التنوع فـي العراق مشكلة تتطلب حلاً...

آراء وأفكار 2019/06/01 12:00:00 ص

التنوع فـي العراق مشكلة تتطلب حلاً...

 د. لاهاي عبد الحسين

لم يعد كافياً الإعتراف بالتنوع في العراق على أسس دينية ومذهبية وعرقية والمطالبة بتقبل البعض للبعض الآخر. فهذه مقاربة تقليدية بائدة تبرر واقع الحال وتحافظ عليه. مقاربة تخشى المواجهة وتتطير من الإقدام على تغييرها لدوافع شتى لعل من أخطرها ترسيخ الإنقسامات وقبول التعايش ضمن بؤر معزولة عن بعضها البعض. تتزايد كل يوم أعداد الأشخاص الباحثين عن موطئ قدم لهم في سوق العمل وبخاصة فيما يتعلق بحملة الشهادات الجامعية والعليا. ولكن هؤلاء يجدون أنفسهم على قارعة الطريق محبطين ساخطين على ما أرتسم في خيالاتهم من أحلام مستحقة ليشرعوا في العمل وممارسة اختصاصاتهم.

وتزداد معاناة هؤلاء عمقاً وهم يرون أن البعض من نظرائهم يحظى بأكثر من فرصة لقربه من هذا الطرف أو ذاك بعيداً عما تأهلوا إليه. وهذه المحافظات تبحث عن أبنائها ليبقى البغدادي بغدادياً والبصري بصرياً فيما يشكو الجميع مما يسمونه "تشظي الهوية الوطنية". تتشظى الهوية الوطنية عندما تغلق الأبواب ويطالب البعض بكفالة أحد لدخول محافظة أو أقليم لتبرير القدوم إليه في وقت يتعرف فيه كثيرون على إلغاء الحواجز والحدود بين دول متفاهمة لا يفصلها عن بعضها غير شارع نظيف أو مكتب مرور متواضع.
شخص الدكتور علي الوردي منذ زمن بعيد إحدى أهم مشكلات المجتمع العراقي بأنّها تتمثل في إنعدام الثقة بين المواطن والحكومة. وأقترح بناءاً على ذلك أنْ تواجه الحكومة العراقية، اي حكومة ما أسماه "إصلاح ذات البين بين الحكومة والشعب"، بإعتبارها أحد أبرز التحديات التي تواجهها. وعرض الوردي للجذور التاريخية للمشكلة التي تعود حديثاً إلى الحكم العثماني الذي كرس التفرقة وأرهق المواطن المعدم بضرائب باهضة واكتفى بمصالحة عدد من رؤساء العشائر والوجهاء من خلال تخويلهم صلاحية السيطرة على جماعاتهم والسماح بإطلاق أياديهم لضم ما شاءوا من الأراضي والثروات. ولم يتوان هؤلاء عما أتيح لهم من فرصة للتغالب فكان أنْ نشأ نظام الإقطاع الذي تحول بموجبه معظم رجال العشيرة إلى أجراء فقراء بين ليلة وضحاها. وجاء الإنكليز بعد ذلك فكان أنْ عززوا هذا النظام بعد أنْ تعبوا من محاولات الإصلاح والتغيير الاجتماعي الذي لم يروا فيه مصلحة قومية عليا. وهذا ما دأبت أنظمة سياسية متعاقبة على القيام به سواء في ظل النظام الملكي (1921-1958) أو الأنظمة التي أعقبته بعد قيام الجمهورية.
يبرر رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد سياسته لمعالجة مشكلة اليهود من خلال إصدار قانون للهجرة يسمح بالراغبين منهم لمغادرة العراق إلى اسرائيل التي أعلن عن تأسيسها تواً (1948) بأنّه كان امام حزمة من المشاكل السياسة المتضاربة. جاء ذلك في وثيقة نشرت كملحق في رواية "المطيرجي"، لإيلي عمير ترجمها إلى العربية علي عبد الأمير صالح وصدرت عن دار الجمل عام 2018. يقول السعيد: كان هناك الروس الذين يثيرون الضوضاء فيما يهدد الإيرانيون بتأجيج الشيعة ويكتسب الشيوعيون زخماً متنامياً على مستوى الشارع ويعلن الكرد التمرد في الشمال. ويعلق على اليهود بالقول كانوا يعانون عزلة متزايدة وحقد متنامي وبخاصة بعد تأسيس دولة "اسرائيل"، التي سبقتها أعمال العنف خلال ما أصطلح عليه بـ "الفرهود"، والذي راح ضحيته العشرات منهم بين جريح وقتيل ونهبت أموالهم وأنتهكت بيوتهم ورحلوا من المناطق التي كانوا يسكنون فيها إلى أخرى هامشية. حصل ذلك عام 1941 وتزامن مع تصاعد المد الفاشي في العراق بوصول رشيد عالي الكيلاني إلى رئاسة الوزراء المعروف بميوله إلى المانيا الهتلرية آنذاك. بدلاً من تبني سياسة تعمل على إعادة اللحمة الوطنية للمجتمع العراقي وبذل جهد أكبر في هذا المجال تبنى نوري السعيد سياسة يمكن أنْ يطلق عليها "التسكين لا العلاج". فكان أنْ سمح لليهود الراغبين بمغادرة العراق للهجرة إلى "إسرائيل"، مقابل التخلي عن جنسيتهم العراقية وكل الأوراق الثبوتية ذات الصلة بها. المفاجأة، والقول للسعيد أنْ تقدم 80 ألف يهودي للتسجيل على الهجرة من أصل 130 ألف أي ما يزيد على 60% من المجموع الكلي لليهود في العراق آنذاك. استمرت أعداد اليهود الراغبين في الهجرة بالتزايد تزامناً مع قيام الحكومة العراقية بتسريح الكثير منهم من وظائفهم وإغلاق مدارسهم بسبب تناقص أعداد الطلبة والمعلمين بعد هجرة العديد منهم. وفيما هم ينتظرون وصول الطائرات الخاصة لنقلهم إلى "اسرائيل" عاشوا في ظل أوضاع صعبة معلقين بلا وطن يؤويهم أو سقف يظلل عليهم بعد أنْ شرعوا ببيع ممتلكاتهم بأبخس الأثمان.
