TOP

ترجمة : عدوية الهلالي
قبل أسبوعين من عيد الميلاد، بدأ عرض فيلم «في مطاردة بابا نويل «، وهو فيلم كوميدي عائلي من بطولة باتريك تيمسيت في دور سانتا كلوز، وقد نال بالفعل إعجاب الكثيرين ، إذ يمكن قضاء عيد الميلاد بدون ثلج بالنسبة للأطفال وحتى الكبار ، ولكن ليس بدون سانتا كلوز. فلديهم دائمًا قائمة صغيرة من الهدايا ليقدموها له. أما الطفلة زوي، فليس في ذهنها سوى شيء واحد هذا العام: «بندقية نفخ مليئة بالعلكة»،وهي أداة انتقامها من عدوتها اللدودة في المدرسة، والتي لا تجرؤ على أن تطلبها حتى من والدتها لذا تطلبها من سانتا كلوز. وهذا أمرٌ محزنٌ حقًا بالنسبة للممثلة الصغيرة التي تؤدي دور زوي، ثيا دي بايك التي تقول: «لو قابلتُ بابا نويل غدًا، لطلبتُ من جميع الأطفال الذين يتعرضون للتنمر أن يخبروا آباءهم بذلك، وأنهم لن يواجهوا بذلك أي مشاكل بعد الآن».
في الفيلم، لا تتلقى زوي الهدية المتوقعة. فتنطلق في مطاردة باتريك تيمسيت، الذي يرتدي زي بابا نويل، حتى أنها تلجأ إلى العنف للحصول على ما تريد. انها طفلةٌ تُثير غضب الكبار. وهو نمطٌ كلاسيكي في أفلام الكوميديا ​​الأنجلوسكسونية لعيد الميلاد، مثل فيلم "وحدي في المنزل". ويقول المخرج جيمس هوث عن فيلمه: "أردتُ حقًا أن أصنع فيلمًا لعيد الميلاد يُعبّر عنّا حقًا، فيلمًا فرنسيًا. مع كل تلك الإشارات السينمائية الأنجلوسكسونية، نعم، ولكن أيضًا بالاستناد إلى جذورنا وعالمنا الخاص من الحكايات الخرافية".
وتتوالى سلسلة من المغامرات بين زوي وسانتا كلوز وأشرار القصة التي تدور أحداثها في أجواء احتفالية ساحرة، ما يجعلها مناسبة لجميع الأعمار: "ساحرة ومضحكة، ورائعة حقًا!"، هكذا علّقت إحدى الأمهات وهي تغادر العرض. بينما قال طفل صغير: "كانت آسرة، وضحكنا كثيرًا!".
ومن الواضح ان فيلم ( في مطاردة بابا نويل ) هو فيلم كوميدي ممتع وغريب، يأخذنا في مطاردة سانتا كلوز برفقة فتاة صغيرة ذكية للغاية، مصممة على الانتقام من التنمر الذي تتعرض له. وقد أجرى باتريك تيمسيت، الذي يؤدي دور سانتا كلوز في هذه القصة، مقابلة مع موقع فرانس انفو تحدث فيه عن الفيلم وجاء فيه:
إنها كوميديا غريبة، أليس كذلك؟
-نعم، إنها كوميديا عيد ميلاد ذات إيقاع هادئ ظاهريًا، لكن هذه الروح نفسها موجودة بالفعل في فيلمي "وحدي في المنزل" و"تشارلي ومصنع الشوكولاتة".
انت تقدم شخصية بابا نويل مع أطفال رائعين وكبار ذوي شخصيات غريبة بعض الشيء؟
-الأشرار هم من يثيرون الاشمئزاز. أعني، إيزابيل بايلي، ملكة الأشرار الاستثنائيين، ذكية. وابنها، أنطوان جوين، يمثل الشرير. انا أحب هذا التشبيه، لكن سأترك لكم اكتشافه بأنفسكم. احببت تحديدًا هذه الروح،وهي ليست مختلة، بل روح نابضة بالحيوية ومفعمة بالحماس.
عندما نتذكر مسيرتك الفنية وأفلامك مثل "هندي في المدينة" و"الأزمة" وغيرها، نتخيل أن تجسيد شخصية سانتا كلوز أمر لا يُرفض؟
-إنها فرصة لا تُفوَّت أن اشارك في هذا السيناريو، وفي هذه المغامرة. ومع جيمس هوث، لقد شعرتُ أنه قدّمها على أكمل وجه. وهذا صحيح. فهناك إشارات من هذا القبيل يمكننا الحديث عنها، لكنه يبقى فيلمًا أصيلًا. فيلم فرنسي الجذور. أجل، لا يُمكن رفض ذلك. وكذلك فيلم "هندي في المدينة". أو فيلم "بولي"، حيث عملتُ مع تلك الطفلة الصغيرة بودي، والآن اشارك هذه الطفلة مجددًا. الأطفال لا يُخيفونني، وأنا أقبل الأدوار معهم .
سمعتُ أنك احتجتَ لأكثر من ثلاث ساعات من المكياج يوميًا أثناء التصوير لتُتقن ملامح وجه سانتا وتشبه بابا نويل ؟...
-الجزء الأصعب، والأكثر تعقيدًا حقًا، كان إيجاد المصداقية في شخصية بابا نويل اليومية. في مرحلة معينة، كيف تبدو حياته؟ أين يعيش؟ ماذا يرتدي؟ ثم هناك العلاقة مع هذه الطفلة الصغيرة؛ إنه لقاء حقيقي. ثيا دي بوك رائعة، إنها بطلة. ستمثل لجميع الأطفال ، وستخاطب الجمهورأطفالًا وحتى آباءً لتقول لهم ان الشجاعة في السعي وراء أحلامهم، وحتى الرغبة في الانتقام، ولكن بأسلحتهم الخاصة. هذا ما يعلمه لها لويجي، بابا نويل الخاص بها، عندما يقول لها: "لا تستخدمي بندقية نفخ، عليك أن تنتقمي بأسلحتك الخاصة"، أي دهاءك وذكائك وشغفك بالحياة.
عندما نشاهد الفيلم، يتضح شيء واحد عنك يا باتريك: يمكنك أن تجعلنا نضحك بنظرة واحدة. أسأل لأنك أضحكتنا لسنوات طويلة في عروضك الفردية، لكنك قررت التوقف. قبل عام ونصف. بعد 35 عامًا من الجولات، لماذا؟
-كان من الضروري التوقف. توقفت عندما سألني الناس عن السبب، لأنه بعد 35 عامًا كاملة، 35 عامًا من التواصل مع جمهور وفيّ للغاية، لم أسعَ أبدًا لتوسيع قاعدة جمهوري؛ بل سعيتُ لإسعادهم وكسب محبتهم من عرض لآخر

 بغداد / تبارك عبد المجيد

يعيش سكان قضاء كحلاء يوميات شاقة وسط ضعف الخدمات والبنية التحتية المتدهورة، حيث لا تصل المياه إلا لمن يشترونها، وتتحول الطرق مع كل مطر إلى برك طينية تعيق حركة الناس وتعرقل دوام الطلاب، كما يضطر الأطفال أحيانًا إلى ترك المدارس لمساعدة أهاليهم في تأمين متطلبات الحياة، فيما تهيمن الجنسيات الأجنبية والعمال من المحافظات الأخرى على الوظائف في شركات النفط المحيطة بالقضاء، ما يعكس التناقض الكبير بين ثروات المنطقة ومعاناة سكانها.

