الفنان سيروان باران..ظلال الجسد ورموزه

Friday 2nd of November 2012 05:05:00 PM ,
العدد : 2637
الصفحة : تشكيل وعمارة ,

دائماً ما يلجأ سيروان باران إلى إجراء إضافي لتعزيز الحس بالكتلة وتماسكها التعبيري ، باختياره قياسات كبيرة في المساحة مع ضمان اشتغال هذه المساحة كخلفية ، هذا التدبير يقوي عرض الكتلة في تمايزها الشكلي والتعبيري العاطفي ، وبموقعها في إسقاط حاد . بيد أن الفنان الذي ألغى الوضعيات الطبيعية في بناء اللوحة وبناء أشكاله على حد سواء ، يفضل كما هو واضح العرض الفني كفضاء تعبيري عام ، كما قال الناقد سهيل سامي نادر .
الجسد الذكوري غريب ، متطاول مدكوك دكاً وكأنه خرسانة ، لذلك علاقته بالمكان الذي اتخذ الكائن الذكوري صفته العريضة ، العالية ، رجل متعال مثل جبل ، مثير في الرسم وإن لم يكن تمثيلاً للمألوف ، فإنه مرسوم بالتصورات التي صاغها التخيّل الخاص بالفنان ، هو لا يقوى على فك الاشتباك مع يومياته ووقائعها ، الصور ، المرئيات ، ومخزونات لذاكرة من سرديات مثيرة عن المرأة التي تبدّت أقصر ومختفية في مجال الذكورة الثقافي ، رسم إرادة سيروان وذكرني بلوحات الفنان محمد عارف الذي أسطر شخوصه ، الذكورة والأنوثة فضاءان مختلفان ، لكن الأنوثة ثاوية ومثل النائمة على كتفه . في لوحات محمد عارف عتبة في كل واحدة ، تستريح عليها الأنثى ، تلوذ بها ورمزية الذكورة مهيمنة ، مفروشة عليها وكأنها تعتليها بالعلني الاستعاري . وفي لوحة سيروان رقم " 3" رجل كأنه يعتلي مرتفع بناء مثل السلالم المفضية إلى فراع / فضاء هو امتداد في عمق اللوحة ، بلون واحد ، المغايرة الوحيدة حدود سوداء توحي بالفواصل بين سلمة وأخرى ، إنهما يصعدان معاً يتخطيان الأرض / المدنس ، نحو المتعالي ، المطلق ، المقدس ، يتجهان وهي لائذة بجسد الذكر ، تحمل مثل بالونة تستقبل وتومىء بها معلنة عن فرح وانتصار من نوع آخر . الأنثى في هذه اللوحة يغطي البياض الناصع قدميها وفخذيها ، هي محلقة ، عريانة بجلستها على فخذه الأيسر ، جالسة وهو ينمو تدريجياً ، يكبر النوع فيه يتجه بالأنثى إلى فضاء لا احد يعرفه أو يراه ، حتى سيروان يجهله ، هو معني بالانضمام الثنائي ، وهي ترمي وجهها نحوه وتضم منه شيئا يشعل في داخلهما الايروس ويؤجج المتعة المخبوءة في الجنسانية غير المكتملة ، أنثى من ألوان داكنة . الأسود له مساحة واسعة ،متداخل وإياه الأحمر ، والمشع ببقعة بياض ارتفعت من الساقين والقدمين ورفرفة طائر كالحمامة بلون فضاء اللوحة يرف في فجوة بين الفخذين ، ليتحول رمزاً / علاقة جنسية وأفترض أنا المتلقي بأنها حمامة لتناظر دلالتها مع النوع ، فالحمامة رمز أنثوي ابتدأ بالاقتران معها منذ فجر التاريخ وبدايات الديانات حتى لحظة سقوط الخطاب الأمومي / أو ثقافة الأنثى وسلطتها . الرجل حاضر شاهق ، يداه غائبتان ، ذوبهما الاشتباك في تماس الدهشة والجنون الصاعد بهما ومعهما نحو بؤرة استدعت قوة الخيال لإنتاج مثل هذه الأسطورة المشتعلة بنار الأنثى الحمراء في رعدة الوجه وارتعاش حواسها كلها والأحمر الطاغي على فضاء صدرها / وموطن بث الخصب [ هو أن يواصل لونه العاطفي الجاد إلى النهاية . ذلكم هو شأن الحكايات الغرامية كافة التي لا يمكن إخفاؤها على العقل في نكده المعتاد وتشاؤمه الذاتي ، فيحولها إلى شغب وهزل . هذا ما سيفعله سيروان في النهاية ، عندما يصور وضعيات نبتسم لها ، لأنها إما تبدو غريبة بعض الشيء مستها يدٌ مرحة وإما جاءت كاستطراد لتعبيرية أسلوبية تلفق وتصوغ أوضاعاً ونسباً مشوهة أو مبالغ بها . لكن هناك ترابطات فنية وظيفية تجعل من ذلك الشغب مبرراً على المستوى الفني / سهيل سامي نادر / تنويعات على ثيمة واحدة / ﮔﻪ لاويزي نوى / العدد 30 / 2012 .
