سفينة الفلاسفة ومأساة هجرة العقول الروسية

Monday 9th of October 2017 12:01:00 AM ,
العدد : 4036
الصفحة : آراء وأفكار ,

في عام 1922 وبعد مرور خمسة أعوام على قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية، قررت السلطات البلشفية التخلص من المعارضين في أوساط الانتلجنسيا بترحيلهم في "سفينة الفلاسفة". وقد أطلقت هذه التسمية على سفينة أو أكثـر من سفينة حملت الى خارج البلاد، ما كان يعتبر خيرة ا

في عام 1922 وبعد مرور خمسة أعوام على قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية، قررت السلطات البلشفية التخلص من المعارضين في أوساط الانتلجنسيا بترحيلهم في "سفينة الفلاسفة". وقد أطلقت هذه التسمية على سفينة أو أكثـر من سفينة حملت الى خارج البلاد، ما كان يعتبر خيرة العقول من علماء وفلاسفة ومهندسين وأطباء وكتّاب وناشرين.

وحدث هذا بعد أن قضت السلطات على خصومها السياسيين الرئيسين المتمثلين بالاشتراكيين الثوريين، وتمت تصفية حركة البيض واختتمت الحرب الأهلية التي حصدت أرواح نحو 15 مليون شخص. وخسر البلاشفة في هذه الحرب خيرة النسق المتوسط من قيادات حزبهم ليحل محلهم الدهماء غير المتعلمين في كثير من الأحيان، الذين تولوا المناصب في دوائر السلطة. وكان الصراع على السلطة قد احتدم بين تروتسكي وستالين وما اعقب ذلك من مصائب ومحن أخرى كابدها الناس البسطاء. إن موضوع " سفينة الفلاسفة" لم يبحث في الفترة السوفيتية ولم يكتب عنه إلا القليل ، لكن بدأ الآن البحث في أرشيف الدولة عن الشخصيات التي أرغمت هؤلاء الناس على الهجرة من البلاد ومن هي الجهة التي أصدرت الأمر بترحيلهم، وظروف هذا الحدث، وذلك  بمناسبة ذكرى مرور 100 عام على قيام ثورة اكتوبر.
 كان لينين في تلك الأيام من ربيع عام 1922 قد اختفى عن الأنظار في ضاحية كوستينو. وقيل: لقد أخفاه رجال الأمن هناك لسبب مجهول بعد تدهور حالته الصحية متأثراً بجروح رصاصات أطلقتها عليه سابقاً الناشطة الاشتراكية – الثورية فاني كابلان. وكان رجال الحزب البلشفي قد منعوه من السفر الى جنوا لإجراء المفاوضات حول الاعتراف بروسيا السوفيتية ورفع العقوبات والحصار المفروض عليها بقولهم: "لن يسمح الى الرفيق لينين بالذهاب الى البلدان البرجوازية إلا بعد أن يجتاحها الجيش الأحمر". وانتشرت إشاعات كثيرة حول اختفاء زعيم الثورة لا سيما لدى عدم حضوره جنازة اينيسا ارماند رفيقة الدرب في الكفاح ضد القيصرية. فالبعض أكد وفاته، بينما ذكر آخرون أن رجال جماعة سافينكوف اغتالوه، وقال بعضهم إنه أعتقل، فيما أكد بعض "العارفين ببواطن الإمور" إنه أصيب بلوثة عقلية من كثرة التفكير في إخراج البلاد من الورطة التي وقعت فيها بسببه وأدخل مستشفى المجانين وهكذا دواليك.
وفي الواقع إن قادة الثورة كانوا في حيرة من أمرهم فقد انتهت "الشيوعية العسكرية" بإعلان السياسة الاقتصادية الجديدة "نيب" وقيام رأسمالية الدولة لكنهم لا يعرفون كيفية الخروج من مأزق التدهور الاقتصادي والمجاعة التي عمّت البلاد بعد سلب الفلاحين كل ممتلكاتهم من حبوب وماشية وحتى البذور من أجل المحصول المقبل الذي لم ير النور. وزاد من الطين بلة التدخل العسكري الأجنبي في شمال وشرق وجنوب روسيا وفرض الحصار الاقتصادي الشامل على الدولة السوفيتية الفتية. وبات واضحاً أن السلطة الجديدة عاجزة عن إدارة البلاد . وفي هذه الفترة بالذات اختفى لينين في ضيعة كوستينو بناءً على نصيحة الأطباء كما يرد في الوثائق المنشورة الآن. وإرتبطت بإسمه عندئذ قصة ترحيل مجموعة كبيرة من رجال الانتلجنسيا الى خارج البلاد، ولكن لا يوجد في وثائق الدولة ما يؤكد ذلك.
