العراق المنغولي في ذمّة حرافيش حوافِّ المدن المقصيّة ..

Sunday 17th of April 2016 09:22:00 PM ,
العدد : 3627
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

تحوّلت بغداد أمس الأحد، إلى خليطٍ من كانتوناتٍ تقاسمتها القوات الأمنية الحكومية ومريدو السيد مقتدى الصدر. وشهدت العاصمة المَسْبيّة تمدّداً للاعتصامات نزولاً عند الأمر المطاع من السيد الصدر، لتشمل ساحة التحرير ومداخل بعض الوزارات، والآتي في علم الغيب.

تحوّلت بغداد أمس الأحد، إلى خليطٍ من كانتوناتٍ تقاسمتها القوات الأمنية الحكومية ومريدو السيد مقتدى الصدر. وشهدت العاصمة المَسْبيّة تمدّداً للاعتصامات نزولاً عند الأمر المطاع من السيد الصدر، لتشمل ساحة التحرير ومداخل بعض الوزارات، والآتي في علم الغيب.

وقد باتت خُطَب وما يُنسَب من تصريحاتٍ وتعليماتٍ للسيد، أشبه ببيانات "الثورة" ومراسيمها، في حلّ وزاراتٍ وتشكيل بدائل، ورسم خارطة طريقٍ لما سيكون عليه عراق الجمهورية الرابعة وولاتها. الساعات القادمة، وفقاً لأمر السيد، تُحتّم على الرئاسات الثلاث إنهاء ملفّ الكابينة الوزارية "التكنوقراطية" المستقلة وطرحها على البرلمان لإقرارها.
وخلافاً لما عرفه العراقيون عن شكل "الثورة" ومفهومها، فإن ما يجري الآن يلتبس عليهم، ويُفاقم من قلقهم، فالذاكرة المتوارثة لأحداث النصف الثاني من القرن الماضي تعرف مثال ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ التي قادها الزعيم الوطني المغدور عبد الكريم قاسم مع كوكبةٍ من الضباط الأحرار. وقد بدأت انقلاباً عسكرياً بالدبابات ثم تحوّلت الى ثورة شعبية بعد أن احتضنتها الجماهير على اختلاف مذاهبها السياسية وأحزابها ومكوّناتها وعقائدها وطبقاتها وفئاتها الاجتماعية. ولم تعرف هذه الذاكرة بعد ذلك  سوى انقلابات دمويّة أسست للطغيان والاستبداد وتدمير أركان الدولة كحاضنة للمجتمع وأداته في فرض دستوره وقوانينه. وكان التأسيس الأول لمملكة الطغيان وانتزاع روح المواطنة "ككينونة حرّة" تبحث عن ذاتها لتكتشف نزعاتها وتعبّر عنها بحريّة، في ٨ شباط ١٩٦٣. وشرّعت تلك المملكة الباغية منذ لحظاتها الأولى عقيدة القتل على الهوية الوطنية، وأطلقت قطعان الحرس القومي المنفلتة من كل قيد، تجوب الشوارع وتداهم البيوت لتقتل وتستبيح وتقود عشرات الآلاف من الوطنيين الى المعتقلات والسجون ومسالخ التعذيب وكرنفالات التصفيات الجماعية. من يومها ترسّخ في الوعي الوطني مفهوم الانقلاب تمييزاً عن مفهوم الثورة.