نستطيع القول بأن الجسد الآدمي غير منتظم وفاقد لجماليته . أعتقد بأن الفنان سيروان يتعمد هذا الخرق للانتظام حتى يجعله سياقاً فنياً ، يوفر للمتلقي فرصة إعادة إنتاج اللوحة / الجسد على وفق تصورات المتلقي الخاصة . وهذا هو الذي أطلق عليه ميرلوبونتي اللامرئي الذي يؤسس نوعاً من العلاقة معه وكشط السطح المتستر عليه . واللامرئي هو بعض من الحقيقة وليس الحقيقة كلها وهنا ما يشبه اللقاء مع جاك دريدا الذي قال رأياً حول " حذاء الفلاحة " لفان كوخ : الحقيقة رسماً . وما أنجزه سيروان هو حالة الجسد المتآكل والمرمم والمنقوش عليه كثيراً ، ولكن هذا الجسد المرسوم لا يشبه جسداً من قبل وليست له محاكاة مع أنموذج سابق ، وهذا يتضح أكثر في فلسفة ميرلوبونتي في إرجاع الفن إلى الدلالة الأصلية للفعل التعبيري من حيث هو ظاهرة إنسانية عامة ، وإذا كان لابد للفن أن يتطور فذلك لأن من شأن هذا الفعل التعبيري أن يتغير .
هنا يعيد ميرلوبونتي كل تاريخ الفن إلى أصل إنساني مشترك ، وهو العملية التعبيرية التي قام بها البدن ،ولذا فإن العمل الفني أكثر من وسيلة للتمتع أو اللذة ، إنه منتج حضاري يتجه مباشرة إلى الروح .
وبتوظف مفاهيم ميرلوبونتي الفلسفية عن الفن نستطيع القول بأن " اللغة الصامتة " التي يتحدث بها فن التصوير ، هي أفصح من أية لغة موجودة في التداول واستهلكها الاتصال .