قال الناشط والمواطن أحمد الماجد إن سكان قضاء كحلاء يعيشون معاناة يومية شديدة نتيجة ضعف الخدمات الأساسية وانتشار الإهمال في البنى التحتية. وأضاف الماجد أن «المياه لم تعد تصل إلى أغلب المنازل في القرى، ويضطر الأهالي اليوم إلى شرائها، حتى لسقاية الحيوانات، ما يزيد الأعباء المالية على العائلات».
وأوضح الماجد لـ«المدى» أن الطرق في المنطقة مهترئة بشكل كبير، و«أي مطر يحول الشوارع إلى برك طينية تمنع التنقل، وتعرقل وصول الطلاب إلى المدارس، كما تزيد من صعوبة الوصول إلى المراكز الصحية أو الأسواق».
وأشار الماجد إلى أن المدارس تعاني من الاكتظاظ الشديد، حيث يصل عدد الطلاب في بعض الصفوف مع نقص واضح في التجهيزات والمقاعد، ما يجعل العملية التعليمية شبه متوقفة في أوقات الطقس السيئ. وأضاف أن المراكز الصحية محدودة وعددها قليل، وبعضها مغلق بسبب نقص الكوادر، مما يصعّب الحصول على العلاج، ونضطر للتنقل وتحمل تكاليف النقل إلى المستشفيات القريبة. وتابع الماجد بالقول «نحن في كحلاء نواجه صعوبة في كل شيء، من الحصول على المياه إلى التعليم والصحة والتنقل. نحتاج إلى تدخل عاجل لتأهيل البنى التحتية وتوفير الخدمات الأساسية، لضمان حياة كريمة لنا ولأطفالنا»، ولم يخفِ الماجد انتقاده للدورة البرلمانية السابقة، قائلًا «الدورة الماضية للبرلمان لم تقدم أي شيء. لم تُنفذ مشاريع حقيقية، ولم تُحل مشاكلنا اليومية، وكأننا غير موجودين على خارطة المسؤولين. كل وعودهم تبخرت على الأرض، ونحن ما زلنا نعاني من المياه والصحة والتعليم والطرق، ومن الوقاحة أنهم عادوا وقدموا ذات الوعود في الانتخابات». ووفقًا لماجد فإن «نسبة الفقر في قضاء كحلاء تصل إلى نحو 80٪، بحسب تصريحات حكومية، ما يجعل الحياة اليومية صعبة للغاية بالنسبة للسكان». وأضاف أن «الكثير من الأطفال يضطرون إلى ترك مدارسهم لمساعدة أهاليهم في تحمل تكاليف المعيشة، في ظل غياب الدعم الكافي للخدمات الأساسية».
وبيّن الماجد أن القضاء يضم ناحيتي بني هاشم والمشرح، وتقدر مساحته بـ2217 كيلومترًا مربعًا، موضحًا أن أغلب السكان يعملون بأجر يومي، رغم أن المدينة محاطة بشركات نفطية وتطفو على بحر من الذهب الأسود. وأكد أن غالبية الوظائف لا يشغلها أهالي المنطقة، بل يتم توظيف جنسيات أجنبية أو عمال من محافظات أخرى.
وأشار إلى أن هذا الواقع يعكس التناقض الكبير بين الثروات الطبيعية التي تحيط بالقضاء والمعاناة اليومية التي يعيشها أهالي كحلاء، مؤكدًا الحاجة الملحّة إلى تدخلات عاجلة لإعادة تأهيل البنى التحتية وتوفير فرص العمل والخدمات الأساسية لسكان المنطقة.
وقال علي شبوط جحيل، قائمقام قضاء كحلاء، إن القضاء شهد تنفيذ عدد من مشاريع الجهد الخدمي والهندسي خلال الفترة الماضية. وأوضح أن مشروع تبليط حي الرحمة مع شبكة المجاري والماء قد أُنجز واستُلم بالكامل، كما تم رفع عدد من المشاريع ضمن خطط الجهد الخدمي لعام 2025، شملت خدمات المجاري والتبليط وشبكات ومجمعات المياه. لكن القائمقام أشار إلى أن هناك تحديات كبيرة في إيصال الخدمات إلى خارج مركز المدينة، خصوصًا فيما يتعلق بالمياه الصالحة للشرب. وأوضح أن الجفاف المستمر وانقطاع الأنهار والأهوار أدى إلى توقف معظم مجمعات المياه عن العمل في القرى النائية، ما اضطر السكان إلى الاعتماد على الحوضيات، إلا أن قلة عدد الآليات وكثرة القرى والمنازل تجعل إيصال المياه للجميع أمرًا صعبًا.
وأضاف جحيل أن هناك عددًا من المشاريع الوزارية المتلكئة، منها مشروع محطة 132 كيفي، الذي أُنجز الجزء الأول منه لكنه لم يبدأ العمل حتى الآن، إضافة إلى الملعب الذي توقف العمل فيه منذ عام 2013، وكذلك مشاريع مصرف الرافدين ومدرسة الشهيد الابتدائية، التي ما زالت متوقفة عن الإنجاز. كما أشار إلى وجود تحديات في القطاع الصحي، حيث أُغلقت بعض البيوت الصحية نتيجة نقص الملاكات، ومنها البيت الصحي في قريتي بحاته والشويلات، ولم تُعاد إلى العمل حتى بعد المطالبة الرسمية، مع تبرير الجهات المعنية بعدم توفر الكوادر الصحية اللازمة. وأكد علي شبوط جحيل أن هذه المعوقات تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين، مشددًا على الحاجة الماسة لاستكمال المشاريع المتوقفة وتوفير الخدمات الأساسية لضمان حياة كريمة لسكان قضاء كحلاء.
وقال حيدر عدنان الساعدي، رئيس منظمة أبناء الأهوار الإنسانية، إن محافظة ميسان تعيش منذ عقود تدهورًا واضحًا في مستوى الخدمات الأساسية، مشيرًا إلى أن النقص الحاد يظهر بشكل خاص في ثلاثة قطاعات رئيسية هي الصحة والتعليم والخدمات العامة، بالرغم من تخصيص ميزانيات كبيرة يُفترض أن تسد هذا النقص.
وأضاف الساعدي في حديث لـ«المدى» أن أغلب مناطق المحافظة تفتقر إلى المستشفيات العامة، وتكتفي الحكومة بالمستوصفات الصغيرة التي لا تلبي حاجات المواطنين. وأوضح أن بعض المستشفيات، وخصوصًا في الأقضية والنواحي، تعاني من نقص الأطباء المختصين وضعف التجهيزات وغياب الأجهزة الحديثة، إضافة إلى شح الأدوية، خصوصًا في أقسام الطوارئ، مما يجعل المواطنين أكثر عرضة للمخاطر الصحية. وأشار الساعدي إلى ناحية المشرح كنموذج واضح على نقص الخدمات الطبية الحيوية. وفي قطاع التعليم، أكد الساعدي أن الواقع التعليمي يشهد تراجعًا ملحوظًا بسبب ازدحام الصفوف الدراسية ونقص الأبنية المدرسية وقلة الوسائل التعليمية، مشيرًا إلى أن عدد الطلاب في الصف الواحد يصل إلى خمسين أو ستين طالبًا، ما يشكل عبئًا كبيرًا على المعلمين ويؤثر سلبًا على جودة التعليم. أما فيما يخص الخدمات العامة، فأوضح الساعدي أن المواطنين يشتكون من تهالك الطرق وضعف شبكات الصرف الصحي والانقطاعات المستمرة للكهرباء والماء، فضلًا عن ضعف خدمات النظافة وقلة الأماكن الترفيهية. وأضاف أن الواقع البيئي للمحافظة يشهد تحديات كبيرة نتيجة التصحر وانتشار الكثبان الرملية والجفاف الحاد وتأثير المعامل والشركات النفطية على الصحة والمعيشة. وتابع الساعدي بالقول إن هذه المشاكل المتراكمة أثقلت حياة المواطن الميساني، مؤكدًا أن المحافظة بحاجة ماسة إلى خطط إصلاحية حقيقية لتحسين مستوى الخدمات العامة وتعزيز جودة الحياة، بعيدًا عن الإهمال الطويل والوعود المتكررة دون تنفيذ.

لطفيّة الدليمي

هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب منّا) ليست محض حروف بل امتدادٌ طبيعي وضروري وحتمي لوجوده في العالم. هذا العام، في معرض العراق الدولي للكتاب في بغداد، عشتُ تلك اللحظة ولو عن بُعْد. شعرتُ أنّ اسمي كان أكثر من مجرد لوحة تحمل حروفاً منقوشة على صورة لي شكّلتها أناملُ المُبدع (ستّار كاووش)، كان نبضاً في قلب وطني العراق، امتداداً للكتابة، للحلم، وللوعي بأنّ الكلمة قادرة على البقاء رغم كل الرزايا.
سأتخلّى هنا طواعية، ولزمن محسوب، عن فلسفتي في الكتابة. سأنزع عنّي عقلنتي الطاغية إذ أراها تصدُّني عن قول ما أشاء بطريقة مباشرة ومن غير إلتواءات تحتملُ تعدّدية التأويل وكثرة القراءات. سأكتبُ بما يخبرني القلبُ من غير تمريره في مختبر التشريح الفلسفي الصارم.
أودُّ أولاً أن أشكر من جَعَلَ هذه اللحظة ممكنة، بدايةً بالأستاذ (فخري كريم)، رئيس مؤسسة دار المدى، الذي لم يكتفِ بتنظيم معرض بل صنع فضاءً للكتابة والقراءة، للحوار بين الإنسان ووطنه. في حضوره شعرتُ أنّ الكتابة ليست مجرّد فعل يمكثُ في حيّز الفردانية المنعزلة كما الفقاعة، بل هي فعل اجتماعي وفلسفي، صلةٌ بين الروح والواقع، بين الحلم والمجتمع، وسؤال دائم عن معنى وجودنا في العالم. لا يمكنني بالتأكيد أن أغفل الدكتورة (غادة العاملي)، المدير العام للمؤسسة، التي كان حضورها العاطفي والفكري في المعرض واضحاً في كل تفصيلة صغيرة. بروحها الحنونة وحرصها على أن تكون التجربة شخصية لكل كاتب وقارئ، شعرتُ بأنّ كلّ كلمة كتبتُها طوال سنوات طويلة لم تذهب هباءً، وأنّ الكتابة فعل فلسفي وعمليٌّ يسعى لإضاءة الطريق، لتأكيد وجود الإنسان وفكره في هذا العالم المتغير.
لطالما كانت الكتابة بالنسبة لي رحلة سرية، حياة موازية أعيشها بصمت، بعيداً عن الأضواء والإحتفاليات الرسمية. طوال سنوات طويلة، كنت أكتب في هدوء، أراقب العالم من خلال الكلمات، أصيغ الأحلام، وأحاورُ نفسي قبل أن أحاور الآخرين. لم يكن هدفي حينها شهرة أو اعترافاً رغم أنّهما هدفان نبيلان يمتلكان مشروعية المسعى. دافعي الأوحد كان إحساسي العميق بأنّ الكتابة فعل وجود، وسيلة لفهم نفسي وفهم العالم من حولي.
العملُ بصمت علّمني الصبر والتواضع، وجعلني أقدّرُ لحظة الإنفجار الإبداعي المتوهّجة. كلُّ كلمة تُكتبُ في الصفحة البيضاء (أضحت ألكترونية حاسوبية في العالم الرقمي الحالي) كانت بمثابة شعاع نور في عتمة الأيام، وكلُّ نصّ كان انعكاساً لرحلة داخلية مليئة بالتأمّل والأسئلة. لم أسعَ لأن يكون جهدي مرئياً، ولم أنتظر اعترافاً فورياً، لأنّ الكتابة نفسها كانت تكفي لتملأ روحي بالسعادة. الكتابة نمط من الإمتيازات التي تكافئ نفسها بنفسها كما هو الحال في فلسفة الكارما الخالدة.
اليوم، حين أرى نفسي في موضع التكريم، أشعرُ أنّ كل لحظة صمت عملت على تكوين هذا الوهج الداخلي، وأنّ سنوات العزلة الصامتة لم تذهب هباءً. تحوّلتْ إلى طاقة صافية تجعلني أستقبل التكريم بروح ممتنّة، وأدركُ أنّ الوفاء للكلمة، وللذات، وللوطن، أحياناً يحتاج إلى صمت طويل قبل أن يصبح صدىً يُسمع ويُرى.
سعيدةٌ انا بتكريم المدى. ليس هناك شعور أعمقُ من أن تُكرّم في وطنك. إنّه شعور يجمع بين الفرح الشخصي ووعي أكثر تجذّراً بالانتماء، شعورٌ بأنّ الكتابة ليست تعبيراً عن الذات حسبُ بل عن الذاكرة الجمعية، عن روح مجتمع يحاول أن يتواصل مع ذاته بعد سنوات من التحدّيات الجسام. في تلك اللحظة شعرتُ بأنّ الكتابة فعل مقاومة واحتفال معاً، مقاومةٌ للنسيان واحتفاءٌ بالحياة.
في المعرض، بين الكتب والوجوه التي طالعتُها عبر التسجيلات الفيديوية، أدركتُ أنّ كل تكريم يحمل أكثر من مجرد احتفاء رسمي. إنّه مساءلة فلسفية وروحيّة عن القيمة، عن الزمن، عن الدور الذي تلعبه الكلمةُ في حياة الإنسان. كل مسؤول، كل موظف، وكلّ قارئ أراه وقد استحال جزءاً من هذا السؤال الجميل: ما معنى أن يُحتفى بالكلمة؟ وما قيمة أن ترى نفسك في وطنك وقد تمّ الاعترافُ بجميل صنائعك؟
جعلني المعرضُ أفكّرُ في الكتابة كحركة زمنية متطاولة وممتدّة: محاولةٌ للإمساك باللحظة، لفهم العالم، لتساؤل دائم عن الإنسان والوطن. هنا، في بغداد التي أعشق والتي أعيشها عن بُعْدٍ كل لحظة، شعرتُ بأنّ الكتابة فعل جماعي، رابطة بين الحاضر والماضي والمستقبل، بين التجربة الشخصية والذاكرة الجماعية. هذا الشعور بالإنتماء، بالإعتراف، بالإحتفاء، منحني طاقة جديدة للإستمرار، وجعلني أرى في كل كلمة كتبها الإنسان انعكاساً لرغبته الأزلية في الحياة والمعرفة والجمال. إنها لحظة امتنان لكلّ من أسهم في هذا المعرض، لكلّ من جعل الكتابة والكتاب حاضراً في الواقع، لكلّ من جعل الكلمات تتجاوز العوائق المادية القسرية لتصبح جسراً بين الإنسان ووطنه، بين الحلم والواقع، بين النفس والعالم. كل ابتسامة، كل تقدير، كل اهتمام، كان شعاعاً من الضوء، لحظةً من الصفاء الفلسفي الذي يجعل الإنسان يتأمّلُ في قيمة الوجود ذاته، وفي قيمة وجوده هو منظوراً إليه كجزء من الوجود الإنساني.
أرى أنّ المعرض لم يكن احتفاء بمائة نون عراقية وانا بينهن وحسب. كان تأكيداً على أنّ الانجاز و الكلمة قادرة على إعادة الروح المعطوبة (أو التي يرادُ إعطابُها إعطاباً مزمناً) في الإنسان، على إحياء معنى الإنتماء، وعلى أن تجعل كلّ تكريم، مهما كان شخصيّاً، علامة على قدرة الإنسان على التواصل مع ذاته ومع الآخرين عبر الزمن.
شكراً لمعرض العراق الدولي للكتاب في نسخته السادسة لعام 2025، ولكلّ من جعل هذه اللحظة ممكنة. لقد منحتموني شعوراً لن أنساه أبداً: شعوراً بأنّني في وطني، أرى ثمرة ما زرعتُهُ طيلة حياتي الإبداعية حبّاً واعترافاً بجميل العمل في منطقة المثابات الفكرية الراقية التي نريدها أن تشيع في وطننا الذي تقهقر كثيراً عمّا كان معقوداً على إنطلاقته الحداثية الأولى المبشّرة بمستقبل مشرق.
يكفي المدى وعامليها أنّها تساهم بشرف وإخلاص في بثّ روح الحياة في تلك الإنطلاقة الأولى عبوراً لجسر التخلّف نحو عالم تجاوزنا كثيراً في مبتدعاته العلمية والتقنية.

