بيـــوت القصــب الأهــواريــة ..سحـر البساطـــة وتفرد العمارة

Tuesday 7th of June 2016 12:01:00 AM ,
العدد : 3665
الصفحة : تحقيقات ,

الأهوار العراقية الجنوبية او كما تعرف فينيسيا الشرق لها من الخصائص والميزات ما يجعل منها خاصية طبيعية عالمية ، فمساحاتها المائية الشاسعة مع ما تنعم بها من غابة القصب والبردي باتت من افضل المناطق الدافئة في العالم والمناسبة لهجرة وتفقيس الطيور ومن شتى

الأهوار العراقية الجنوبية او كما تعرف فينيسيا الشرق لها من الخصائص والميزات ما يجعل منها خاصية طبيعية عالمية ، فمساحاتها المائية الشاسعة مع ما تنعم بها من غابة القصب والبردي باتت من افضل المناطق الدافئة في العالم والمناسبة لهجرة وتفقيس الطيور ومن شتى بقاع الارض، مع ملائمتها البيئية لتربية الجاموس وصيد الاسماك التي يعتاش عليها المئات من سكنة الأهوار فقد أضافت عمارة القصب لها ميزة اخرى وجمالية ساحرة متفردة لها خصائصها وميزاتها المتوارثة من السومريين وصولاً ليومنا هذا مع دخول بعض التحسينات والتطورات العمرانية في تشييد مضايف وبيوت القصب التي ذاع صيتها في كل دول العالم حتى باتت ايقونة مرتبطة بالأهوار والجاموس والجنوب العراقي المتفرد.

مضيف أهواري في روما
جمالية البيوت والمضايف الأهوارية جعلت رئيس البعثة التنقيبية الايطالية العاملة في تل ابو طبيرة الأثري الواقع جنوبي الناصرية وبالتنسيق مع الادارة الحكومية في العاصمة الايطالية روما يطلب بناء بيت سومري في احدى الساحات العامة في المدينة المذكورة . واوضح فرانكو دي اغستينو في تصريح صحفي  ان  الادارة الحكومية في روما بصدد اختيار ساحة عامة مناسبة لاقامة بيت سومري وسط العاصمة الايطالية روما. مضيفا: ان  البعثة وبالتنسيق مع منظمة طبيعة العراق ستقوم بتأمين مستلزمات بناء البيت السومري من قصب وبردي وبنّائين من ابناء الأهوار الذين سيقومون بتشييد البيت وفق الطراز السومري. لافتا الى ان فكرة اقامة بيت سومري وسط روما من شأنها ان توثق العلاقات الثقافية والحضارية بين المدينتين المعروفتين بتاريخهما العريق.

البيرغ والمهنئون
مما لا شك فيه، أن مضايف القصب المنتشرة في جنوبي العراق، بعمقها السومري، وأصالتها العراقية والعربية، كان لها دور كبير في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في حياة المجتمع الجنوبي خصوصا والعراقي عموما حتى بات لكل عشيرة وحمولة مضيف خاص به تجتمع للتداول في شؤونهم الخاصة والعامة. الكاتب نعيم آل مسافر الذي شهد بناء وتطوير مضيف جده علي آل مسافر 1971 الذي أسس لقرية تقع شرق مدينة الشطرة يقول: يستمر بناء  المضيف سبعة أيام تقريبا، في مناسبة تشهدها في القرية، مبينا: ان أهالي القرية يجتمعون وينصبون علم العشيرة (البيرغ) إيذاناً بالبناء، بعضهم يشاهد ويراقب عن بعد تلافيا للاخطاء. مضيفا: ويفد المهنئون من بقية القرى ملوحين بأعلامهم (بيارغهم), وتُلقى الأشعار والأهازيج, وتولم الولائم...

تطويع القصب وتشريحه
وأضاف ال مسافر: يُبنى المضيف من القصب الخالص، حيث يقوم فريق مختص من البنائين، بصناعة اسطوانات كبيرة من القصب، تُربط جيداً بحبال مصنوعة من القصب أيضاً. موضحا:  يُشرّط القصب بشكل طولي، ويرش بالماء ويُضرب بعصي غليظة، ثم يُفتل جيداً؛ فيصبح حبالاً متينة. كما يُستعان أحياناً لتمتين ربط الإسطوانات بحبال غليظة تُسمى (الكنبار) تُشترى جاهزة من السوق. منوها: ان هذه الحبال (الكنبار) ربما هي المادة الوحيدة غير المصنوعة من القصب التي تُستخدم في بناء المضيف.