لقد أحيطت قصة الترحيل القسري لرجال الانتلجنسيا من روسيا في عام 1922 بهالة من الغموض وكأنها إسطورة ، وروج لها الباحثون الاجانب كثيراً في خارج روسيا . وكتبت عنها  الصحافة السوفيتية بأنها كانت مبادرة إنسانية من أجل إنقاذ خيرة عقول البلاد من المجاعة، ويقف وراءها اناتولي لوناتشارسكي مفوض الشعب السوفيتي لشؤون الثقافة الذي رجا لينين المساعدة  في إنقاذهم من الجوع . علماً إن لينين كان قد ابتعد في تلك الفترة عن إدارة السلطة ولا يعرف فيما إذا أمر بذلك . أما كتاب المهجر فوصفوه بإنها عملية تهجير قسرية هدفها التخلص من المعارضة للسلطة السوفيتية في اوساط المثقفين. لكن وثائق أجهزة الأمن التي كشفت الآن، تبيّن إن اعضاء لجنة إغاثة الجياع "بوموغول"التي شكلها المثقفون كانوا في طليعة ركاب "سفينة  الفلاسفة". مما يبعث على كثير من التساؤلات. لأن السلطة السوفيتية رحبت في البداية بتشكيل اللجنة التي ساعدتها في معالجة مشكلة الجوع. لاسيما إن أفرادها من المثقفين ذوي الخبرة في تنظيم مثل هذه الحملات الإغاثية. لكنها أبعدت جميع قادة اللجنة عن هذا النشاط  فقط بسبب انتماء بعضهم الى المعارضة، ولتدهور الوضع الأمني، حيث جرت منذ عام 1921 حملة اعتقالات واسعة في صفوف الاشتراكيين – الثوريين الذين واصلوا العمليات الإرهابية حتى في فترة الحرب الأهلية. وفي فبراير عام 1922 جرى إضراب أساتذة الجامعات الذين عارضوا السلطة في الميدان الايديولوجي. ومنهم بيتيريم سوروكين (1889-1968) الخبير العالمي في علم الاجتماع الذي أسس لاحقاً كلية الاجتماع في جامعة هارفارد الامريكية. وقد نشر هذا العالم مقالات شكك فيها بصواب مسيرة الثورة البلشفية فأثارت غضب لينين. علماً إن لينين كان يراقب ما ينشره الفلاسفة من مقالات وحتى دافع عن الفيلسوف إيفان ايلين المعارض للسلطة السوفيتية فقط بسبب بحوثه عن هيجل التي اعتبرها لينين ثمينة جداً.
وتختلف الدراسات بشأن تسمية المهاجرين من العلماء بأنهم من "خيرة العقول" في روسيا . حقاً يوجد بينهم الفيلسوف الروسي نيقولاي بيرديايف وبيتيريم سوروكين، الآنف الذكر والاقتصادي سيرجي بروكوبوفتش (وزير سابقاً) والمؤرخ اناتولي فلوروفسكي وعالم الفسلجة بوريس بايكين والاقتصادي الكسي بيشيخونوف وغيرهم. لكن القلائل فقط حققوا نجاحاً ما في بلدان المهجر. فلم يعترف الاوروبيون بقدرات أكثر الفلاسفة الروس المهاجرين الى الغرب . لكنَّ الباحثين من المهاجرين الروس رفعوا من شأن أبناء جلدتهم وحتى بالغوا في ذلك في ذكرياتهم وفي صحف المهاجرين الصادرة في اوروبا وامريكا.