رشيد الخيّون

حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين بمذاهبهم بالعراق كافة، كوجود سكاني بين النَّهرين، إلى ما قبل الدِّيانة نفسها، فالغالب مِن سكنة العراق القديم، من أكديين وبابليين وآشوريين، وكل الحضارات التي سادت بالمكان، تحولوا إلى المسيحية، بفعل المبشرين الأوائل.
وغدوا اليوم على المستوى القومي، كلدان وسريان، فهذا مترجم كتاب «الفلاحة النَّبطيَّة»، ابن وَحشِيَّة، المدون بلغة قومه النبط الكلدانيين، أفاد أنهم بابليون. ويؤكد الآشوريون أنهم أحفاد آشوربانيبال، وشاهدهم هو الادعاء بأصالتهم مِن أولئك القدماء، وعاصمة ديارهم نينوى، مثلما كانت سابقاً، ومنهم الفتى الذي خفف من آلام ما لقاه صاحب الرِّسالة بالطَّائف، قال له النَّبي: «مِنْ أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟ قال: نصراني. وأنا رجل من أهل نينوى» (ابن هشام، السيرة النَّبويَّة). فقد كان ابن وحشية بابلياً كسدانياً، «ومعنى الكسداني نبطي» (النَّديم، كتاب الفهرست، ولعلها الكلداني وصحّفت إلى الكسداني)، وهو من نواحي الكوفة. عدَّ له النديم في «الفهرست» حوالى ستة عشر كتاباً، أحدها في قومه النبط، وأطرفها كتاب «طرد الشياطين»، وأخرى في الأصنام والطب والكيمياء والسحر، إلا أنه اشتهر بكتاب «الفلاحة النبطية»، ترجمه من الكلدانية إلى العربية.
يصل ابن وحشية إلى ذروة امتعاضه، من معاملة قومه معاملة طائفية في العصر العباسي ليقول: «والله إنَّ الغيرة على الناس تحملني على إظهار بعض علومنا لهم، لعلهم أن ينتهوا عن ثلب النَّبط، وينتبهوا من رقدتهم» (ابن وحشية، الفلاحة النّبطيَّة). واسم ابن وحشيَّة الكلداني أحمد بن علي بن المختار بن عبد الكريم بن جرثيا بن بدنيا بن برناطيا (بعد 291هـ).
تنتمي عائلة أو عشيرة سافايا إلى أولئك الأوائل، مِن سكنة «تلكيف»، البلدة التي يعني اسمها «تل الحجارة»، قد يرى المهاجرون المسيحيون العراقيون، مِن هذه العشيرة، في تكليف ابنهم مارك سافايا، ممثلاً للرئيس الأميركي بالعراق، اعترافاً بوجودهم ودورهم، فلم تمح الهجرة صلتهم بالعراق، بمعنى أنه تذكير ببول بريمر الحاكم المدني على العراق، مع اختلاف الشخص والمهمة والمنصب.
حتَّى الآن لم يعرف بالتحديد دور سافايا الكلداني بالعراق، هل ينوب عن الرئاسة الأميركيَّة، ويقود دورها، وفي أهم ما يريده الأميركان وهو حصر السَّلاح بيد الدَّولة، لا ميليشيات ولا أحزاب الله وكتائب وفصائل مثل بابليين المسيحي، وهنا تأتي المواجهة بين كلدانيين، ممثل الإدارة الأميركيَّة وريان الكلداني قائد ميليشيا «بابليون»، التي تمثّل المسيحيين في الحشد الشَّعبيّ، مِن دون اعتراف مِن قبل الكنيسة الكلدانيَّة، وكلاهما من الشباب ولادات الثّمانينيات (1985 و1989)، بينما استقبل جاثليق الكلدان أو بطريرك الكنيسة الكلدانية في العالم، مار لويس روفائيل الأول ساكو، مارك سافايا، ولم يعترف لريان وميليشيا «بابليون» بتمثيل للمسيحيين في الحشد الشَّعبي، مثلما يدعي زعيم الميليشيا المذكورة، بل نفى ما قيل على لسان البابا عند زيارته العراق، على أنه اعترف بريان وبارك له، لأنَّ رجال الدين لا تعنيهم السياسة.
مِن المعلوم أنَّ الجماعات الدينيَّة والعرقيَّة الأقل عدداً مع دولة مدنيَّة تقرّ بوجودهم ودورهم الاجتماعيّ والسِّياسيّ، هو ما تطرحه الإدارة الأميركيَّة على لسان ممثلها إلى العراق مارك سافايا الكلدانيّ، ويأتي إلغاء دور الزعامات المسلحة المسيحية، بقرار حصر السِّلاح بيد الدّولة، وحلّ ميليشيا ريان الكلدانيّ ضمن هذا المطلب.
يقف ريان الكلداني مع إيران، وعلى نقيضه يقف مارك سافايا ممثلاً للدور الأميركيّ، فكل مِن أميركا وإيران لها كلدانوها في المواجهة بينهما، مارك وريان، الأول مِن تلكيف والثاني مِن القوش، فالاثنان مِن الموصل.
لا تحسبوا قصدنا المبارزة الفعليَّة بينهما، فليس بأيديهما أدوات المبارزة ولا حلبتها، إنما أغرانا المجاز وكتبنا: سافايا الأميركي مقابل ريان الإيرانيّ.