ومن دلالات الحدثين في الوعي الوطني، لم أتفاعل مع التغيير العاصف الذي أسقط الصنم المستبدّ  وطوى صفحة نظام البعث الشمولي، بوصفه تماثلاً مع واحدٍ من ذلكما الحدثين، بل أضاف نسقاً آخر، ثالثاً، ليس له مقاربة مع الثورة وإنما اتّخذ صيغة تغييرٍ بوسيلة الحرب واعتماد جيوشٍ أجنبية أعلنت شعار "التحرير" لتتحوّل إلى احتلالٍ مُشرعن أمميّاً و "عربيّاً"،  لكنه تغييرٌ  رغم وسيلته "المفروضة" بحكم ظروفٍ واختلالات في القوّة والقدرة الوطنية على التغيير، لاقى الارتياح المتحفّظ لإحساسٍ غامضٍ بانكسار الإرادة الوطنية وتعسّفٍ في إختيار البديل. وكان البديل "منغوليّاً" غير قابلٍ للأنسنة في مجتمعٍ يبحث عن نهاية لأحزانه.
ما الذي يجري اليوم ..؟
الشوارع مكسوّة بأحزان الشهداء والمغدورين والمفقودين، وضحايا نظامٍ سياسيٍّ فاسدٍ  يستعصي على الإصلاح  والتغيير، فاقد الصلاحية بكل المعاني والمفاهيم والقيم الوطنية باعتراف قادته. وعلى مبعدة من بغداد تتسلل داعش إلى الحواشي الرخوة  لتنشر الموت وهي تحتضر أو تكاد ..
البرلمان يكشف عن عواره، باعتباره ملتقى تناقضات النظام المتهرّئ، و"مجمع" الطبقة السياسية المتخفية وراء أقنعة المتصاهرين معها:  الفساد والإرهاب وماضٍ سقط في ٩ نيسان ٢٠٠٣، أعيد استنساخه "منغولياً" ليعيث في ما تبقى للعراقي من أمل.
الرئاسات الثلاث، كلّ منها يعيش عجز اختياره ويُدار إما بالإنابة أو بغياب الرؤية والوعي أو بانعدام الأهلية والحضور.
والعملية السياسية باتت في حالة موتٍ سريريٍّ غير مسموحٍ بإعلانه لانعكاس موته على عرّابيها، وهم في حَيرةٍ من أمرهم.
أعرف هذا كله، أُدرك أنّ الخيمة مرشّحة لتحترق بمن فيها، لكنني أعلم علم اليقين أنّ الواقع الفاسد فاقد الصلاحية الآيل للسقوط، ولن يكون له بديلٌ ينتظره العراقيون في ظل ما نحن عليه، وبالصيغ المتداولة من داخل العملية السياسية، وبحوارييها من حولها وخارجها، لن يكون البديل إلّا تدويراً لها، مع مفارقة  قد تجعلها على حافة تحوّلٍ في المجهول هي والخيمة سواءً بسواء ..!
الكلّ بات يُعلن أنه الأب الشرعي للإصلاح وقابلته المأذونة، ولكنَّ عمى الألوان الذي أصاب الجميع، يحجب رؤية رموز الفساد والقتلة والممحونين المعروفة تواريخهم وسِجّل ارتكاباتهم ودوافع عراكهم، وهم يغطّون مشهد الإصلاح المُفترى عليه.
البغادّة وحدهم، وقد لا يدرون أنهم موضوع التضحية المجانية الموصولة على تعاقب الممالك والجمهوريات والطغاة ومشاريع تدوير فضلات الأنظمة المستبدّة مع تبدّل أرديتها.
قال وزير الثقافة فرياد رواندزي متّصلاً إنّ ضابط الحماية في وزارة الثقافة أخبره عن طريق مدير مكتبه  ان مُعمّماً طلب منه بتهذيبٍ مقابلة الوزير لتبليغه باعتصامهم في مدخل الوزارة، مؤكداً أنه يحمل توجيهاً بعدم إلحاق الأذى بأحد ..
وبماذا أجبت ؟ سألتُ الوزير.
قال: طلبتُ من الضابط أن يُبلّغ الشيخ المُعمّم بأنني  ممتنع عن الدوام في الوزارة منذ ثلاثة أسابيع، وقد جعلتها عهدة تحت تصرّف مَن له الحول والقوّة، ولكن أنتم وما تشاؤون ..
ما الذي يجري؟ ..
أين والي بغداد ؟
عفواً نسيتُ ..
إنّ ما يجري إنّما هو نسقٌ رابعٌ ينتظر وشم مرحلة الضياع بين المفاهيم والأقدار.