ظل الجسد في لوحات سيروان مركزاً مهيمناً عبر تكرره واشتراكه بالندوب والكشط وكل العلامات المعبرة عن محنته وقبل ذلك عن مصير الفرد الإنساني ويضيء الفنان خلال ذلك تجارب عاشها الإنسان العراقي في الشمال والوسط أو الجنوب ، وتكاد أن تكون هذه التجربة عاكسة لمحنات ومصاعب الكائن في امتحانات مع القوة والسلطة وما ألحقته من تدمير وخراب كما في لوحة رقم "6" والتحدي لكل ذلك جسدته هذه اللوحة مع لوحات أخرى قريبة في التكون ونوع الكتلة وسعة الفضاء مع ضرورة ملاحظة تغير الملفوظات اللونية وأهمها اللون الأخضر الواسع ، خلفية لفضاء اللوحة حيث الجسد الذكوري الفخم المشحون بالطاقة المرموز لها باللون الأحمر واندفاع حماسي من الرجل نحو الجسد الحيواني للتشارك معاً بقبلة أثارت في الرجل طاقة التجدد وفي الكائن الحيواني الرمزي قوة القبول والرضا وكأنهما تمكنا من إنتاج فضاء تشاركي أخضر ، ويومئ طيران الجسدين – كما قلنا – بالتحرر من الأرضي / الدنيوي والتحليق عالياً نحو السماوي / المقدس وكأنهما يستعيدان فردوسهما الذي طرد منه الإنسان الأول بسبب مغامرة الاكتشاف وليس الخطيئة كما في المسيحية ، فالهبوط إلى الأرض معرفة واكتشاف مثلما يعني لحظة التباهي لكل من الجنوسة بطاقة كل منهما في إثارة اللذة والمتعة وما تفضي إليه من خصب ، رمزه الدال عليه هو الفضاء الأخضر . وتشترك أغلب لوحات سيروان بالانفلات من الأرضي إلى السماوي لحيازة جديدة لما فقده الكائن الأول ،وفي ذلك رؤية ضدية للدنيوي الذي ترك على الوجوه والأجساد المرسومة خرابه وتشويهاته ، لكنها لم تتعطل وظلت بقران وثيق ودائمي مع الحياة عبر أهم فواعلها وهي المرأة ، مركز الانبعاث والخصوبة الحاضرة في لوحاته ولم تغب عنها ، لكنه – سيروان – استعاض عنها في أكثر من لوحة برمزها أو العلاقة الدالة عليها وهذا يحتاج امتداداً في إشارتنا لذلك .
عرفت الديانات البكرية نظاماً ثقافياً ودينياً ، كانت الأم الكبرى / والآلهة المؤنثة هي ممثلة للسلطة وتنوع خطاياتها وحازت الأم الأولى على رموز غفيرة للتدليل عليها والتعريف بنظامها ومن تلك الرموز ، الحيوانات وأكثر الحضارات / الديانات المبتكرة للاتساع ذلك هي الفرعونية . ويقتنع الباحث  بأن الفرعونية ديانة حيوانات ، مقترنة مع الأم الأولى والآلهة المؤنثة ، كان ذلك في الحضارة السومرية وغيرها ، لكن نطاق ذلك محدود ، لذا بالإمكان اقتراح قراءة لوجود الحيوان في مشاركته للكائن الآدمي في لوحات سيروان وهي أن التشخيص في الحيوان المرسوم غائب / أو غائم ، لكننا نفترض أن يكون أنثى من أجل تحقق الثنائية بين الرجل وأنثى / الفرس ونحن لا نستطيع كشط الرسم وتلمس نوع الكائن الحيواني في لوحة أكثر اقتراباً من سطح الكهوف التي رسم الإنسان على جدرانها الداخلية حيواناته ، ومن المحتمل أن تكون الخيول مذكرة وهذا أمر ضعيف جداً . لأن سيروان مهتم بالجنسانية ، المذكر والمؤنث وما يرجح أنثوية النوع استمرار الكائن المرسوم بعلاقة الوله والانشداه الغرامي لأنثى الحيوان فيقبلها .
أغلق سيروان باب لوحاته على الجسد المرسوم وتكتم أكثر على الأشياء الغامضة فيه ، وأستطيع أن أكرر قولي حول ولع سيروان لكشط سطوح الجسد للكشف عن طياته الغامضة ، فيفاجأ بغرابة أكثر . وقبل ختم هذه القراءة أؤكد أن سيروان فنان له طريقة خاصة به ، عندما يخلق الإنسان في لوحته ويرميه وسط عاصفة الأنثى متستراً عليه من الفضيحة والإعلان عن رغبته وذهوله الحسي ، فيعيد عجن عتبة الجسد / استهلاله / الرأس ، ويختزل كل ما لديه بلغة الإفلات الخاصة عن الدنيوي ويقدم كائنه صاعداً نحو السماوي مغايراً للطائر عند استقرار خط طيرانه وحفاظه على نمطية الحركة الأفقية ، لكن كائن سيروان المرسوم يصعد جفلاً محلقاً مع الأنثى عمودياً مثل صاروخ لم يتخذ مداره بعد .
باختصار شديد : أراد الفنان [ أن يجد نهايات سعيدة للعالم ، أراد أن يعظم الوجود] كما قال الشاعر طالب عبد العزيز