ضرورة إنضاج الوعي السياسي لبناء مجتمع ديمقراطي

Monday 18th of September 2017 12:01:00 AM ,
العدد : 4020
الصفحة : آراء وأفكار ,

توجد في داخل كل انسان حياة بكل معانيها الوجودية، في داخل كل منا جزءٌ في الكرامة البشرية، والشرف الأخلاقي، والخبرات الوجودية الحرّة، لكن لدى كل منا في نفس الوقت وبدرجات متفاوتة، القدرة على التأقلم أو الرفض مع الحياة السياسية، فمن تأقلم بطريقة ما يغرق

توجد في داخل كل انسان حياة بكل معانيها الوجودية، في داخل كل منا جزءٌ في الكرامة البشرية، والشرف الأخلاقي، والخبرات الوجودية الحرّة، لكن لدى كل منا في نفس الوقت وبدرجات متفاوتة، القدرة على التأقلم أو الرفض مع الحياة السياسية، فمن تأقلم بطريقة ما يغرق في تصديق بعض الأكاذيب الفاحشة، لأنها ببساطة تمثّل هويته الدينية أو اللغوية أو الجهوية أو العشائرية...إلخ، حتى أصبحت السلطة ضبابية غير واضحة الصورة، ليذوب كلٌّ منا في شعائرها، ويسلم مقاليد أموره لها، وأحياناً يبدو الأمر وكأنه صار هو الشعيرة نفسها التي تحمل الناس من الظلمات الى نور السلطة، لأن الكثير منا عبيد الشعائر المتنكرين.
فالأمر إذن، ليس صراعاً بين مجتمع ونظام سياسي فقط.
بل إنه شيء أسوأ من ذلك: إنها أزمة الوعي السياسي نفسه.
نحن نفزع من الحاضر ونخشى من المستقبل ... من الشلل الذي أصاب ألسنتنا... من المجهول الذي نرتحل إليه... من دروب الذل التي نجهلها... من صراخ الدجالين... من المسارح المفبركة المؤمركة... من طيش الحرب وفرضها... ولكننا نخاف اكثر وأعمق من دبيب الموت اليومي المنظّم من ظلم الإرهاب... الدبيب الذي يحيطنا كأذرع عنكبوت... الدبيب الذي عرفناه في الليل ... في الجثث على الأبواب... في طوابير المعاقين بفعل الحروب... في توابيت العائدين من الجبهات... في الأسرى والمقابر... إننا نخاف من ذلك أكثر وأعمق.
وهذا ما سببه المغرضون لتقويض شخصية الفرد العراقي الذي اصبح مقهوراُ منذ تأسيس دولته عام 1920 والى الوقت الراهن، حيث اصبح يستنكر ذاته ليقدس غيره، لا يميز حقاً من باطل، ولا صالحاً من طالح، ولا ظالماً من مظلوم، ولا شقياً من سعيد، يراقب فيرى حضارات الأمم ونجاحها امام عينه، فيرف لها قلبه فيعشقها، ولا يعرف اسباب شقاوته وسوء حظه ومصدر ابتلائه وبلائه، لقد عانى الشعب العراقي طوال عقود منذ تأسيس دولته عام 1920، وحتى بعد إسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين عام 2003 من ثقافة العنف، هذه الثقافة التي ترسخت في الشعب العراقيّ بفعل عوامل عدّة، حيث عاش العراق ومجتمعه سنوات من الدكتاتورية بكل ما رافقها من سياسات تجهيل، وإفقار، واقصاء الآخر، وسياسات الانصهار القومي والسياسي...إلخ، ولهذه السياسات آثارها السلبية على المجتمع العراقي، بحيث أصبح العراقيون في مقدمة شعوب العالم إحباطاً وسلبية في حياتهم، فكثير من العراقيين يعانون من مشاعر غضب، وتوتر نفسيّ، وقلق، وحزن، وألم، حيث خلقت الدكتاتورية مجموعة مفاهيم خاطئة لن يكون من السهل ازالتها من الممارسة اليومية للعراقيين، اذ ما يزال بعض العراقيين يتصورون أن الحكم الشمولي هو الحل لمشكلاتهم، لتجاوز الازمات السياسية التي مروا بها، وقد أدى الانفلات اللامسؤول الى الكثير من المطبّات في تفكير الفرد العراقي السياسي وواقعه مما أدى الى ترحم البعض على فترة الدكتاتورية وسماها بعضهم (أيام الخير).
إن ما حصل بعد العام 2003 لم يكن الا تعبيراً عن تراكمات لعقود طويلة من انعدام وخمول الوعي السياسي، من فقدان الهوية الوطنية العراقية، من ضعف المشاركة السياسية وانعدامها، من تفاقم قوة العشيرة وفرط التقديس لرجل الدين، والعادات والتقاليد، وأدى ذلك الى سيادة العنف، حيث كانت عمليات العنف المتبادل بين مكونات المجتمع العراقي خلال اعوام (2005، 2006، 2007) خير دليل على أن الاعتراف بالآخر الديني، أو المذهبي، أو القومي أمر صعب، فالجهد كان منصباً على الغاء الآخر لا التواصل معه، بالرغم من أن هذه المسألة لم تكن عامة، لكنها كانت مؤثرة، وانتجت نتاجاً قبيحاً أثر في نفوس الشعب العراقي، وهذا كان أحد أوجه التعبير عن ضعف الانتماء للهوية الوطنية الجامعة في العراق .
