقف الحرسَ ويعانقه ويقول له : يا حبيبي..
ما الذي قد صنعتَ بنفسك.
* * *
ما الذي أوهمَ فوزي أن نارَ الخمرِ أعلى؟
ما الذي أوهمَه أن الفراشات، التي طارت إلى إصبعه ، نارٌ.. 
وأن الشمسَ نعلاً ؟
ما الذي رتَّبَ في قامتهِ نسلاً من الزهر
ومن حوّله.. صيّر من خطوته الأنهارَ بعلاً ؟
من تُرى أرشده للنبعِ مخلوطاً ؟
فصفّاه وصار الشعرُ وعلاً
قاده ليلاً إلينا..
فصرخنا وانتشينا وضحكنا وبكينا
ثم صار الشعرُ بغلا
قد ركّبناه وسقناه وحمّلناه قشاً
ورثيناه إذا ما انتحرَ البغلَ صبوراً
ثم عشنا في تبات ونبات
* * *
هكذا ، أيها الهرمسُ الضعيف، هيكلٌ هشٌّ وقلبٌ من قصب
ما الذي جعلَ كلّ هذه الغيوم ترتبكُ عندما رفعتَ عصاك.
كان قلبُـك ينبوعَ وهمٍ كبيرٍ .. متى تتعلم أيها المعلّم؟
وكان قلبكَ مطيةَّ همّ كبيرٍ.. متى تتعلم؟
وكيف تُراك ستدرك أن بلاداً من الماء جفّت
وأن الصروح هوت صامتةً
وأن الزمان انحنى على جُرحهِ
وتجمّع في دمعةِ طفلٍ
متى تتعلم أيها المعلّم الكبير ؟
كان يمكن أن أسلخَ حنجرتي واستبدلها ببوقٍ لكي لا أجوع،
 لكني أختفيتُ وراءَ حنجرتي أدوّن النهارَ والليل 
وهما يتلاحقان مثل قطٍ وفأرٍ
وتعبتُ ذات يومٍ من التدوين
أين حنجرتي؟
سرقوها إذن !
حسناً.. أين نوتاتي ومدوناتي؟
يا إلهي.. لم أكن أكتبُ بحبرٍ، كنتُ أكتبُ بماءٍ.
هل لا بدّ من استبدال الحنجرةِ ببوقٍ لكي يبقى النشيدُ عالياً
هذه مهنةٌ مُرهقةٌ
وداعاً أيتها المهنةُ المرهقةُ
وداعاً أيها الشعر.
1992
 



إلى فوزي كريم

لماذا تُراني أحدّقُ فيك؟وأنسى رفيفَ أغانيكأنسى النجومَ التي تتساقطحين تغني.. وحين تئنُّوحين تشيرُ إلى جهةِ الروحأنسى..ومن رهقٍ أتجمعُ في نقطةٍ وأُناديكأنسى..وأنسى الطيورَ التي هشّها الغوصُ في جوهر فاتنٍ وعميقيدكَ الآن تخرجُ من حائطٍ وتقدّمُ كأساً إليّيدكَ الآن تخرجُ من حائطٍ وتُخيط رمادييدكَ الآن تُشعل شمعاً لمائدتي آخر الليلبعد أن  غادر الأصدقاءأنسى..وأنسى بأنكَ تخلطُ خمري بماءِ المطرولكنني أتذكرُ..كانت أغانيكَ تحت نخلةِ (الإتحاد) الطويلةتعلو بعيداً.. وتعلوفينشقُّ فجرٌوتضحكُ بغدادُ من طفلها كيف صار يؤذنُأجملُ من أعلنَ الفجر.. فوزيوأجملُ من صاغَ وردتهُأجملُ ظبيٍ حبا نحو منبعِهِواستحمَ به وتعمّد.لنا الصبحُ والليلُ مزدحمَينوالفجرُ لكلنا كلُّ هذي المباهجُ تعلو وتهبطُوالسكرُ لكأجملُ مَن حَمّسَ النارَ.. فوزيوأجمل من فاضَ في راحتيهوأذكرُ من تعبٍ ما كان يهذيه كفُّكَما كان يبعثه من دفوفٍ ومن قصبٍوأخشابِ طرفاء منقوعةٍ في المياه.