 ذي قار/ حسين العامل

بحثت جهات حكومية ومنظمات مجتمع مدني في محافظة ذي قار أبرز التحديات التي تواجه نزلاء مراكز الاحتجاز من الأحداث، وسبل الرعاية اللاحقة لهم، وفيما أكدت أهمية تأمين مقومات اندماجهم المجتمعي، دعت الجهات المعنية إلى تمويل ودعم برامج الرعاية الاجتماعية التي تحول دون عودة الأحداث إلى مسرح الجريمة.
جاء ذلك خلال ندوة حول إعادة الاندماج الاجتماعي للأفراد المطلق سراحهم، نوقشت بحضور ممثلين عن عدد من الدوائر الأمنية ومنظمات المجتمع المدني، حيث جرى استعراض أبرز التحديات التي تواجه هذه الشريحة بعد مغادرتها السجن، ومقومات اندماجها في المجتمع.
وقال مستشار محافظ ذي قار لشؤون المواطنين، حيدر سعدي، خلال مشاركته في الندوة، إن «اندماج المطلق سراحهم اجتماعيًا عملية تنطلق من إعادة تأهيلهم بصورة مناسبة تجعلهم أفرادًا صالحين ضمن مجتمع متسامح مع أفراده»، مشيرًا إلى أن ذلك يتحقق عبر توفير الدعم اللازم لهم ومساعدتهم على التغلب على التحديات التي تحول دون عودتهم إلى الحياة الطبيعية.
وأوضح سعدي أن عملية الاندماج تستدعي برامج لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، وتوفير فرص عمل، وتأمين مقومات اندماجهم في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن مساعدتهم في التغلب على الرفض المجتمعي الذي قد يواجهونه.
وفي ختام أعمال الندوة، دعا المشاركون إلى تعزيز برامج إعادة التأهيل والتعليم، وتوفير برامج تأهيل نفسي واجتماعي، وتدريب مهني، وتعليم مهارات تحدّ من احتمالية العودة إلى الجريمة، مشددين على ضرورة توفير فرص عمل لهم في القطاعين العام والخاص، ودعم المشاريع الصغيرة لضمان استقلالهم الاقتصادي.
كما دعا المشاركون إلى إنشاء مراكز متخصصة لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، ومساعدة الأفراد على التعامل مع الرفض المجتمعي، مؤكدين أهمية رفع القيود القانونية المتعلقة بالسجل الجنائي لتسهيل اندماجهم الاجتماعي والمهني.
وتطرق المشاركون في الندوة إلى الجانب التوعوي، المتمثل بتنظيم حملات توعية لتعزيز تقبل المجتمع للأفراد المفرج عنهم وتشجيع دعمهم، منوهين بأهمية المتابعة والتقييم المستمرين للأفراد بعد الإفراج عنهم، وقياس فاعلية البرامج المقدمة ومدى تحقيقها للأهداف المنشودة.
من جانبه، قال رئيس منظمة التواصل والإخاء الإنسانية في محافظة ذي قار، الدكتور علي عبد الحسن الناشي، في حديث لـ«المدى»، إن «الرعاية اللاحقة لنزلاء الأحداث تدخل ضمن قانون رعاية الأحداث رقم (76) لسنة 1983، الذي تنص مواده على رعاية الحدث بعد انتهاء مدة إيداعه في مدرسة التأهيل بما يضمن اندماجه في المجتمع وعدم عودته إلى الجنوح»، مضيفًا «لكن للأسف لم يتم تفعيل مواد القانون في هذا المجال».
وحذر الناشي من مغبة عدم الالتزام ببنود القانون، وانعكاس ذلك على مستقبل الأحداث، مبينًا أن «غياب الرعاية اللاحقة وعدم تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي أدى إلى عودة معظم الأحداث المفرج عنهم إلى مسرح الجريمة، ومن ثم إلى مراكز الاحتجاز مرة أخرى».
وأوضح أن «الرعاية المطلوبة ينبغي أن تُقدَّم للنزيل قبل ثلاثة أشهر من الإفراج عنه، وكذلك خلال الأشهر الثلاثة التي تلي خروجه من الحبس»، مبينًا أن «الرعاية في الأشهر الثلاثة الأولى، التي يكون فيها الحدث رهن الاحتجاز، تتمثل بتقديم الدعم النفسي والإرشادي، وإشراكه في دورة تدريبية لتعلم مهنة مناسبة، كالخياطة أو الحلاقة وغيرها من المهن التي تمكنه من الاعتماد على نفسه وتوفر له موردًا ماليًا».
وأضاف أن «الرعاية اللاحقة في الأشهر الثلاثة الأخرى تتمثل بالتمهيد لمصالحة النزيل مع ذويه، في حال وجود خلاف يحول دون اندماجه مع أسرته، والبحث عن فرصة عمل له، أو إدراجه ضمن منحة شبكة الحماية الاجتماعية».
وأشار الناشي إلى أن «المصالحة مع الأسرة تكتسب أهمية كبيرة، لا سيما بالنسبة للنزيلات، إذ إن عدم تقبل الفتاة داخل أسرتها يجعل مستقبلها في مهب الريح».
وعزا رئيس منظمة التواصل والإخاء الإنسانية أسباب التلكؤ في تطبيق برامج الرعاية اللاحقة للأحداث إلى ضعف التمويل الحكومي للمؤسسات المعنية، لافتًا إلى أن «المنظمة سبق أن نفذت برامج رعاية مدعومة من منظمة اليونيسف، وأثبتت هذه البرامج نجاعتها»، مشيرًا إلى أن «منظمة اليونيسف أوقفت برامجها مؤخرًا، ما يستدعي أن تضطلع الجهات الحكومية المعنية والوكالات الأممية بدورها في هذا الصدد».
ولفت إلى أن «معظم نزلاء الأحداث هم من مرتكبي جرائم تتعلق بالسرقة أو تعاطي وترويج المخدرات، إضافة إلى جرائم أخرى يمكن تدارك تكرارها من خلال برامج إصلاحية وتقويمية».
وكانت مؤسسات حكومية ومجتمعية في ذي قار كشفت، في أواخر تشرين الثاني 2022، عن ارتفاع معدلات الجريمة بين أوساط الأطفال والأحداث، مؤكدة تسجيل 663 جريمة منذ مطلع العام، نصفها تتعلق بالسرقة والمخدرات.
كما دعت منظمات مجتمعية عاملة في مجال رعاية وتأهيل السجناء في ذي قار، في أيلول 2024، إلى تأهيل ودعم نزلاء السجون من الأحداث، والعمل على تمكينهم من الاندماج بالمجتمع عند الإفراج عنهم، وفيما شددت على أهمية تقديم الدعم القانوني والنفسي والرعاية اللاحقة، حذرت من انخراط المفرج عنهم في عصابات الجريمة.
وتضم محافظة ذي قار عددًا من السجون، من بينها سجن الأحكام الخفيفة، ومركز شرطة الأحداث، وقسم سجن النساء، فضلًا عن سجن الناصرية المركزي «الحوت»، الذي يُعد من أكبر السجون العراقية، ويضم عددًا غير قليل من المحكومين بأحكام ثقيلة، من بينها السجن المؤبد والإعدام.
وكانت منظمة التواصل والإخاء الإنسانية في محافظة ذي قار أعلنت، في منتصف كانون الأول 2022، عن تبني منظمة اليونيسف مشروع الوقاية والاستجابة لاحتياجات حماية الطفل في مراكز الاحتجاز في ذي قار، تحت شعار «يونيسف لكل طفل».

