إصلاح الدولة العراقية..تقييم ثلاث سنوات من عمر حكومة العبادي| (6) |

Sunday 10th of September 2017 12:01:00 AM ,
العدد : 4013
الصفحة : آراء وأفكار ,

في صيف ٢٠١٥ خرجت جماهير الشعب العراقي مطالبةً بتحسين الخدمات رافعة شعارات مناهضة للفساد ومطالبة بالإصلاح. حينها أعطت المرجعية العليا في النجف الأشرف الضوء الأخضر لرئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي للمضي نحو الاصلاح. لقد كانت فرصة فريدة من نوعها توفرت لل

في صيف ٢٠١٥ خرجت جماهير الشعب العراقي مطالبةً بتحسين الخدمات رافعة شعارات مناهضة للفساد ومطالبة بالإصلاح. حينها أعطت المرجعية العليا في النجف الأشرف الضوء الأخضر لرئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي للمضي نحو الاصلاح. لقد كانت فرصة فريدة من نوعها توفرت للعبادي كُنت قد وصفتها في مقال نشرته صحيفة "هفنغتون بوست" قبل عامين بأنه لو نجح في توظيف التفويض الشعبي وتطبيق الإصلاح بجرأة، فإنه سيدخل التأريخ من أوسع أبوابه وستذكره الأجيال بـنيلسون مانديلا العراق، إلا أن تَمَسُكَهُ ببروتوكولات النظام السياسي الذي أوصله لسدة الحكم حال دون ذلك.
مؤخراً، كنت قد دُعيت للانضمام الى مجموعة "واتساب" تضم نخبة من المثقفين والسياسيين، حيث طرحت ادارة المجموعة موضوعها الاسبوعي للمناقشة وكان السؤال المحوري هو: "ماذا حققت الحكومة من التزاماتها وتعهداتها ووعودها التي تعهدت بها للشعب خلال خطاب التنصيب بعد مضي ثلاث سنوات؟ وكيف تقيّمون سنوات الدكتور العبادي الثلاث في ادارة البلد؟ وهل ما زال امامها متسع للإصلاح وهامش لإعادة بناء اللحمة الوطنية؟". الاجابة على هذه التساؤلات الثلاثة لا يسعها مقال، لكنني سأجيب عليها في هذه الحلقة باختصار شديد وبحسب تقييمي الشخصي للملفات الآتية:
عسكرياً: أدارت حكومة العبادي الملف العسكري بمهنية فائقة وأعادت للقوات المسلحة هيبتها بعد تحرير مدن العراق من داعش. صحيح أن دعم المرجعية الرشيدة كان محورياً في تحشيد الجماهير بعد انهيار الجيش العراقي في منتصف عام ٢٠١٤ لكن خطاب وأداء القائد العام للقوات المسلحة كان موفقاً في كسب دعم التحالف الدولي وتوحيد الفصائل والتشكيلات المسلحة للوصول الى الهدف، وكانت حركته الدؤوب في جميع الجبهات محط اعجاب العراقيين والعالم. لقد استخدم العبادي كل الوسائل المتاحة له في التركيز على مهمة التحرير وجمع الكلمة في وقت حرج لم يشهد العراق الحديث مثيله منذ تأسيسه نظراً لحجم الهجمة الارهابية المنظمة وحساسية الوضع وتعقيداته على المستويين الاقليمي والمحلي. كما أن انضواء تشكيلات الحشد الشعبي تحت سلطة الدولة كمؤسسة حكومية أسهم كثيراً في تكريس السلم الأهلي داخلياً واستعادة مفهوم العقيدة العسكرية للقوات المسلحة بعد أن كان الانتماء إليها وظيفياً قائماً على أسس المحاصصة.
سياسياً: تحسب لحكومة العبادي إدارتها للملف السياسي وحسن استغلال الدعم الدولي للعراق والتنسيق مع إقليم كردستان العراق لضمان مشاركة البيشمركة في جبهات مشتركة اختلط بها الدم العربي والكردي وجميع مكونات الشعب العراقي لأول مرة في التأريخ الحديث، لهدف واحد، ألا وهو تحرير العراق من الإرهاب. لقد نجح العبادي بخطابه الهادئ والمتوازن في جمع الكلمة وتوحيد الرؤى السياسية لجميع الكتل، وتهدئة الوضع مع حكومة الاقليم في الوضع الراهن. كما لا بد من الاشادة بملف السياسة الخارجية الذي نجحت الحكومة في ادارته وإن كان هذا النجاح سببه الأول هو الدعم الامريكي والضغط الذي تولد من حكومة الولايات المتحدة على دول المنطقة في الانفتاح على العراق، إلا أن دور وزارة الخارجية العراقية كان موفقاً ونوعياً، خصوصاً بسعيها الى كسب المناصب الأممية لصالح العراق واستعادة دوره الريادي في الساحة الدولية. كما لا بد من الإشارة الى أن خطوات المصالحة الوطنية في تحقيق شيء من التقدم بعد أن وحدّت المخاطر الارهابية صفوف العراقيين في خندق واحد، والتزام القيادات السياسية خطاباً وحدوياً ووطنياً. لكن هذه النجاحات ستواجه التحديات الحقيقية التي قد تزعزع الوضع الامني من جديد بعد الانتهاء من تحرير جميع المدن والأقضية ومع قرب موعد الانتخابات وعودة الساسة وتياراتهم الى التراشقات والاتهامات لسابق عهدها في السباق نحو السلطة وفي ظل استمرار تردي الخدمات وتحديات إعادة إعمار المدن المتضررة في ظل وضع اقتصادي صعب.