لماذا تُراني أُحدّق فيك؟وأهوى بأن أفتح البابَأهوى بأن أتلصّصَ.. كيف تطيرُوكيف تطرزُ شالاً من النوركيف تذوب .ولكنّ باباً من الماءِ أغلقتهُ ومضيتلماذا أهزّ على وترٍ مهدَكَ حينَ شتائي؟وأنت العليل الذي جرّه النومُأفتحُ عيني على مشهدٍ أبعدُ الآن من كوكبٍحيثُ تغفوولا تطلبُ كأساً.. ولا مزّةًولا قارباً تعبر نهرَ الجحيمِ بهماذا دهاك؟ولماذا تهزُّ على وترٍ مهدَ يومي وليلي وحينَ شتائيفأبقى أرتجُ تاجاً من الشوكِ، سكران، أرفعهُ أو أكاد على رأسكَحتى يقودك فجراً يهوذا إلى الصلبِأو تتهاوى بعيداً إلى البحردونَ يديكَ.. ودون يديّْودون كلامٍ يبدّدُ هذا الظلام
لماذا تُراني أُحدّقُ فيكَ؟وفي شارعين يطوفان ، آخرةَ الليلِ ، بغدادأو بروكسل أو  باريس أو لندن.. لا فرقومن أين لي أن أُفصّلَ ثوباً جميلاً كثوبكَ ؟- أبيض فضفاضاً –كي أرتخي عند بارٍأحدّقُ في قاعِ كأسٍ وذُبالةِ ثلجٍ وخمرٍوأمضغُ تبغاً رخيصاًوأحكي عن الروحتاريخهاوالتفاتاتها وملاكين متَّسخينساطهما البرقُبعد الفجر سقط ملاكان من السماء مقوصا الأجنحة ترش دماؤها الليلَوالباراتِ والقباب فتلقط من السماء حباً وحنطة، كم بكينا على طرقِالليل، رش وجهي ووجهكَ هذا المطرُ، كم بكينا فرط جمالٍ وعرقانٍصاعدٍ من المياه.. الملاكان يُمسحان دموعنا.
أينَ فجري أُرمّمُ به عتمةَ أيامنا الزائفة؟أينَ جولاتنا في الجحيم والفردوس نستعيدها من دانتي؟أينَ عكازتي أقوم بها وأتوضأُ.. وأعطيها لرامبو((ملاكا أحلامٍ مسحوقةٍ)) كما تقول.. إبنا لوسيفر إله الضوء (الحرية والشعر)، دموزي وننكثرزيدا، إدريس والخضر، طُردا من الجنة لأن الكؤوس التي ملؤوها كانت مترعة تماماً.قصّوا أجنحتهم عقاباً على كل هذه البصيرة الشاملة.* * *أينَ فوزي لأرمّمَ كأسي الذي كسروه ؟أينَ فوزي ليشدَّ معي الخيوطَ الرفيعةَ كي نهاتف السماء ؟أينَ فوزي لنراقب نسغَ النباتِ يعلو سيقانه ونسميه (دامو)؟أين فوزي لننبشَ في سيرة (جوزيف كنشت )عن ما نساه هرمان هيسّه ؟اينَ فوزي لنكتبَ على طولِ بغداد لافتةً تقول:المُلكُ أساس العدل ؟أينَ فوزي لنُعيدَ إخراج فيلم (رفائيل الفاسق)؟أينَ فوزي لنتلصّصَ على هنري باربوس من ثقبِ المفتاح؟أينَ فوزي لنكتب سيرةَ بشار وأبي نؤاس بريشة مغمسةٍ  بالدموع والخمر ؟أين فوزي لنُشعل، ثانيةً، شعلةَ الدُورة ونُضيء دجلةوندور حولها ونرقصَ رقصة العبيد ؟أين فوزي لنشهد فجرَ بغداد مجروحةٍ ونغني :( مدنٌ بلا فجر تنام ) ؟أين فوزي ليعيد لي خاتمي/ فتختي فأزهو بها طافحاً بطلعِ الإناثِ يرشقُ أصابعي وعيوني ؟أينَ فوزي ليشطبَ ببسالةٍ أسماءَ الشعراءِ الكتَبةِ ؟أينَ فوزي يعدّلُ ضفاف النهر ويزيلُ عنها الأسوار الغليظة؟أينَ فوزي يدور في آخر الليل على عجلةٍ ، وهو سكران،يتساقطُ الوردُ من حقيبته على الشوارع ؟أين فوزي يرشُّ علينا الخمورَ كلما صحونا ؟أينَ طاسته.. أين قنديهُ.. أين منديلهُ.. أينَ سكندولتهُ ؟أينَ هلالهُ.. أين إيقونته.. وأين مداه ؟أين قافلته وهي ترمي  علينا الذهب ؟