عبده وازن

فاجأ رحيل الروائي السعودي الفرنكوفوني أحمد أبو دهمان عن 76 سنة، الوسط الأدبي السعودي والعربي والفرنسي، وصدم أصدقاءه الذين كانوا على تواصل معه قبل أيام من غيابه. ولئن لم يكتب أبو دهمان سوى كتاب واحد هو "الحزام" بالفرنسية ثم بالعربية، فهو تمكن من تحقيق ظاهرة روائية نادراً ما عرفها الأدب الفرنكوفوني والعربي.
تحولت رواية "الحزام" للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان بعيد صدورها عام 2000 بالفرنسية عن دار غاليمار، "أسطورة"، أسطورة شخصية، وأدبية، فرنكوفونية سعودية وعربية، لا سيما بعدما تخطت طبعاتها الفرنسية الإحدى عشرة خلال فترة قصيرة، وهذا رقم مهم جداً في حسبان الناشر الفرنسي، (دار غاليمار)، إضافة إلى طبعة كتاب "الجيب" الشعبية وطبعة "ضعاف البصر"، وهذه طبعة فريدة. هذا عطفاً على ترجماتها العالمية التي لقيت ترحاباً لدى الجمهور والصحافيين. وصدرت الرواية في ترجمتين بالإنجليزية واحدة في إنجلترا وأخرى في الولايات المتحدة. وطبعتان بالإسبانية في إسبانيا والمكسيك. وترجمت إلى الألمانية والهولندية والبولندية.
وحققت أيضاً الترجمة العربية لهذه الرواية السعودية الفرنكوفونية الأولى، التي أنجزها المؤلف بنفسه، أرقاماً غير مسبوقة، ظلت إلى ازدياد. وبقدر ما جلبت هذه الرواية لصاحبها من شهرة تخطت فرنسا، جلبت له متاعب وإن قليلة، ووضعته أمام سؤال الكتابة: ماذا بعد "الحزام"؟
النجاح اللامتوقع لهذه السيرة الذاتية التي كتبها أحمد أبو دهمان بجرأة وعمق وشفافية، أوقع الكاتب السعودي الفرنكوفوني في حال من القلق والحيرة. فهو لم يكن يتصور أن تحظى الرواية بهذا الرواج العالمي وأن يصبح هو تحت الأضواء، كاتباً سعودياً فرنكوفونياً، توجه إليه دعوات أدبية كثيرة، خصوصاً في العالم الفرنكوفوني. وقد حملت الرواية مفاجأتين عام 2007 في فرنسا، تتمثل الأولى في اعتماد المدارس الثانوية المهنية في باريس الرواية كمادة أساسية في الأدب الفرنكوفوني، وقدم المسؤولون قراءة نقدية عميقة، في نحو اثنتين وثلاثين صفحة نشرت في شبكة الإنترنت. أما المفاجأة الثانية فهي اختيار وزارة التربية الفرنسية "الحزام" في امتحان الثانوية العامة هذه السنة، في خمسة عشر بلداً فرنكوفونياً، للطلبة الذين اختاروا العربية كلغة حية ثانية.
في رواية "الحزام" يستعيد أبو دهمان عالم قريته الجبلية في جنوب السعودية، ويقدّم سردية بين الرواية والسيرة الذاتية، ذات نفس غنائي ووجداني، وبعد أنثروبولوجي نظراً إلى ارتباطها بالمكان الفريد.
يعود الراوي إلى طفولته في قرية ريفية منغلقة على ذاتها، تحكمها تقاليد صارمة، ومعتقدات قديمة، وعلاقة متينة بالطبيعة. فيقدم لوحات ومشاهد من الحياة اليومية وذكريات غارقة في الوجدان الشخصي مما يضفي عليها نبرة من الحنين والشوق. فالقرية هي مكان الحماية والطمأنينة والانتماء، على رغم فضائها المغلق، والعزلة التي تعيش فيها. تحضر الطفولة هنا بصفتها الزمن الذي تتشكّل فيه الهوية تحت وطأة الطقوس الجماعية، والتقاليد الاجتماعية، والدين، والثقافة الشفوية.
أما "الحزام"، الذي يضعه رجال القرية، فهو علامة على الرجولة، والشرف، والانتماء إلى الجماعة، واستمرار القيم الموروثة. وهو يرمز كذلك إلى الانتقال من الطفولة واليفاع إلى عالم الرجولة والذكورة، والتزام تقاليد صارمة. لكن هذا الحزام يمثل أيضاً قيداً. فهو يشدّ الجسد كما تشدّ الأعراف الفرد، ويمثل الضغط الاجتماعي وثقل القيم الجماعية وصعوبة الخروج عنها. وتند الرواية عن الصراع المعلن أو المضمر، الارتباط العميق بالجذور والرغبة الشائكة في الانعتاق.
يمكن قراءة "الحزام" ببعدها الإثنوغرافي، نظراً إلى غناها بالتفاصيل التي تتعلق بالحياة اليومية، مثل الطقوس، والزراعة، والعلاقات العائلية، والفروق بين الجنسين، والمعتقدات الشعبية، والأساطير والخرافات وحكايات الجنّ، والأحلام وعلامات الغيب. علاوة على حضور الطبيعة الجبلية، والضوء، والأصوات، والروائح، والصمت. ونجح أبو دهمان في رسم صورة سردية فريدة عن بيئة قروية قبل الطفرة النفطية، بعيداً عن الصور النمطية السياسية أو الحضرية الشائعة.
وقد رأى بعض النقّاد الفرنسيين في أسلوب الرواية شكلاً من أشكال الواقعية السحرية، لا بوصفه تقليداً للتيار الأميركي اللاتيني، بل بصفته تعبيراً طبيعياً عن ثقافة تتعايش فيها الأسطورة مع الواقع بلا تناقض ولا تنافر.
"الحزام" رواية عن الذاكرة، والهجرة، والفقدان. ومن خلال أسلوب بسيط في ظاهره، عميق في دلالاته، ينجح أبو دهمان في إحياء عالم في طريقه إلى الأفول مثل الكثير من التراث الشعبي في العالم.
لعل الرواج الذي حظيت به رواية "الحزام" نادراً ما عرفته رواية فرنكوفونية عربية. ترى ما كان سر هذا النجاح الفرنسي والعالمي؟ بل ما كان سر نجاح الرواية عربياً بعدما صدرت عن دار الساقي العام؟ إنها رواية بديعة تقدم عالماً يجهله القراء، عرباً وأجانب، عالماً قابعاً في عمق ذاكرة هذا الكاتب السعودي، ببراءته وإلفته وغرابته... عندما سافر أحمد أبو دهمان إلى باريس في مطلع الثمانينيات الماضية ليكمل دروسه الجامعية، صدمته هذه المدينة الكوزموبوليتية. وعوض أن يتخلى عن ذاكرته على مر الأيام ازداد تعلقاً بها. احترف اللغة الفرنسية لكنه لم يصبح فرنسياً في أي لحظة. الحنين الذي تضج به رواية "الحزام" يدل على انتمائه الأول والأخير إلى بلاده. في باريس اكتشف أبو دهمان العالم الجديد والثقافة الأخرى، اليومية والفكرية. كانت اللغة الفرنسية نافذته على آداب الشعوب وثقافاتها. وعندما كتب "الحزام" بدا واضحاً ذلك المزيج من الوعي اللغوي المكتسب واللاوعي اللغوي العربي. وقد يكون هذا المزيج هو سر النضارة التي تحلت بها لغته الفرنسية.
ظل أحمد أبو دهمان سعودياً، بالقلب والذاكرة، بالوجدان والمخيلة. ظل مشدوداً إلى جذوره. في باريس كان يشعر بأنه مواطن من العالم، يحب المدينة كغريب عنها، كإنسان عابر، ولكن ليس إلى جهة معينة. وبين حين وآخر كان يصيبه "سأم" باريس، بحسب عبارة الشاعر بودلير، لكنه يجد نفسه عاجزاً عن إعلان أي قرار. الكاتب الذي نشأ تحت شمس الصحراء ظلت تفتنه الصحراء، على رغم استقراره وزواجه من فرنسية وإنجابه ابنة كانت هي وردة حياته. وكم كان يحلو له أن يعرض في بيته الطبعات الفرنسية الإحدى عشرة لروايته "الحزام"، عطفاً على طبعات أخرى.
كلما كنت ألتقي أحمد أبو دهمان في باريس أو بيروت أسأله عن "أزمة" الكتابة التي يعانيها بعد "الحزام" وهل كان يحضر عملاً جديداً ينتظره قراؤه بعد فترة من الصمت غير قصيرة عقب صدور روايته الأولى. أجابني مرة قائلاً: "لقد انتظرت زهاء خمسين سنة كي أكتب "الحزام". وليس لدي يقين بأنني ذلك الكاتب المنتظر، بينما أعرف أنني كاتب منتظر. كان علي أن أتخلص من تبعات "الحزام"، من تلك الضجة التي لم أبحث عنها أبداً. من أولئك القراء الذين ينتظرونني عند الباب. أما وقد خفت آثار ذلك المجد والشهرة وعدت إلى براءتي المعهودة، إلى شهوة الكتابة ومتعتها العالية، فقد بدأت فعلاً كتابة عملي الثاني وعنوانه "عندما كنت سعودياً’’ بعدما انتظرته طويلاً قبل الآخرين. وفيه حديث عن ذلك السعودي الشهم الكريم البريء الذي كنته. عن ذلك السعودي الذي لا يعرف من الزمن إلا يوم الجمعة وشهر رمضان. ذلك السعودي الذي لا يرى فيه الآخرون إلا النفط والشهوات والنزوات. إنه إعادة قراءة لذلك البدوي القروي الجبلي المتعدد أمام تعددية فرنسا وأوهامها. أمام التاريخ، أمام الجغرافيا، أمام الثقافات. أمام الزمان والمكان أمام الإنسان الذي كنته والذي أصبحته. أمام خساراته العقائدية والوطنية والديمقراطية. أكتبه في غرفة ضيقة جداً استأجرتها قبل فترة ولا تطل إلا على نفسي، وليس فيها من أثاث إلا جسدي وأقلامي وأوراقي. كما تقول حبيبتي. غرفة لا تتسع ألا لسعودي مثلي. وعندما أدخلها أقول: بسم الله الرحمن الرحيم».
كيف كان يرى أبو دهمان حياته في باريس هو الكاتب الفرنكوفوني الذي لا يستطيع إلا أن يكون سعودياً. كيف يعيش حال الازدواج هذه. يقول إنه بينما كان يكتب نصه الجديد "عندما كنت سعودياً" كان يدرك أنه ليس فرنكوفونياً. ويقول: "كنت مع عدد من الأصدقاء أعلنا رفضنا لهذه التسمية، خصوصاً نحن الذين لم يكن بيننا وبين فرنسا أية علاقة، إلا امتلاكنا للغتها وهذا حق انتزعناه. ولأننا نجيد الكتابة بلغاتنا الأم فإننا لم نجد صعوبة في الكتابة بالفرنسية، بل وأثريناها وشرفناها باعتراف الفرنسيين أنفسهم. ولذا أهديت "الحزام" إلى بلادي، إلى الجزيرة العربية».
في عام 2007 اختير أحمد أبو دهمان بين عدد من الأدباء الفرنسين والعالميين ليكتب نصاً عن ظاهرة «تنتان» في الذكرى الخامسة والسبعين لانطلاقه. وجمعت النصوص في كتاب فني (إعداد تيلراما، منشورات مولينسار) عنوانه «نحن تنتان». وشارك فيه أدباء بارزون: ميشال سير، وليام بويد، إريك أورسينا، يان كيفيلك، باتريك رامبو، جان روا، جيلبير سينويه، أندريه فلتير.
و"تنتان" شخصية من أبرز شخصيات "الشرائط المرسومة" في فرنسا وأوروبا والعالم، ولد عام 1929 بريشة الرسام البلجيكي الأصل جورج ريمي الذي اختار أن يوقع الرسوم والألبومات باسم هرجيه (أو إرجيه). ومنذ انطلاقته أصبح تنتان بطلاً شعبياً ذائع الصيت وصاحب مغامرات طريفة، حزينة وسعيدة، طفولية ورهيبة. واستطاع أن يغزو حياة الأطفال والفتيان والكبار. ولقيت مغامراته التي توالت منذ خمس وسبعين سنة صدى لدى الأدباء والفنانين والمثقفين فراحوا يدمنون قراءة الألبومات متابعين قصص هذا الفتى ذي الخصلة الناتئة في شعره والذي جاب العالم كله مندفعاً إلى أجمل المغامرات وأخطرها في أحيان. وما فعله هذا البطل "المرسوم" والشخصيات التي رافقته لم يفعله إلا أبطال قلة.
ولئن ترجمت "ألبومات تنتان" إلى لغات شتى فهو لم يحظ في العربية بأي ترجمة، تبعاً لابتعاد القارئ العربي عن مثل هذا الجو من المغامرات وعن مثل هذا الأسلوب في كتابة القصص المصورة أو المرسومة.
إلا أن أحمد أبو دهمان نجح في كتابة قصة شبه خرافية تدور في الصحراء العربية، وأدخل فيها كتاب تنتان وجعله بين أيدي أشخاص لا يجيدون اللغة الأجنبية، لكنهم استطاعوا أن "يقرأوا" الرسوم الطريفة التي تمثل القصة. وبدت قصة أحمد أبو دهمان محملة بسحر الصحراء وعطشها الأزلي.
عن الاندبندنت عربية

 متابعة / المدى

 

يواجه العراق تحديات متزايدة في قطاع الصحة نتيجة النمو السكاني السريع، ما أدى إلى ضغوط متنامية على البنية التحتية الصحية، وتزايد الطلب على المستشفيات والمراكز الصحية.