تفاؤل بالرقم سبعة
واسترسل الكاتب: تكون تلك الإسطوانة غير متساوية النهايتين، عريضة من الأسفل وأقل عرضاً بكثير من الأعلى. مردفا: تسمى تلك الإسطوانات (الشِباب) بكسر الشين وترقيق الباء، ومفردها (شَبّة) بفتح الشين وتشديد الباء. وتعتبر هذه (الشبِاب) الدعامات الرئيسية للبناء. مضيفا: وقد ذُكرت في الأشعار الشعبية بإسمها هذا، وكما يقول بدر الرميض:
شِباب المحل للخطار عنه
وغوجي دوم للكلفات عنه
تره شوي الدياي بعيد عنه
وأخبرك بالمناسف ذيج هيه.  
مبيناً: ان عددها فردي دائما من السبعة فصاعدا وهذا من الأدلة على العمق السومري لبناء المضايف، حيث كان معروفا تفاؤل السومريين بالرقم سبعة، والأرقام الفردية عموماً. بالإضافة إلى البناء المقوس الذي عُرفوا به.
المضايف وعدد افخاذ العشيرة
وبشأن الارقام الفردية التصاعدية وعلاقتها ب (الشِباب) ذكر ال مسافر : يُقال أن عدد الشِباب يكون عادةً بعدد افخاذ العشيرة أو بحسب شأن صاحب المضيف وغيره لكنها قاعدة غير ثابتة. متابعا: هذا العدد الفردي يتغير من مضيف لآخر فهنالك 9 أو 13 أو 15 أو 17 أو 19 , لكني لم أشاهد في حياتي مضيفاً أقل من 9 أو أكثر من 21. مستطردا: تثبت (الشِباب) في الأرض، وتجر بالحبال من الأعلى لحنيها وربطها بما يقابلها, لتصبح على شكل أقواس. كما تبدو في الصورة كل (شَبّة) بشكل اسطوانة غير متساوية النهايتين.

ربط المضيف وتقوية البناء
وأضاف ال مسافر: يقوم فريق العمل بحنيها من الأعلى، حتى تلتقي كل منها بالتي تقابلها، ثم يُغلف مكان التقاء كل (شبتين) من الأعلى بالقصب، فتصبح كل شَبّة وكأنها قوس واحد. مضيفا: ثم يصنع الشبكان الجانبيان من القصب ويكون إرتفاع كل شباك بطول الإنسان الطبيعي الواقف، وطول الشباك بطول المضيف. ثم يثبت كل منهما في جانب؛ فتكون فائدة كل منهما ربط المضيف من البداية إلى النهاية لتقوية البناء. مشددا: أن للشباكين الجانبيين فوائد آخرى، منها إضافة لمسة جمالية للمضيف, وللإنارة والتهوية.

الإنارة والتهوية
ال مسافر واصل حديثه عن كيفية صناعة وتشييد المضايف من القصب متطرقا: الى صناعة حزمة طويلة ورفيعة من القصب طول كل واحدة منها بطول المضيف وتسمى (الهُطر) مفردها (اهطار). مبينا: انها تُثبت بالحبال بشكل طولي ابتداءً من الشباك الجانبي ثم تثبت عليها حصران القصب (البواري مفردها بارية). متابعا: ثم يُصنع الشبكان الأمامي الذي فيه الباب، والخلفي الذي يُسمى الكوسر، ويثبتان جيدا بالحبال التي اُعدت سلفاً. وظيفتهما نفس وظيفة الشباكين الجانبيين, الجمال وتمتين البناء والإنارة والتهوية.  

الوجاغ وحصران القصب
واسترسل الكاتب: يكون الكوسر مكان جلوس عليّة القوم من الوجهاء وكبار السن، كما يجلس البقية بعدهم حسب أعمارهم ومقامهم الإجتماعي. ويكون المضيف دون باب، أي فتحة في مقدمته فقط. مؤكدا: ان في هذا دلالة على انه مفتوح للضيافة في أي وقت، ويكون واطئا لكي يضطر الداخل اليه للإنحناء مرغماً. مردفا: أما الآن وبعد مرور مئات السنين على هذا البناء أصبح يوضع له باب لوجود أماكن آخرى للضيافة. مبينا: في بداية المضيف قرب الباب يُنشأ موقد القهوة (الوجاغ) الذي يعد أحد أهم رموز المضيف لاحتوائه على عدّة تحضير القهوة التي تتكون من عدة دلال مختلفة الاسماء والاحجام إبتداءً من الدلة العملاقة (الكمكم)، والدلتين الأصغر حجماً بقليل، وتسمى كل واحدة منهما المصفى، وبجانبهما الدلال السبعة الصغيرة في الحجم المتعارف. والهاون والمنفاخ والمكناش والصينية. خاتما حديثه بختام بناء وتجهيز المضيف بُفرشه بحصران القصب (البواري)، والبسط والسجاجيد التي تُصنع محلياً من صوف الأغنام.