راحَ فوزي، فغنيت له:على جواد الحلم الأشهبِ.. سُرقتَسرقتكَ الخيولُ إلى حيث تخرجُ شمسٌ من البحر أو حيث تغطسُ في البحرلا فرقغابت أغانيكَ يا سيدي وصديقي .* * *كيف أعترفُ الآن أن حشداً من الملائكةِ تساقطَأثناء رمي الرصاص إلى الأعالي؟كيفَ يمكن أن أوضّحَ أننا قد صنعنا ألفَ ليلةٍ وليلةٍجديدة وفقدناها في الوقت نفسه؟كيف يمكن أن أحلَّ معادلة: الروح مقابل الغذاء؟كيف يمكن أن أتّـقي برصاً يتساقطُ من قبة إنليل أو من سلاحفِ أبنائِه في الجحيم؟كيف أعترفُ الآن أن أسماكاً مثلَ رامبو تطلع كلّ يومٍعلى ضفاف دجلة والفرات، وأنها تلبطُ.. تلبطُثم تموت؟كيف أعترف الآن لمن (يهرم ويشيخ وفي راحتيه زهرةُ حبه لا تذبل)أن راحاتنا عاطلةٌ ولا تمسك بها شيئاًسوى الهواء ؟كيف اعترفُ أن قافلةَ الشعراء المصعوقةِ بالبروق محطمةٌفي مقاهي بغداد وتحت طاولات طويلة من الرماد.كيف أحملُ أصابعي.. وماذا أفعلُ بها؟كيف أحملُ لساني.. وماذا أفعلُ به؟كيف ألهو بنردي؟كيف ألهو بيومي؟لم أعد أتذكر شيئاً سوى متى أقول: لاومتى أقول: نعم* * *سرقتكَ الخيولُ إذنلا سرج، لا زوّادة، لا كأسأفقٌ تسدُّ منافذه الخيولُ الهاربةأفقٌ غبارٌ لا رنين به سوى بقايا صوتك المطعونيقرأ آخرَ الليل القصائدَشاحبٌ ومقطّعٌ÷،ودمٌ على موائدنا.. سخامٌ.. ثمة طائراتٌ قربنا وممزقون (وتأخذني من يدي)آخذكَ من يدكَ وأصرخ للبحر للبحر.ولكن أينَ يدُك التي لوّحت عالياً ثم طاحت إلى الأرضتسحبها الخيلُ منزوعةٌ من نداءٍ ومن خاتمٍ ومن لطخةِخمرٍ كانت تثيرُ الملائكة غيظاً وشهوةً ؟إذن أينَ أنت الآن لآخذكَ إلى بحرِ موتى وخردةٍ وخرابٍونارٍ من الناس موقدةٍ لا تنام ؟إذن أينَ أنتَ الآن لتسمعَ ما لم يقله زمانٌ ولا شافهُ بشرٌولا كتبه صانعُ أسطورةٍ أو خرافة ؟كنتَ ترى (الفخذَ محروقةً) وترى العنفَ منفجراً فيحشودٍ مطوَّحةٍ  بالهتاف، وجُننتَ لتصف (قارة أوبئةً)يا صديقي.. يا صديقيلو أنكَ رأيتَ أوبئةَ قارتنا الآن لصمتَّوما قلتَ شيئاً سوى طرفِ سبابةٍ تشير إلى الشرقتلعنُه... ثم تبكي عليه.ماذا سوى جُثثٍ ودمعٍ لا يجفُّماذا سوى (حجرٍ من جنونٍ ) يصيحماذا سوى فكِ الحمارِ يلوحُ أبيضَ رمّدتهُ أُتونهاماذا سوى الأغصان تشهق : لا أحد.كلبٌ هزيلٌ راحَ يلوي ذيلَهكلبٌ هزيلٌ.. آخرُ صورةٍ للموتِينبشُ قلبَـنا ورؤوسناكلبٌ يجرُّ خرافةً سوداء تنحبُ أو تشيخعرباتّها تمضي بنا تعويفنودعُ ما أدّخرنا من جمالٍ في السواقيثمَّ نصمتُ ناطرين..سكبت على صينيّةٍ شعراً طويلاًوالشموعُ تلطختحنّاءُ إصبعها ودمعةُ كخلِهاكرخٌ عتيقٌ كُلُه يبكي توابيتاً على ضفةِ المياهسكبت على صينية تطفو على أمواجِ دجلةآخر ما تبقى من سلالتهاكُلهم ماتوا
من كان يعلمُ أن طريقنا في آخر الليل إدلهَّم إلى قبورٍ أوسوادٍ أو خراب، كنا ندغدغُ هذه الطرقات بالضحك البريء وتمتمات الشعرِ والأرواحكنّا نغذُّ الخطوَ نحو الوهم أو نمشي إليه كما العساكر يقرعون الطبلَ دون سماعَ شيءكنّا نعدّ النجمَ في عزّ الظهيرةِلكنَّه في الظهيرة كان يسكرُ في خلوةٍليرطبّ حنجرة يابسةيا لكاردنيا.. أحبت زمرةً من نافضي الأوهام، أحبتشكلَه وطرازَ خمرتهِ ونشوةَ ظُهرهِ ومسائهِ وجنونَ ليلتهالتي ما زال يمنع فجرَها كفُّ الحصيريإذ يصول على الموائد:
