في توديع جنازة السيد الموسوي

Saturday 17th of January 2015 09:01:00 PM ,
العدد : 3264
الصفحة : الأعمدة , طالب عبد العزيز

يقول بعض أصدقائنا: ما ينفك طالب عبد العزيز يتحدث عن البصرة ويذكرها وأهلها بميزات الخير، ويغالي كثيرا في مديحها، مديحهم، كأن الله افردهم دون خلقه، واختصهم بما ليس عند الناس من صفات. فأتعجل الإجابة لأقول لهم: بالأمس مات بأجله السيد علي عبد الله الموسوي، زعيم الطائفة الشيخية في العراق، وهو فقيه وعالم كبير، تتجاوز مرجعيته الدينية حدود العراق إلى إيران والسعودية والبحرين وغيرها، لكن احداً لم يطلق في تشييعه إطلاقة واحدة، وسوى من ترديدٍ خافت لصوت حزين، مدموع بعبارة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ما سمع الناس شيئاً. وبكل الجلال واللطف مرت الجنازة المهيبة وسط الحشود التي وقفت لوداع الرجل الكبير والعلم المعروف.
ولمن لا يعرف كيف تقام مراسيم تشييع الموتى في البصرة اليوم، عند الكثير من الأسر التي دخلت البصرة بعد وقبل الحرب الأخيرة، التي انتهت بسقوط نظام صدام حسين. نقول بأن إطلاقا متقطعا للنار يبدأ حال ورود خبر وفاة شخص، أي شخص، شفيع او وضيع، ميت على سريره أو مقتول في حرب مع داعش. بإطلاق عشوائي او في نزاع عشائري، مطعون بسكين وهو سكران، أو مدهوس بسيارة أو مرفوس بعجل أو جاموسة .. إطلاق متقطع في البداية ثم يستمر وبكافة أنواع الاسلحة -عدا المدفعية طبعا- على مدى ثلاثة الأيام عند الغالبية، أو سبعة الأيام عند غيرهم. وبذلك تدخل المنطقة في إنذار من فئة (ج) كما كان يسمى في الجيش، لأن كل عشيرة تأتي معزية يأتي معها مسلحوها الاشاوس، محمولين بسيارة بيك أب خاصة، يصطفون في حلقة كبيرة أمام مخيم العزاء وبأعتدتهم وذخيرتهم، وهؤلاء لا يدخلون المدينة من شوارعها الخلفية إنما من بواباتها وعبر سيطراتها ونقاط تفتيشها وامام بوابات مراكز الشرطة فيها. اللهم أنْ لا احد يؤدي التحية لهم.
تعلّق الحكومة المحلية أعمال مجلسها لتعلن عن حالة الطوارئ، بسبب القتال الدائر في شمال البصرة بين عشيرتين، وتصرح وسائل الإعلام وعلى رؤوس الاشهاد بان طريق البصرة – عمارة - بغداد مقطوع بالسبب ذاته، ثم يقرر المجلس ابتعاث احد كبرائه ليقف بين العشيرتين، طالبا الهدنة (العطوة) ولم تفلح مساعي السيد فلان الفلاني بعقاله الاسود ويشماغه الرسولي، المحمّدي بوضع اللمسات الأولى لحل النزاع، ذلك لأن البطل المدعو (س) قتل البقرة التي أكلت قبضة من قمح بستان بيت البطل الكبير، والهزبر الاشعث، المدعو (ص) اما الذين قتلوا خلف السواتر المقامة بين العشيرتين فهم الأبطال الحقيقيون للمشهد البصري اليوم. وما كان رجلا أبدا، ولم تنجبه امرأة من ظهر أسد مستأسد غضنفر من أغمض عينيه ولا بندقية تحت وسادته، نحن في حرب ضروس منذ ان ضعفت الحكومة وبان خليطها.
في الفترة بين عامي 2005-2006 حين كانت البصرة ضيعة بقبضة المليشيات اختطف رجال من أحد العشائر شخصا من أبناء قبيلة بني عامر، او أولاد عامر- كما يحبّون ان يسمّون- التي تدين بمرجعيتها الروحية الى السيد علي الموسوي، موضوع عنايتنا في الورقة هذه، ولم تفلح الوساطات في الافراج عنه، عندها تجهز أبناء القبيلة (بني عامر) بأسلحتهم وطافوا شوارع المدينة بسيارتهم الكثيرة، في استعراض منضبط، قلَّ نظيره، وبقيادة حكيمة واعية تمكنوا خلالها من إرجاع الرجل المختطف. وانتهى الأمر. ومنذ التاريخ ذلك لم ير احدٌ بيد واحدٍ منهم بندقية.
كان الدرس بليغاً، أراد البصريون من قبيلة بني عامر (الشيخية) ان يقولوا لنا بان تجهيز القوة ممكن ويسير، لكن تجهيز الحكمة اعقد واكثر صعوبة. ففي بحر من سنوات قصيرة تمكن ابناء الطائفة الشيخية وبعقل تجاري معهود، من جعل منطقة العباسية والفرسي وشارع الجزائر والمنطقة المحيطة بمسجدهم أرقى ضواحي البصرة كلها. إذ ما ان تهبط الشمس حمراء على العشار، حتى ينسحب الناس منه ليدخلوا الضاحية الاحسائية الجميلة، شارع الجزائر، فهم كانوا الأسبق في افتتاح أول مركز تجاري كبير، مول-البصرة سنتر- في وسط وجنوب العراق، وكذلك سوق الخيمة المشيد على الطرز الخليجية وحلويات فستقة، والعشرات والمئات من الاسواق والمحال الصغيرة التي جعلت من زائر المدينة غير متم لزيارته ما لم يأتها متبضعا. وما مسجدهم الجامع إلا تحفة فنية، رائعة، بقبابه الخضر الجميلة وحدائقه الظليلة بنخيلها التي تتوسط باحة المصلى الكبيرة.
تبحث عن أجود أنواع التمور أو فسائل النخل، البرحي فتجدها في اسواقهم وبيوتهم وبساتينهم، وتبحث عن رائحة (ماء اللكاح) فتجدها عطرة بأفواههم، مبثوثة بين طيات ثيابهم، وتتأمل فنون الزراعة والسقي والبناء فتجدهم الأمهر والأدق، وتشح علامات الصدق والوفاء والسلام عند الناس فتجدها مبذولة بينهم، تتعطل سيارتك فتأخذها الى الميكانيكي منهم لتجده ماهرا، صادقا، لا يأخذ أكثر من تعبه، ولا يبخسك الكلام الحلو والابتسامة الآمنة. وحين باعت الناس بساتينها في ابي الخصيب وشط العرب والحوطة وحولوها الى مساكن، ظلت بساتين اولاد عامر، عامرة، خضراء معشبة، تقصدها البلابل والعصافير والفواخت.
أنا لا أمتدح أحداً هنا، انني أسمي الأشياء بأسمائها.