 

وتسعى الحكومة العراقية إلى وضع خطط استراتيجية طويلة الأمد توازن بين النمو السكاني واحتياجات الخدمات الصحية، بما يضمن تحسين جودة الحياة وتعزيز استدامة الصحة العامة بوصفها محركًا للنمو الاقتصادي.
وتبرز هذه التحديات في ضوء النتائج الأخيرة للتعداد السكاني، التي أظهرت أن عدد سكان العراق يبلغ 46 مليون نسمة، بينهم نحو 60% من الشباب ضمن الفئة العمرية 15–32 عامًا، وهي الفئة التي يُطلق عليها مصطلح «الهبة الديموغرافية»، والتي تمثل فرصة كبيرة إذا جرى استثمارها بشكل فعّال، لكنها تتحول إلى عبء في حال إهمال التخطيط الاستراتيجي.
وفي هذا السياق، يقول مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية، مظهر محمد صالح، إن الحكومة تسعى إلى مواجهة هذه التحديات من خلال استراتيجية اقتصادية متكاملة ضمن البرنامج الحكومي ورؤية العراق 2050.
ويضيف صالح، في تصريح صحفي تابعته (المدى)، أن هذه الرؤية تتضمن زيادة الاستثمار في البنية التحتية الصحية، وبناء مستشفيات ومراكز جديدة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، إلى جانب إدخال التحول الرقمي في القطاع الصحي عبر ربط السجلات الطبية بالمرافق الصحية، بهدف تحديد الاحتياجات بدقة وتحسين كفاءة الإنفاق. كما تتضمن الرؤية، بحسب صالح، تعزيز توزيع الموارد البشرية الصحية بشكل متوازن للحد من التفاوت الجغرافي في الخدمات الطبية، وضمان العدالة في الوصول إلى الخدمات الصحية من خلال برنامج التأمين الصحي الوطني وبرامج دعم الأسر محدودة الدخل.
ويوضح أن هذه السياسات تهدف إلى خلق توازن بين النمو السكاني والقدرة الاستيعابية للقطاع الصحي، مع التركيز على استثمار صحة وتأهيل الشباب المنتج، بما يضمن تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة.
من جانبه، يبيّن المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية، عبد الزهرة الهنداوي، أن الوزارة أطلقت في عام 2023 «الوثيقة الوطنية للسياسة السكانية»، التي تغطي 11 محورًا تتعلق بالصحة والتعليم والسكن ودعم الفئات الهشة والشباب والمرأة، فضلًا عن مواجهة التغيرات المناخية.
ويشرح الهنداوي، أن محاور الصحة في الوثيقة تهدف إلى تحسين مستوى الرعاية الصحية الأولية، وخفض وفيات الأطفال دون سن الخامسة، وزيادة متوسط العمر المتوقع.
وفي هذا الصدد، يشير إلى أن معدلات الأعمار تحسنت مؤخرًا لتصل إلى 72 سنة للرجال بعدما كانت 69 سنة، وإلى 74 سنة للنساء بعدما كانت 71 سنة، مبينًا أن البرنامج يشمل أيضًا زيادة عدد الأسرة في المستشفيات وتحسين الخدمات الصحية عبر إنشاء مشاريع ومستشفيات جديدة لاستيعاب الطلب المتزايد.
بدوره، يؤكد الخبير الاقتصادي مصطفى الفرج أن النمو السكاني السريع في العراق يمثل «سلاحًا ذا حدين»، إذ يشكل فرصة للاستثمار في الطاقة الشبابية إذا روعي التخطيط الاستراتيجي، لكنه يتحول إلى عبء في حال غياب السياسات الاقتصادية السليمة.
ويشير الفرج، إلى أن العراق يشهد تضاعفًا شبه منتظم لعدد سكانه كل 35 سنة، الأمر الذي يستدعي وضع خطط مدروسة لاستثمار هذه الطاقة البشرية في القطاعات الاقتصادية المختلفة، بعيدًا عن الاعتماد الكلي على النفط.
ويدعو الفرج، في ختام حديثه، إلى تنشيط قطاعات السياحة والصناعة والزراعة، بما ينسجم مع النمو السكاني، ويسهم في خلق فرص اقتصادية جديدة، والتخفيف من معدلات البطالة المرتفعة بين فئة الشباب.