- عبد الأمير.. ماذا بجيبكَ؟- منٌّ وسلوىيالعاصفة الغبار ووردنا المنهوب في نارٍ تشبُّ وتنطفي في الماء- ماذا بجيبكَ يا زمان- غيمٌ وأسلحةعبد الأمير يقول: إذن وداعاً.. لن أُؤجّلَ سكرتيذهبوا إلى ليلوخلونا إلى ليلوصار الليل أطول ما يكون* * *قربَ رفيف أجنحةِ القُبّراتقربَ بستانها المغلّـفِ بالشمسِقربَ منهلٍ من مناهلهاوقربَ جداولَ لا تنتهيانتصبَ تمثالُ فوزي شارداً بين حشدٍ من ذوي الرؤوس السود يلهجون بدعاءٍ سومريّ له.. وللماء يفيضُ منلحيتهِ.. ومن كتفيه (مثل إنكي)وكانت الأسماكُ تلعبُ في عيونِه وفي حقيبتِهِ ويديهالأسماكُ تقفزُ من حضنِه نحو رقبتهولا شيء سوى ابتسامتهِ الساخرةكانوا يصعّدون نشيدَهم له وابتهالاتهم فيه بلغاتٍ عديدة وكان يهمسُ لهم دون أن يسمعوه: (قلبي الذي باتَ يعرفُ الناس)أخذَ أهلُ الكرادة تمثالَـه ووضعوه في قصرٍ، وأوقفوا حرساً خاصاً أمامه يؤدي طقوس المجيء والذهاب مثل رقّاص ساعةٍماذا يفعلُ تمثال فوزي بكل هذه التحايا المخزيةِ (كما يسميها)،نزلَ عن قاعدة تمثاله، وقلبه ينبضُ بين يديه،وأخرجَ من دُرج الموسيقا (فانتازيا شومان) ، التشيلو والبيانو فقط ، وانحدر مع الضوء إلى آخر آباره.كأسه معلّقٌ في البروق (كان الحرسُ يذهبُ ويجيء كما رقاص الساعة) وكان هو يرتّبُ عناصر الطبيعة مع (مندليف) ثم يعود إلى قاعدة تمثاله وهو يشهقُ من حسرةٍأو لذةٍ، ويوقف الحرسَ ويعانقه ويقول له : يا حبيبي..ما الذي قد صنعتَ بنفسك.* * *ما الذي أوهمَ فوزي أن نارَ الخمرِ أعلى؟ما الذي أوهمَه أن الفراشات، التي طارت إلى إصبعه ، نارٌ.. وأن الشمسَ نعلاً ؟ما الذي رتَّبَ في قامتهِ نسلاً من الزهرومن حوّله.. صيّر من خطوته الأنهارَ بعلاً ؟من تُرى أرشده للنبعِ مخلوطاً ؟فصفّاه وصار الشعرُ وعلاًقاده ليلاً إلينا..فصرخنا وانتشينا وضحكنا وبكيناثم صار الشعرُ بغلاقد ركّبناه وسقناه وحمّلناه قشاًورثيناه إذا ما انتحرَ البغلَ صبوراًثم عشنا في تبات ونبات* * *هكذا ، أيها الهرمسُ الضعيف، هيكلٌ هشٌّ وقلبٌ من قصبما الذي جعلَ كلّ هذه الغيوم ترتبكُ عندما رفعتَ عصاك.كان قلبُـك ينبوعَ وهمٍ كبيرٍ .. متى تتعلم أيها المعلّم؟وكان قلبكَ مطيةَّ همّ كبيرٍ.. متى تتعلم؟وكيف تُراك ستدرك أن بلاداً من الماء جفّتوأن الصروح هوت صامتةًوأن الزمان انحنى على جُرحهِوتجمّع في دمعةِ طفلٍمتى تتعلم أيها المعلّم الكبير ؟كان يمكن أن أسلخَ حنجرتي واستبدلها ببوقٍ لكي لا أجوع، لكني أختفيتُ وراءَ حنجرتي أدوّن النهارَ والليل وهما يتلاحقان مثل قطٍ وفأرٍوتعبتُ ذات يومٍ من التدوينأين حنجرتي؟سرقوها إذن !حسناً.. أين نوتاتي ومدوناتي؟يا إلهي.. لم أكن أكتبُ بحبرٍ، كنتُ أكتبُ بماءٍ.هل لا بدّ من استبدال الحنجرةِ ببوقٍ لكي يبقى النشيدُ عالياًهذه مهنةٌ مُرهقةٌوداعاً أيتها المهنةُ المرهقةُوداعاً أيها الشعر.1992

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top