ولا بد من الإشارة الى أن البلاشفة كانوا يشعرون في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، بوجود حاجة ماسة الى الخبراء ولاسيما من المهندسين والعلماء من أجل بدء بناء المؤسسات الصناعية ومحطات توليد الكهرباء وغير ذلك من المشاريع . علماً إن نسبة الأمية في روسيا آنذاك كانت تعادل 70 بالمائة وهي أعلى  نسبة في اوروبا. وكان البلاشفة قد وضعوا اعتمادهم الرئيس على الشباب من البرولتياريا، لكن هذا كان يتطلب تعليمهم وتدريبهم وإعدادهم ايديولوجيا. وما كان بالمستطاع تكليف الأساتذة المعارضين للثورة بتولي هذه المهام. وكان هذا أحد الأسباب الرئيسة لإبعادهم عن البلاد. وكانت روسيا السوفيتية قد وقعت في عام 1922 إتفاقية رابال مع ألمانيا، ووجدت الفرصة مناسبة لإرسال "سفن الفلاسفة" الى المانيا التي رحبت بهم. ولم تكن السلطة السوفيتية تعتزم إعدام شخصيات بارزة مثل بيرديايف ولوسكي واوجريموف ونوفيكوف وغيرهم ممن يشكلون " الطابور الخامس" ، حسب اعتقاد السلطات،
خشية إثارة الرأي العام والأوساط العلمية العالمية ضدها .
وتوجد في قوائم المبعدين المحفوظة في أرشيف أجهزة الأمن أسماء أشخاص تم نفيهم الى سيبيريا، ومنهم عدد كبير من الأطباء. لكن يشار إليهم ضمن المبعدين الى خارج البلاد. ولا يعرف مصير 54 شخصاً ورد ذكرهم في القوائم في موسكو وبتروغراد لكنهم لم يصلوا الى المانيا في السفن. كما توجد قائمة بأشخاص من اوكرانيا عددهم مع أفراد أسرهم 272 شخصاً لا يعرف مصيرهم. علماً إن بعض المبعدين الكبار السن لم يرغبوا في مغادرة البلاد ومنهم بيرديايف ولا بشين وروزنبرغ ولوسكي، وتم ترحيلهم قسرا.ً لكن البعض الآخر مثل الفيلسوف بوريس فيشيسلافتسيف غادر البلاد طوعاً.
علماً إن جميع المبعدين تم في البداية اعتقالهم واستجوابهم. وقام فيلكس دزيرجينسكي مدير  جهاز الأمن (لجنة الدولة للطوارئ) شخصياً باستجواب الفيلسوف بيرديايف في السجن. وكان المبعدون يغادرون السجن الى السفن مباشرة ، فتسلم اليهم التذاكر التي اشترتها لهم السلطات، أما أفراد أسرهم فقد أشتروا التذاكر بأنفسهم. وجدير بالذكر إن السلطة السوفيتية استعارت فكرة ابعاد المعارضة في السفن من السلطات الامريكية التي أبعدت في اواخر عام 1922 أيضاً مجموعة من المعارضين اليساريين في إطار حملة مكافحة "الخطر الأحمر" وبلغ عددهم 249 وتم إنزالهم في الاراضي الفنلندية ومنها انتقلوا الى الأراضي السوفيتية.
ولا يعرف حتى الآن المبدأ الذي التزم به البلاشفة لدى إعداد قوائم المبعدين في إطار مكافحة المعارضة إذ بقي في روسيا العديد من الشخصيات ممن شاركوا في إضراب الاساتذة وأعلنوا جهاراً عدم قبولهم للثورة البلشفية. من جانب آخر غادر روسيا بعد الثورة نحو ثلاثة ملايين شخص ينتمون الى النخبة من العلماء والمهندسين والاطباء والفلاسفة والادباء. فقد غادر البلاد الكاتب أيفان بونين الحائز على جائزة نوبل وايجور سيكورسكي مصمم الطائرات والمروحيات الشهير والكاتب نابوكوف ورجال الفن شاليابين ورحمانينوف وسترافينسكي وكاندينسكي وشاغال وكنيازيف وغيرهم، بصورة طوعية من دون إرغامهم على ركوب         " سفن الفلاسفة" التي بلغ عددها أربع سفن. وبقي داخل البلاد آخرون، إما في السجون وإما في المنافي، ولكنهم عملوا منها في تصميم الطائرات والسدود والمصانع والصواريخ وبينهم مصمم الطائرات ياكوفليف ومصمم الصواريخ والسفن الفضائية كوروليوف. لقد كانت فترة حكم البلاشفة مترعة بالأحداث المأساوية وفي الوقت نفسه شهدت مولد دولة من طراز جديد تتحكم بها إيديولوجية  قاسية ولا تعرف الرحمة إزاء معارضيها حتى لو كانوا من الفلاسفة الأفذاذ.