بغداد/ تميم الحسن

يعود اسم "مقتدى الصدر" إلى الواجهة مرة أخرى، لا بوصفه لاعباً مباشراً في المفاوضات، بل كعامل قلق يلاحق خصومه. فـ"الإطار التنسيقي" يجد نفسه، مجدداً، وهو يغازل زعيم التيار الصدري عند كل منعطف حساس يتعلق باختيار رئيس الحكومة المقبل، في سلوك يراه خصومه أقرب إلى التخبط منه إلى التكتيك.
هذا التردد، بحسب مصادر سياسية مطلعة، يعكس خوفاً عميقاً من حسم موقف نهائي في لحظة شديدة الحساسية. مرة يحاول التحالف الشيعي استقراء ما قد يريده الصدر، ومرة أخرى يترقب إشارات المرجعية، من دون أن ينجح حتى الآن في تحويل هذه القراءات إلى قرار سياسي واضح.
وحتى اللحظة، لم يتمكن "الإطار" من الاتفاق على مرشحه لرئاسة الحكومة، وهو عجز بدا واضحاً في آخر اجتماع عقده التحالف في منزل رئيس حكومة تصريف الأعمال محمد شياع السوداني، حيث غاب ملف الترشيحات عن النقاشات باستثناء اشارات ضعيفة، وفق ما أفاد بيان عن الاجتماع.
في المقابل، لا توحي مسارات التفاوض الجارية بأن الحكومة المقبلة ستشهد إقصاءً حقيقياً لـ"الفصائل" عن مواقع النفوذ، على خلاف ما تطرحه واشنطن من شروط ورؤى. ويقول مسؤولون مطلعون إن الصيغة المتداولة حالياً تعكس موازين القوى داخل التحالف الشيعي أكثر مما تستجيب لضغوط أميركية.
ويذهب بعض هؤلاء إلى أبعد من ذلك، محذرين من أن المشهد السياسي يتجه نحو إعادة إنتاج تجربة عام 2018، حين تشكلت حكومة عادل عبد المهدي بوصفها تسوية اضطرارية بين قوى متنافسة، من دون رؤية موحدة أو غطاء سياسي صلب، وهو ما انعكس حينها ببرود أميركي واضح، قبل أن تنتهي التجربة بانفجار سياسي وشعبي واسع.
ومع مطلع الأسبوع الحالي، بدأ العدّ التنازلي لتشكيل الحكومة فعلياً، بعد أن أعلنت المحكمة الاتحادية مصادقتها على نتائج الانتخابات، وعرض مجلس القضاء الأعلى جدول "التوقيتات الدستورية" التي تحكم المراحل اللاحقة من العملية السياسية.
غير أن هذا الاستحقاق الزمني لم يدفع "الإطار التنسيقي" إلى تسريع خطاه، بل على العكس، قرر التحالف الشيعي تأجيل الإعلان عن مرشحه لرئاسة الحكومة إلى اللحظات الأخيرة التي تتيحها تلك التوقيتات. ويعوّل قادة التحالف على المهلة التي قد تمتد، في أقصاها، إلى نحو شهرين، إلى حين انتخاب رئيس للجمهورية، باعتبارها فرصة لاحتواء الخلافات الداخلية قبل أن تتفاقم أو تنفجر على نحو علني.
وخلال هذه الفترة، تبدو المفاوضات وكأنها تدور في حلقة مفرغة. فبدلاً من توسيع دائرة الخيارات أو طرح أسماء جديدة يمكن أن تشكل مخرجاً وسطياً، عاد النقاش لينحصر مجدداً بين مرشحين اثنين فقط لرئاسة الحكومة، في مؤشر واضح على ضيق هامش التوافق داخل "الإطار" وعجزه، حتى الآن، عن إنتاج تسوية أكثر اتساعاً.
الهروب إلى الأمام
وللهروب من أزمته الداخلية، يقول سياسي شيعي إن "الإطار التنسيقي" لجأ إلى محاولة أخذ رأي مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، في شأن اختيار رئيس الحكومة المقبلة، في خطوة تعكس عمق الانقسام داخل التحالف.
ويضيف السياسي، في حديث لـ(المدى) شريطة عدم نشر اسمه، أن «حدة الخلافات داخل الإطار التنسيقي تدفعه إلى البحث عن منفذ، عبر عرض أسماء المرشحين إما على السيد الصدر أو على مرجعية النجف"، في محاولة لكسر حالة الجمود التي تعطل الحسم.
وفي هذا السياق، كشف القيادي في منظمة بدر محمد البياتي، خلال لقاء متلفز، عن وجود نية لدى "الإطار التنسيقي" لتكليف مجموعة خاصة بالذهاب إلى الصدر والتفاهم معه بشأن شكل الحكومة المقبلة. غير أن هذه المساعي، لم تلقَ حتى الآن أي إشارة أو رد من جانب زعيم التيار الصدري - بحسب اتصالات أجرتها (المدى) مع أوساط مقربة من الصدر-
ومنذ الانتخابات التي قاطعها ودعا أنصاره إلى عدم التصويت أو الترشح فيها، التزم الصدر صمتاً سياسياً كاملاً، مبتعداً عن التعليق على مجريات التفاوض، ومكرساً وقته لأنشطة دينية وحملات لجمع التبرعات. وكان قد رفض، في أكثر من مناسبة خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات، التراجع عن قرار المقاطعة أو العودة إلى المشهد السياسي.
وتُظهر تجارب سابقة أن "الإطار التنسيقي" غالباً ما يكلّف هادي العامري، زعيم منظمة بدر، بمهمة فتح قنوات الاتصال مع الصدر، كما حدث عقب انتخابات عام 2021، وهي الاتصالات التي انتهت حينها باعتزال زعيم التيار الصدري، قبل أن يمضي التحالف الشيعي في تشكيل الحكومة من دونه.
وفي مسار موازٍ، كانت معلومات متداولة قد أشارت إلى أن قوى شيعية أرسلت في وقت سابق قائمة بأسماء مرشحين لمنصب رئيس الحكومة إلى المرجع الأعلى علي السيستاني، غير أن الأخير رفض التدخل في هذا الملف.
جلسات مكررة بلا حسم
ومنذ اسابيع "يلف ويدور" التحالف الشيعي، وفق تعبير مصادر سياسية، في قضية رئيس الحكومة دون حسم واضح، بسبب شدة التنافس بين اسمين فقط وهما رئيس حكومة تصريف الاعمال محمد السوداني، وزعيم "ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي، اللذان يصران على تولي المنصب رغم وجود اسماء اخرى متنافسة.
ومساء الاثنين دعا الإطار التنسيقي، في اخر اجتماع له، إلى عقد جلسة البرلمان وانتخاب رئيسه، بعدما فشل في اختيار رئيس الوزراء الجديد بحسب ماكان متوقعا.
ووصفت مصادر في تيار الحكمة لـ(المدى)، سبقت الاجتماع الاخير الذي جرى في منزل السوداني، بانه "حاسم" وسيتم الكشف عن اسم رئيس الحكومة، وهو مالم يحدث.
بالمقابل أكد قصي محبوبة، القيادي في تحالف الاعمار والتنمية، الذي يتزعمه السوداني، ان "الاطار التنسيقي" لايبدو انه قريب من اخيتار رئيس الحكومة.
وقال لـ(المدى): "ليس لدي الاطار التنسيقي اليات او معاير واضحة في تقييم المرشحين لمنصب رئيس الوزراء او حتى التصويت عليهم».
وجاء في بيان اجتماع التحالف الشيعي، الاخير، مطالبة الاخير بـ"عقد جلسة مجلس النواب في أقرب وقت ممكن، والمضي بانتخاب هيئة رئاسة المجلس"، فيما اكتفى بالاشارة بشان رئيس الوزراء القادم، بانه قرر المضي في "الحوارات والنقاشات بين جميع الأطراف السياسية لحسم ملف تشكيل الحكومة».
وهذا هو الاجتماع الخامس للمجموعة الشيعية بعد اعلانه الشهر الماضي، بانه الكتلة الاكبر بنحو 170 مقعدا، تمهيدا لتكليف شخصية من داخل "الاطار" لرئاسة الحكومة المقبلة.
«شبح عبد المهدي» !
من قلب المفاوضات الجارية، يلوّح شبح تجربة عام 2018 مجدداً في المشهد السياسي العراقي. فبحسب سياسي شيعي مطّلع، لا يزال "الإطار التنسيقي" عاجزاً، حتى الآن، عن منع "الفصائل المسلحة" من التقدم نحو مواقع تنفيذية حساسة بما فيها "رئاسة الحكومة».
ويشير السياسي إلى أن القوى المسلحة، التي حصدت أكثر من 80 مقعداً في الانتخابات الأخيرة، دخلت بغالبيتها تحت مظلة "الإطار التنسيقي"، ما منحها ثقلاً يصعب تجاهله في معادلة تشكيل الحكومة، رغم التحذيرات الأميركية المتكررة من إشراك هذه الجماعات في السلطة.
ورغم أنه لا يجزم بأن "الفصائل" ستطرح شخصية من داخل صفوفها لرئاسة الوزراء، إلا أنه يرجّح أن تتجه إلى دعم "ممثل قريب منها" لتولي المنصب، محذراً من أن خطوة كهذه "ستستفز واشنطن"، على حد تعبيره.
وبحسب التقديرات ذاتها، فإن الولايات المتحدة قد لا تتدخل علناً في تسمية رئيس الوزراء المقبل، لكنها في المقابل قد تلجأ إلى مقاطعة سياسية لحكومة تشارك فيها الفصائل المسلحة، في سيناريو يعيد إلى الأذهان تعاملها البارد مع حكومة عادل عبد المهدي.
وفي هذا السياق، تكثّف السفارة الأميركية في بغداد تحركاتها، إذ تقوم منذ أسابيع بجولات مكوكية شملت عدداً من الزعامات الشيعية، بينهم مرشحون محتملون لرئاسة الحكومة. وتؤكد معلومات حصلت عليها (المدى) أن هذه اللقاءات تُجرى بشكل شبه يومي مع شخصيات سياسية مؤثرة في مسار التفاوض.
وكانت السفارة الأميركية قد أبلغت (المدى) في وقت سابق أن إشراك الفصائل المسلحة في الحكومة المقبلة من شأنه أن ينعكس سلباً على شكل الشراكة مع الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن واشنطن "تحتفظ بخيارات مفتوحة" للرد على أي مسار من هذا النوع.

السليمانية / سوزان طاهر
انفراجة جديدة في المشهد السياسي بعد عودة اجتماعات الحزبين الكرديين، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، لمناقشة تشكيل الكابينة الجديدة لحكومة إقليم كردستان.
ويأتي ذلك في وقتٍ أعلن فيه قوباد طالباني، نائب رئيس مجلس وزراء إقليم كردستان، في مؤتمر صحفي استعدادَ الاتحاد الوطني لبدء الحوارات الخاصة بتشكيل حكومة الإقليم.
وفيما يخص تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، أوضح قوباد طالباني أن هناك حاجةً إلى الحوار، وأنه ينبغي مشاركة جميع الأطراف لكي تتمكن الحكومة من تقديم خدمة جيدة للمواطنين بشكل عام، مؤكدًا أن الأطراف الكردستانية في العراق تعتبر منصب رئاسة الجمهورية استحقاقًا كرديًا.
وشهد البيت الكردي خلال الأشهر الماضية أزمةً كبيرة، تمثلت في تصاعد حدة الخلاف بين الحزبين الكبيرين، على أثر الدعاية الانتخابية، وما لحقها من أحداث سياسية وأمنية في الإقليم.
خطة التوزيع
وبحسب مصادر سياسية مطلعة، فإنه، فيما يتعلق بتشكيل حكومة إقليم كردستان، يبدو أن هناك بعض التقدم، وانفراجةً في مشهد المفاوضات.
وتؤكد المصادر في حديثها لـ«المدى» أن «الاتحاد الوطني الكردستاني يتراجع تدريجيًا عن مطلبه بوزارة الداخلية، التي رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني التخلي عنها رفضًا قاطعًا».
وأضافت أن «نيجيرفان بارزاني سيبقى رئيسًا لكردستان، ولكن سيتم تقليص عدد نواب الرئيس من اثنين إلى واحد، وسيُسند هذا المنصب إلى شخصية من الاتحاد الوطني الكردستاني».
فيما «سيتولى مسرور بارزاني منصب رئيس وزراء إقليم كردستان مرةً أخرى، مع نائب من الاتحاد الوطني الكردستاني، يُرجَّح أن يكون قوباد طالباني».
ومن بين الوزارات الرئيسية، سيحتفظ الحزب الديمقراطي الكردستاني بوزارتي الداخلية والموارد الطبيعية، بينما يحتفظ الاتحاد الوطني الكردستاني بوزارة البيشمركة، ويحصل على وزارة المالية.
وأشارت المصادر إلى أن «رئيس برلمان كردستان سيكون من الاتحاد الوطني الكردستاني، مع نائب من الحزب الديمقراطي الكردستاني».
توحيد الكرد في بغداد
عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني شيرزاد حسين يشير إلى أن حزبه ليس لديه أي مشكلة في توزيع المناصب، ولكن يجب أن تكون وفقًا للاستحقاقات الانتخابية، احترامًا لصوت الشعب.
وبين خلال حديثه لـ«المدى» أن «الاتفاق على الإسراع بتشكيل حكومة إقليم كردستان سيكون خطوةً للاتفاق على توزيع المناصب المخصصة للكرد في بغداد، ومن بينها منصب رئاسة الجمهورية».
وأضاف أن «الحزب الديمقراطي يرغب بذهاب الكرد إلى بغداد بوفدٍ مشترك، وتحالف يضم كل القوى الفائزة، بهدف تشكيل قوة سياسية تستطيع التفاوض على حقوق ومطالب شعب كردستان».
ويشهد إقليم كردستان أزمةً سياسية مستمرة منذ الانتخابات الأخيرة التي جرت في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2024، حيث تعثرت مفاوضات تشكيل الحكومة بين الحزبين الرئيسين، بعد ظهور التباين في الرؤى بينهما حول تقاسم السلطة، وصلاحيات المناصب الرئيسية مثل رئاسة الإقليم والحكومة والبرلمان.
وشهد البرلمان بدورته السادسة انعقاد جلسته الأولى في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2024، والتي تضمنت تأدية اليمين القانونية لأعضائه، وإبقاء الجلسة مفتوحة بسبب عدم حسم المناصب الرئيسة في الإقليم.
تسريع المفاوضات
من جهة أخرى، يرى الباحث في الشأن السياسي لطيف الشيخ أن انعقاد الاجتماع الأخير بين الحزبين الكبيرين هو خطوة لتسريع المفاوضات، وإنهاء الملفات العالقة بين الطرفين.
وذكر خلال حديثه لـ«المدى» أن «الطرفين رغبا بتأجيل تشكيل حكومة الإقليم إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية العراقية، حتى يتم التفاوض بسلة واحدة على المناصب في كردستان وفي بغداد».
وتابع أنه «من الواضح أن هناك رغبةً دوليةً وإقليميةً بتسريع مفاوضات تشكيل حكومة الإقليم، كون تلك الدول ترغب بإقليم مستقر وهادئ».
وتواجه عملية تشكيل الحكومة الجديدة في إقليم كردستان مأزقًا غير مسبوق، إذ تقترب الحكومة الحالية من تحطيم الرقم القياسي لأطول فترة تستغرقها مفاوضات تشكيل حكومة في الإقليم.
وأُجريت انتخابات برلمان إقليم كردستان يوم 20 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وحصل الحزب الديمقراطي على 39 مقعدًا، والاتحاد الوطني على 23 مقعدًا، والجيل الجديد على 15 مقعدًا، فيما حصلت بقية الأطراف على حصص متفاوتة من المقاعد.
ووفقًا لمصادر سياسية كردية، فإن الاتحاد الوطني الكردستاني ينوي ترشيح وزير البيئة السابق ومسؤول المكتب السياسي للحزب في بغداد نزار عمادي لمنصب رئاسة الجمهورية، إذا ما تم التوافق مع الديمقراطي حول المنصب.
فيما يكون منصبُ النائبِ الثاني لرئيس البرلمان العراقي، واثنتان من الوزارات المهمة داخل الكابينة الحكومية، من حصة الحزب الديمقراطي.
من جانب آخر، عبّر القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني غياث سورجي عن شعوره بأن مفاوضات تشكيل حكومة كردستان خطوة للإسراع بحسم المناصب الكردية في بغداد.
وأضاف خلال حديثه لـ«المدى» أن «الاتحاد الوطني لا يطالب بالمناصب بحد ذاتها، إنما يريد تشكيل حكومة شراكة حقيقية مع الحزب الديمقراطي، وأن لا تكون إدارة جميع الملفات الأمنية والاقتصادية محصورة بيد الديمقراطي».
وشدد على أنه «فيما يخص توزيع المناصب، فإن الاتحاد الوطني هو الحزب الثاني في نتائج الانتخابات، ويمثل جمهورًا واسعًا، وبالتالي يجب مراعاة هذا الأمر، وأن لا تكون أغلب المناصب حكرًا لجهة واحدة».