السؤال ماذا لو تبنت حكومة نوري السعيد سياسة مختلفة تقوم على مبدأ حماية مواطنيها والتشجيع على التداخل والإندماج الاجتماعي والثقافي بين اليهود والجماعات الأخرى من المسلمين والعرب والمسيحيين والأرمن والكرد والتركمان وغيرهم. هذه واحدة من الإنتقادات التاريخية التي ستبقى قائمة بوجه حكومة نوري السعيد. فقد كان لتلك السياسة أنْ سكنت البعض فيما سمحت بالتضحية بالبعض الآخر وشجعت بالمحصلة على تنامي الحركات السياسية المعادية لها وتزايد المشاعر الشعبية السلبية تجاهها. لقد كان لهجرة اليهود أنْ خسر العراق العقل التجاري الناجح والمنظم له إلى جانب خسارته لكفاءات عظيمة في مختلف المجالات بما فيها العلمية والتعليمية والطبية والفنية. ولا زال كثير من هؤلاء يحملون مشاعر طيبة للعراق على الرغم من الظروف الصعبة التي أقحموا فيها وأجبروا من خلالها على التخلي عن أراضيهم وممتلكاتهم وحزمة ذكرياتهم وجذورهم الاجتماعية والثقافية. يذكر الدكتور قيس النوري في دراسته عن الكلدان المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي أنّ هؤلاء لم يهتموا بتبني ثقافة المجتمع الأميركي المضيف بقدر ما أهتموا بالمحافظة على منظومتهم الأخلاقية والثقافية كما ألفوها في العراق. وحققوا ذلك من خلال الزواج الداخلي ضمن الجماعة للمحافظة على السلطة الأبوية الذكورية والعلاقات العائلية والروابط القرابية وحتى احتضان الراغبين من البعيدين من أبناء جلدتهم في الإلتحاق بهم ومساعدتهم على التكيف لنمط الحياة المختلفة عليهم. وهذا ما أدى إلى أنْ يكونوا مجتمعات كلدانية عراقية أمريكية في ديترويت ومحيطها. ويعيد مؤلف رواية "المطيرجي"، في لقاء مع مازن لطيف علي التأكيد على هذا الجانب فيما يتعلق باليهود العراقيين مؤكداً على تواصل بقايا الإنتماء الثقافي للعراق وظهورها حتى الجيل الثالث الذي ولد خارج العراق ولا يعرف عنه غير حكايات وذكريات منقولة عن الأجداد ممن يقاربون ثمانينياتهم اليوم.
سقط النظام الملكي وجاءت أنظمة أخرى ولكن مشكلات العراق ذات الصلة بالتنوع بقيت على حالها تستعصي على الحل. بينما تمّ تبني سياسات وطنية شاملة على مستوى التعليم والعمل حققت نجاحات كمية واسعة بيد أنّ السلطة بقيت موضوعاً للهيمنة والصراع من قبل البعض في مواجهة البعض الآخر. اليوم، يتحدث الجميع عن مشكلة التنوع الديني والمذهبي والعرقي بطريقة التعايش والتهدئة وليس بطريقة الحل وتبني سياسات إعادة الإدماج والإندماج على مستوى المؤسسات ودوائر الدولة. اخذت هذه الطريقة شكلاً رتيباً يقوم على قاعدة "كل حزب بما لديهم فرحون". وهنا يكمن الخطر الأكبر. ما يجري اليوم حراك بإتجاه المزيد من التكريس للبنية التقليدية في المجتمع متعقبين أسهل الحلول وأبسطها حيث تسود حالة من التعايش السلمي بين الجماعات التقليدية المتنوعة مشوبة باليقظة والحذر والترصد. وهي حالة خطيرة لا تبشر بالتعافي بل وتنطوي على احتمالات متعددة منها ما هو خطير إنْ لم يصار إلى معالجته بطريقة الإنتقال إلى مرحلة الإندماج الطوعي والمرغوب به من قبل الأفراد. وهذا لن يتحقق ما لم تفتح الأبواب للمناقلة والتبادل والمساعدة على التأسيس من خلال توزيع أراضي لمن يقبل للعمل خارج المحافظة التي جاء منها وتشجيع الشركات والمؤسسات على توسيع ميادين عملها وتوفير ضمانات العمل اللازمة لأغراض المكافأة والتقاعد وما يرتبط بها. عندما ينهمك النظام السياسي بتسوية أوضاع المشتغلين فيه دون الإهتمام بالقاعدة الشعبية الواسعة التي يفترض أنّهم جاءوا للعمل في خدمتها لن ينتظر المواطنون طويلاً لمعالجة مصادر قلقهم والسعي لحماية أنفسهم وعوائلهم. سيتسبب هذا بخسائر لا تقدر بثمن على صعيد مستقبل البلاد وتفادي أنْ يقوم الحاضر بإعادة إنتاج نفسه وتكرار ذات الأخطاء التاريخية واليومية الراهنة. وهذا ما يحدث.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top