انواع القصب ومراحل الربط
لكل مهنة (اسطة) و(خلفات) وبناء مضيف القصب لايختلف عن بناء البيوت بوجود بناة له منهم البناء حسن البهادلي الذي تحدث عن انواع القصب ذاكرا ان منها مايسمى(احضري) و(تبارة) و(كصب البارية). مؤكدا: وبناء المضيف يتم من خلال النوع الأول من القصب وهو احضري حيث يتميز بصلابته وسمكه المعتدل أما النوع الثاني فيتميز بالغليظ والثالث ما يميزه كونه (ترف) ويستخدم لصناعة البواري. متابعا: أما النوع الذي يستخدم في بناء المضيف من هذه الأنواع فهو نوع خاص يتم جلبه من أعماق مناطق الاهوار ويمر بمراحل عديدة حتى يكون جاهزا للبناء . متطرقا: الى مرحلة (الخرط) وهي عملية تصفية القصب من الغطاء الجاف المعلق به ومن بعدها يدخل في مرحلة ثانية هي مرحلة (الشد). مضيفا: حيث يتم ربط القصب ببعضه على شكل حزمة مهيئة للبناء بعد ان تكون مرحلة اختيار بناء المضيف جاهزة المكان الذي يراد من خلاله بناء المضيف.

مهارة (الاسطوات) والزخرفة
وعن عدد العاملين ومهاراتهم في بناء المضيف ذكر البهادلي:  ان العاملين في بناء المضيف يصل عددهم الى (15) شخصا بينهم اثنان من المختصين (الاسطوات). مبينا: ان أولى عمليات بناء المضيف هي حفر أماكن وضع الشبه وحسب القياسات وطوال المضيف. مسترسلا: ثم يأخذ العاملون بعمليات (الانحناء) للقصب المستخدم للبناء ويقصد به انحناء كل شبّة مقابل الأخرى وربطها بواسطة حبال خاصة. مضيفا: من بعدها يتم عمل(تلتله) وهي شيء مرتفع يستطيع من خلاله (الاسطة) ان يصعد فوقها لإكمال العمل في الجزء العلوي من المضيف.
وبعد ذلك تبدأ عملية (التهطير) وهي ربط شبّة بأخرى وتتراوح المسافة بين هطر وآخر خمسة أصابع لتقوية الشبّة بعدها تأتي عملية وضع (البواري) على الشبات وعددها (23) شبّة حيث يكون عدد البوارى للمضيف ذي (17) شبة (120) بارية مقسمة الى نصفين لكل نصف منها (60) بارية والعملية الأخيرة هي عملية التشبيج وهي زخرفة جميلة تضفى على البناء شكلا جميلا، موضحا ان لكل اسطة طريقة خاصة بالزخرفة ونوعها.

العمارة السومرية والثقافة الأهوارية
يتحدث البعض ان العمارة والبناء بالاجار والطابوق وصل الى المضايف وبيوت الأهوار الآن ان الناشط البيئي ورئيس منظمة طبيعة العراق جاسم الاسدي له قول آخر اذ بيّن ان المضايف المصنوعة من القصب ترجع اصولها الى فن المعمارة للحضارة السومرية والذي يعتبر من احد المرتكزات الثقافة الأهوارية. موضحا: حيث وجدت في مدينة أور التاريخية على رقم طينية واختام اسطوانية ترجع تاريخها الى اكثر من 3000 سنة تحمل نقوش مماثلة لهذه المضايف. مضيفا: ان الفراعنة بنوا الاهرامات ولكنها ماتت وظيفتها بموت الفراعنة، إلا ان المضيف القصبي لم يمت بموت السومريين. مشيرا الى استمرار وظيفته وانه اصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخ وحياة سكان المنطقة.

اهتمام الصحافة العالمية
ولفت الاسدي: ان السومريين استطاعوا من تصميمها على طرق هندسية محددة مستغلين بذلك طبيعة وجغرافية المنطقة، حيث يتم بناؤها جميعا بتجاه من الشمال الغربي الى الجنوب الشرقي. مستدركا:  وذلك لكون هبوب الرياح هناك غالبا ما تكون شمالية غربية، فيدخل الهواء الى المضيف عبر احد البوابات او الفتحات القصبية الموجودة في الجدار ويخرج من طرف الآخر، فتحدث عملية تبريد طبيعي للمكان ويشعر الجالس فيه بحرارة اقل من الجالس في البناء الحديث المبني من الطابوق والسمنت. مؤكدا: ان المضيف (بيت القصب) واحد من أهم المعالم السومرية الذي مازال أبناء الأهوار يشيدوه بكثير من المعرفة والخبرة ويشغل اليوم أهتمام الصحافة العالمية واصحاب الشأن المعماري.