 ترجمة: حامد أحمد

تناول تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية تبعات الجفاف وتراجع مناسيب المياه التي حلّت بنهر دجلة، مع زيادة نسبة التلوث فيه وتهديده بالجفاف ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة لإنقاذه، حيث سيؤثر ذلك جذريًا على مناسك وحياة طائفة المندائيين الذين يعيشون على ضفافه، مشيرين إلى أنه يمثل الحياة بالنسبة لهم، وبدون ماء لا توجد حياة، في وقت تقلصت أعدادهم في البلد إلى ما دون عشرة آلاف شخص.

 

نظام كريدي الصابئي، 68 عامًا، أحد شيوخ الصابئة المندائيين في مدينة العمارة جنوبي العراق، يقول لصحيفة الغارديان إنه اعتاد على شرب الماء من نهر دجلة الجاري، مشيرًا إلى أنه لم يمرض يومًا بسبب شربه من مياه نهر دجلة، ويعتقد أنه طالما كان الماء جاريًا فهو نظيف. لكن الحقيقة أن هذا الجريان نفسه الذي اعتادوا عليه قد يتوقف قريبًا.
نهر دجلة الشهير في العراق ملوّث بشدة ومهدّد بالجفاف. وإذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لإنقاذه، فإن حياة المجتمعات القديمة التي تعيش على ضفافه ستتغير بشكل جذري.
يقول الشيخ كريدي الذي اعتاد على الاغتسال بانتظام على ضفاف نهر دجلة بمدينة العمارة منذ أن كان عمره شهرًا واحدًا: "لا ماء، يعني لا حياة".
الصابئة المندائيون أتباع واحدة من أقدم الديانات في العالم. وكان جنوب العراق موطنهم لأكثر من ألف عام، ولا سيما في محافظة ميسان. وتُبنى العمارة، عاصمة المحافظة، حول نهر دجلة. ويُعدّ الماء محورًا أساسيًا في عقيدتهم، إذ يتطلب كل حدث كبير في الحياة طقوس تطهير. تبدأ مراسم الزواج في الماء، وقبل لفظ أنفاسهم الأخيرة ينبغي نقل المندائيين إلى النهر لإجراء الطهارة الختامية.
يقول الشيخ المندائي كريدي: "بالنسبة لديننا، أهمية الماء مثل الهواء. من دون الماء لا يمكن للحياة أن توجد. في بداية الخلق، كان آدم أول إنسان على الأرض. وقبل آدم كان هناك الماء، وكان الماء أحد العناصر التي خُلِق منها آدم".
يُعدّ نهر دجلة واحدًا من النهرين الشهيرين اللذين يحتضنان بلاد الرافدين، وكانا يشكلان جزءًا مما يُعرف بـ"الهلال الخصيب".
ينبع النهر من جنوب شرق تركيا، ويمتد على طول العراق، مارًّا بأكبر مدينتين فيه، الموصل وبغداد، إلى أن يلتقي بنهر الفرات، حيث يواصلان معًا، كنهر شط العرب، رحلتهما جنوبًا نحو الخليج.
يقول سلمان خير الله، مؤسس منظمة "حماة دجلة" غير الحكومية المكرسة لحماية النهر: "كل حياة العراقيين تعتمد على الماء. كل الحضارة وكل القصص التي تسمعها تعتمد على هذين النهرين. الأمر أكثر من مجرد ماء للشرب أو للري أو للاستخدام أو للغسل… إنه أكثر حتى من الجانب الروحي".
لكن صحة النهر في تدهور منذ عقود. فقد كان العراق يمتلك بنية تحتية متقدمة لمعالجة المياه، إلى أن جعلتها الولايات المتحدة هدفًا خلال عملية "عاصفة الصحراء" عام 1991. ومع تدمير محطات المعالجة، تدفقت مياه الصرف الصحي إلى المجاري المائية. وسنوات من العقوبات والصراع حالت دون تعافي البنية التحتية بشكل كامل. اليوم، في جنوب ووسط العراق، لا يتصل سوى 30% من الأسر الحضرية بشبكات معالجة مياه الصرف الصحي، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 1.7% فقط في المناطق الريفية.
إلى جانب النفايات البلدية، تتدفق إلى النهر الأسمدة الكيميائية والمبيدات عبر الجريان الزراعي، إضافة إلى النفايات الصناعية، بما فيها مخلفات قطاع النفط، والنفايات الطبية. ووجدت دراسة أُجريت عام 2022 أن جودة المياه في مواقع عدة داخل بغداد صُنّفت بأنها "سيئة" أو "سيئة جدًا". وفي عام 2018، تلقى ما لا يقل عن 118 ألف شخص العلاج في مستشفيات مدينة البصرة الجنوبية بعد شربهم مياه ملوثة.
وتزيد أزمة المناخ الوضع سوءًا. فقد سجّل العراق انخفاضًا بنسبة 30% في معدلات الهطول المطري، ويعاني من أسوأ موجة جفاف منذ ما يقرب من قرن. ومن المتوقع أن يتجاوز الطلب على المياه العذبة ما هو متوفر بحلول عام 2035. وخلال هذا الصيف، انخفض منسوب دجلة إلى درجة يمكن معها الناس من عبوره سيرًا على الأقدام.
يرى خير الله أن السدود المقامة في أعالي النهر وسوء الإدارة هما أكبر مصدرين للقلق، لأن انخفاض حجم المياه يؤدي إلى زيادة تركّز الملوثات. ويقول: "جودة المياه تعتمد على كميتها ووفرتها".
وقد اضطرت الحكومة العراقية مرارًا إلى الضغط على جارتها الشمالية لإطلاق كميات أكبر من المياه من سدودها. وتثير تركيا في هذه النقاشات قضية الهدر داخل العراق كأحد المخاوف الرئيسية.
في تشرين الثاني/نوفمبر، وقّعت بغداد وأنقرة آلية لمعالجة بعض مشكلات النهر، تشمل وقف التلوث، وإدخال تقنيات ري حديثة، واستصلاح الأراضي الزراعية، وتحسين إدارة الموارد المائية. وقد وُصفت بأنها اتفاق "النفط مقابل الماء"، إذ ستتولى شركات تركية تنفيذ مشاريع البنية التحتية مقابل تمويلها من عائدات النفط. وروّجت وزارة الخارجية العراقية للاتفاق بوصفه "الأول من نوعه".
لكن الاتفاق واجه انتقادات حادة من خبراء ونشطاء بيئيين والرأي العام، بسبب غياب التفاصيل المعلنة، والمخاوف من أنه يمنح أنقرة سيطرة على الموارد المائية العراقية، إضافة إلى كونه غير ملزم رسميًا.
وقال محسن الشمري، وزير الموارد المائية السابق: "لا يوجد اتفاق فعلي حتى الآن. أعتقد أنه أقرب إلى كونه دعاية انتخابية".
وقد جرى توقيع الاتفاق قبل تسعة أيام فقط من الانتخابات العامة في العراق.
ومن دون الماء، يخشى الشيخ كريدي على مستقبل أتباعه الصابئة المندائيين في جنوب العراق. فقد غادر كثيرون منهم البلاد أو انتقلوا شمالًا إلى إقليم كردستان. وتُقدَّر أعدادهم حول العالم بين 60 ألفًا و100 ألف شخص، فيما لم يبقَ في العراق منهم سوى أقل من 10 آلاف شخص. وقد يكون موت نهر دجلة هو المسمار الأخير في نعش وجودهم التاريخي.
عن الغارديان

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram