الفقدان في لحظة انبعاث الأمل من رماد الذاكرة..!

Monday 11th of April 2016 09:40:00 PM ,
العدد : 3622
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

في أول ردّ فعلٍ على دخول القوات الأميركية الى بغداد وهروب صدام حسين، قلتُ في حوار مكتوب "لسنا جزءاً من المشروع، ولم نكن على توافقٍ مع الاستقواء بالغير واعتماد وسيلة الحرب لإسقاط النظام، لكننا سنكون طرفاً في إعادة بناء عراقٍ ديمقراطي جديد وتمكينه لتحر

في أول ردّ فعلٍ على دخول القوات الأميركية الى بغداد وهروب صدام حسين، قلتُ في حوار مكتوب "لسنا جزءاً من المشروع، ولم نكن على توافقٍ مع الاستقواء بالغير واعتماد وسيلة الحرب لإسقاط النظام، لكننا سنكون طرفاً في إعادة بناء عراقٍ ديمقراطي جديد وتمكينه لتحرير إرادته من الاحتلال".

وطوال سنوات التعبئة للخلاص من الدكتاتورية، كان الهاجس الوطني قلقاً دائماً من اختلاط الأوراق في حُمّى المواجهة مع الدكتاتورية وتباين وسائلها وأدواتها، وكان اتساع مساحة الاختلاف يتمحور حول دور العامل الخارجي في إسقاط نظام البعث، ولم يكن هذا الميل المتزايد ينفصل عن الشعور بالعزلة والشك في القدرات الذاتية للمعارضة على النهوض بهذه المهمة، وكذلك تراجع الأمل بإمكانية اعتماد الوسائل الكفاحية التقليدية، بعد أن جرت تصفية  الحياة السياسية من الاحزاب والقوى الحية في المجتمع. ولم  يترك البعث وسيلة استباحة وعسف إلا أعاد تكييفها لتُصبح أشدّ هولاً في انتزاع روح الإنسان العراقي وامتهان كرامته وتهجينه ليكون أليَنَ عند التطويع والانكسار وتجريده من حساسية المقاومة والعزوف عن المسايرة والاندماج في منظومة استبدادٍ انتزعت كينونته الإنسانية، وأعادت تخليقه ليتماهى مع ما صار عليه كموضوعٍ للتماثل والانقياد.
وما كان موضع قلقٍ على الهوية الوطنية من اختلاط الاوراق وتداخلها مع الوافد الخارجي، تحول الى قلقٍ على الهوية نفسها، لخروج المسار عما كان مخططاً له للتحول الديمقراطي في العراق الجديد. وصار المشهد السياسي العراقي مكتظّاً بإرادة الاندفاع في طريق بناء تجربة "منغولية" متخمة بالتطرّف وتسيّد الهويات الفرعية، وانتهينا الى ضياع ما  كنا نتطلع اليه ببناء عراق ديمقراطيٍ جدير بتضحيات شعبنا وبآمالنا وتشوّفاتنا للمستقبل.
على مدى السنين التي تفصلنا عن لحظة سقوط الصنم، ظلّ الأمل باستعادة المبادرة لتصحيح مسار البناء والتطور في العراق يراود الوطنيين على اختلاف مشاربهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية، وظل الأمل يتجدد مع كل دورة انتخابية "ديمقراطية" وتوالي الحكام " المتشاركين" في سلطةٍ تنازعتها المحاصصة الطائفية على قيادة البلاد، لكنّ ما جرى في واقع الحال هو إمعان في تبديد الآمال وتكريسٍ لمنظومة لم تُنتج سوى الفساد وإشاعة ثقافة الانفصام عن القيم الديمقراطية والتطرف المذهبي والغلواء الدينية، وتوسيع مساحة التحريم والتكفير .
لقد تفننت الطبقة الحاكمة "الطائفية" في الإمعان بإنتاج  الأزمات التي تفاقمت مع تصاعد الصراع الطائفي والقتل على الهوية ونزعات الانفراد والإقصاء وتهميش الآخر ورفض التنوع والاختلاف لدى الطبقة الحاكمة، لتنتهي الى إفراغ العملية السياسية من أي مقوّمٍ من مقومات بناءٍ وطيدٍ لتجربة ديمقراطية رائدة تكرّس أسس دولة مدنية اتحادية، دولة مؤسسات وقانون وحريات وحقوق إنسان ولَبَنتِها المواطنة الحرة المتساوية .
وخلال التزاحم الشره على الغنائم والسحت الحرام وتبديد الثروات الطبيعية والبشرية، نسيت الطبقة الحاكمة مسؤوليتها المباشرة عن ضياع فرصة تجريد الماضي "المستبدّ" لنظام البعث من القدرة على إعادة تسويق نفسه سياسياً ومحاولة "تبييض" صفحاته السوداء الدموية، وهو تاريخٍ يسوّد تاريخ أُمّة بحالها من هول ما ارتكبه من جرائم وترويع وإبادات وتدمير وحروب داخلية وخارجية واستباحاتٍ لم تماثلها في بعض جوانبها حتى نازيّة هتلر وفاشيّة موسوليني. واكتفت الحكومات المتعاقبة " الطائفية" الفاسدة، بالجدل العقيم حول "اجتثاث البعث"، ومواصلة التهريج البرلماني بتحريم حزب البعث، متغاضية ومساهمة بإعادة تأهيله، باستثناءاتٍ "حسب الطلب" والمصلحة الشخصية والحزبية لقياداتٍ عسكرية وأمنية ومدنية، واستيعاب قاعدة أجهزة البعث في أجهزة العراق الجديد، حسب الانتماء المذهبي والولاء السياسي، الشيعي والسني!
واكتظّ المشهد السياسي وصدارة أجهزة الدولة ومؤسساتها ببقايا النظام السابق والبعث، لنُصبح في مواجهة تدويرٍ لقيمهما وسياساتهما ونهجهما وتقاليدهما ومفرداتهما السياسية في كل ركن من أركان الدولة الهشّة المحمّلة بذنوب الماضي الآثم المُثقل بآثام وفساد ونهب وتخريب النظام المتمترس في قاع هويته الطائفية .
ورغم هذا الاكتظاظ المشبوه، تظلّ الطبقة الحاكمة توهمنا بتمثيلها لإرادة الشعب وحملها لتطلّعاته في الإصلاح والتغيير .
في لحظة معايشة مع أمل ينبعث من جديد ، يترافق مع دعواتٍ للإصلاح ، تنبعث ذكريات فقدان الأمل وتداعياته بعد ثلاثة عشر عاماً من الفقدان وضياع الفرص .