أمنياً: بقي الوضع الأمني على سابق عهده ولم تتقدم الحكومة في تطوير ملف الأمن الداخلي، حيث ما زالت الحواضن الإرهابية تستقبل فلول الإرهاب التي تتسلل الى المدن والاحياء الآمنة بهدف زعزعة الاستقرار في ظل انعدام استخدام المنظومات والوسائل الاستخباراتية الرصينة والتكنولوجيا الحديثة.
إن تواجد الدبابات والآليات العسكرية في المناطق المدنية واستخدام الاجهزة الفاشلة واعتماد السياقات البالية لن تردع الإرهابيين والعصابات من الاختراق والتفخيخ والتفجير وارتكاب الجرائم المنظمة. كما أن تغلغل المجاميع المسلحة في اوساط بعض العشائر غير المنضبطة والفصائل المنفلتة ما زال مصدر قلق للمواطن والشركات الاجنبية والمستثمرين، ومصدر تهديد للأمن الوطني.
إدارياً: كان تقدم الحكومة متواضعاً جداً في الأعم الاغلب، حيث شهد عمل المؤسسات تراجعاً بسبب الاستمرار على السلوك السائد والمُتَبَع من الحكومات السابقة. كما أن وعود الاصلاح بقيت حبراً على ورق. كان بإمكان رئيس مجلس الوزراء أن يستخدم فرصة التفويض الشعبي ودعم المرجعية اللامحدود في عام ٢٠١٥ لإعداد مسودات القوانين الاتحادية المعَطلة في أروقة الحكومة منذ عام ٢٠٠٦ وارسالها الى مجلس النواب واحراج الكتل السياسية بتوقيتات وسقوف زمنية صارمة لمتابعتها والمطالبة بقراءتها والتصويت عليها لتمريرها بالأغلبية دون الرجوع الى المربع الأول الذي تحكمه المحاصصة تحت عنوان التوافقات السياسية سيئة الصيت. كما كان على العبادي العمل على بعض الإصلاحات الادارية والمؤسساتية في جميع القطاعات من خلال تكليفه لجاناً وكفاءات حقيقية مختصة في اعادة هيكلة الدولة دون الاعتماد على رموز المحاصصة، لكنه أضاع فرصة استخدام هذا التفويض الذي لم يتوفر لغيره.
اقتصادياً: الفساد ما زال مستشرياً وسوء الادارة هو السلوك السائد في الدولة، أما ملفات الخدمات والصحة والتعليم ففي أدنى مستوياتها. لم تتوفق الحكومة في القيام بإصلاحات حقيقية وملموسة على أرض الواقع مما أدى الى تراجع الوضع بشكل ملحوظ وتضخم الديون بسبب زيادة القروض في ظل انخفاض الواردات وتدني الاحتياطي النقدي واستمرار أحادية الدخل الريعي وهبوط اسعار النفط. كما أن جزءاً كبيراً من فشل ملف الاصلاح الاقتصادي يعود سببه الى هيمنة بعض الحلقات غير المهنية في الاقتصاد والمؤثرة سلباً في ملفاته والمشوشة على شخص رئيس مجلس الوزراء وأعضاء كابينته في جميع الملفات ومنعهم من التواصل مع ذوي الخبرة وتعطيل الملفات الحساسة. كان على شخص العبادي ووزرائه اعتماد الكفاءات العراقية على المستوى الدولي وتطهير الحلقات المقربة من النماذج الفاشلة وأنصاف المتعلمين والمُدَعين واصحاب الشهادات الانترنتية وعديمي الخبرة المهيمنين على أغلب ملاكات المكاتب الخاصة بعناوين مختلفة. أدت هذه الاسباب الى انحسار حجم الاستثمارات في بيئة عمل صعبة وارتفاع نسبة البطالة بين اوساط الشباب، مع استمرار البطالة المُقَّنعة في الأوساط الحكومية، وهذه الاخيرة هي احدى المعرقلات الرئيسة لعمل الحكومة واستنزاف موازناتها.
هل ما زال أمام الحكومة متسع من الوقت للإصلاح؟ نعم توجد فرصة. على رئيس مجلس الوزراء وطاقم حكومته أن يجتهدوا في تأسيس بداية صحيحة للمرحلة المقبلة، بعيداً عن الشعارات الانتخابية، وذلك من خلال تنفيذ إصلاحات حقيقية يلمس فيها الشعب الصدق في التنفيذ وليست ترقيعية، ابتداءً من إعفاء الفاشلين من الوظيفة ومحاكمة الفاسدين وإعداد وتقديم مشاريع القوانين الاتحادية المعطلة وليس انتهاءً باعتماد المختصين في مراجعة السياسة الاقتصادية ورسم رؤية العراق للعام ٢٠٣٠ بهدف تنمية الاقتصاد وتحسين الخدمات. كما لابد أن يتحلى رئيس مجلس الوزراء بالجرأة والشجاعة في تحرير بغداد من أسوار الخضراء ووضع نهاية للمربعات الامنية والكتل الكونكريتية وقواطع بيوت المسؤولين وانهاء الطبقية وإعادة املاك الدولة من سيطرة الساسة والأحزاب وتقليل جيوش الحمايات الشخصية لأصحاب المناصب وانهاء عقود حماية الساسة خارج ملاك الدولة، فإما أن يكون كل فرد من افراد الشعب مواطناً من الدرجة الأولى ينعم بخضراء واحدة في عراق مزدهر أو بحمراء يكتوي فيها الجميع دون تمييز.
ختاماً، أجد تقييمي لحكومة الدكتور العبادي خلال فترة الثلاث سنوات السابقة أنها كانت موفّقة في الملفين العسكري والسياسي لكن النجاح لم يكن حليفها في باقي الملفات الأخرى.
* أكاديمي وزميل في جامعة كولومبيا، نيويورك