ما المطلوب؟
• نحن بحاجة الى أن نكون أحراراً، نحن بحاجة الى معرفة ما ينفعنا، النوم والاستكانة ووضع الرؤوس في الرمال والقول بأن جميع من يدعون بأنهم واعظون فهماء مخلصون ومصلحون، قول مرفوض لا تشهد له ملّة من الملل؛ الحل بين ايدينا: "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية" هذا ما نصت به المادة (5) من دستور جمهورية العراق لعام 2005، ويعتبر هذا النص الدستوري غاية في الاهمية، إذ اشار الى شرعية أي سلطة، ومصدرها هو الشعب، واذا ما عمل الشعب العراقي بهذا النص سيكون هو المتحكم لا أن يصبح مجرد آلة يشارك في الانتخابات، وينتهي دوره عندها، والوعي بما ذكر يقع على عاتق النخب المثقفة والمؤسسات الوطنية الاعلامية والتعليمية، للنهوض بمسؤولية الارتقاء بالثقافة المجتمعية، لما للمجتمع الواعي المثقف من حظوظ افضل بكثير في ايجاد نخب حاكمة كفوءة ومؤسسات فاعلة وسياسات ناجحة وفعّالة.
• لكي نبني دولة ديمقراطية تحقق آمال ورغبات المجتمع وتنشر التسامح وتنبذ كل وسائل العنف وتحقق التعايش السلمي بين الاثنيات المختلفة في المجتمع العراقي، يتطلب انضاج الوعي السياسي، حيث يعتبر من أهم الأسس الدافعة لبناء الديمقراطية، وهذا يتطلب وضع أسس واضحة لتطوير هذا الدور بدءاً من قنوات التنشئة الاجتماعية الرسمية في الدولة،  فالعراقيون وخصوصاً الأجيال الجديدة، شهدت وما تزال تشهد تعددية سياسية، وتعددية رأي، وانتخابات، وحكومات متعاقبة، ونشأت هذه الأجيال على تحمل بذور الديمقراطية، وهي واحدة من الضمانات لعدم عودة الدكتاتورية الى العراق.
• يتطلب تفعيل مشتركات مجتمعية غابت عن الوعي الجمعي، كمفهوم المواطنة والعيش المشترك وتقبل التنوع والاختلاف ومشاركة الجميع في الوطن وتقديم المصلحة العراقية من اجل خلق شكل جديد من التكامل السياسي وتحقيق الاندماج السياسي لبناء دولة ديمقراطية مدنية عصرية، وتظهر هنا الضرورة الملحة لاستحضار الذاكرة التأريخية ودورها المهم في عملية تشكيل الوعي السياسي وتطويره، أضف الى ذلك ضرورة قبول أفراد المجتمع بعضهم البعض، واحترام هوياتهم الفرعية؛ وبهذا تكون الاولوية للهوية الوطنية والمشتركة بين الافراد هو (الوطن).
• لانضاج الوعي السياسي تظهر الضرورة الملحة للقضاء على الفقر والجوع، من خلال تقليل أو الغاء وجود أسر تقع تحت مستوى خط الفقر في بلد مثل العراق يمتلك امكانات مادية كبيرة يكون هذا هدفاً واجب التنفيذ، اضف الى ذلك أن التطور المجتمع لا يتحقق من دون القضاء على الأمية، لا يتحقق الا بمجتمع مثقف وواعٍ، لذلك أن عملية انضاج الوعي مرهونة ايضاً بالقضاء على الأمية والزام كل افراد المجتمع بالحصول على التعليم الابتدائي على الاقل، لإنتاج ثقافة اصيلة خاصة بالمجتمع العراقي لا مستوردة، بمبادرة من ابنائه، لإحياء اصالة الثقافة المجتمعية التي تؤدي الى ابداع مجتمعي له حضور وفاعلية، بالتالي في مجتمع مثقف واعٍ ومنتج ومبدع...، سيكون هناك سياسي متطور وكفء، ومؤسسة فاعلة غير مرتبطة بشخص رئيسها.  
• القضاء على الاستبداد السياسي الذي يُعد من أهم المشاكل وأخطر الأزمات التي يمر بها العراق، اذ يعد الاستبداد السبب الرئيس وراء التخلف في المجالات الأخرى: الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية.. إلخ ، وإن أفضل طريقة للتخلص من الاستبداد والقمع هو عن طريق معرفة الشعب لما له وما عليه، أي لحقوقه وواجباته وليس معرفة ما عليه فقط دون التفكير فيما له، وإن الشعوب المتقدمة قد تغيرت وتطورت نتيجة لنمو الوعي السياسي لديهم.
"لابد لنا بغية الخروج من أزماتنا ونكباتنا ومآسينا، من البدء بإعادة حساباتنا مع انفسنا، فلا تخافوا من عرض التاريخ على الناس، عرفوهم على سيرة الفاسدين، فرقوا لهم بين الحق والباطل ، نبهوا أفراد المجتمع العراقي من أولئك المغرضين، ليعرف المصلح بالإصلاح، والمفسد بالفساد، لقد طال النوم وكحلت الأيام، وليست أمامنا الا اليقظة".