رواية (حمام اليهودي) .. خصوصية المدينة ومحلية السرد

Thursday 26th of October 2017 12:01:00 AM ,
العدد : 4051
الصفحة : عام ,

" هذه المدينة التي منحتنا الأمان والحب، لا يمكن أن نخذلها أبداً" ريم زوجة يعقوب شكر الله/226 تكمن صعوبة أي عمل إبداعي في الحفاظ على تلقائيته وأصالته، وهذه ليست لمحة عابرة، بل هي قضية فنية ابداعية يدعم توفرها قوة العمل وشيوعه والتذاذ القارئ به. فضلا

" هذه المدينة التي منحتنا الأمان والحب، لا يمكن أن نخذلها أبداً"
ريم زوجة يعقوب شكر الله/226


تكمن صعوبة أي عمل إبداعي في الحفاظ على تلقائيته وأصالته، وهذه ليست لمحة عابرة، بل هي قضية فنية ابداعية يدعم توفرها قوة العمل وشيوعه والتذاذ القارئ به. فضلاً عن انه يكون عملاً يحفظ للشريك القارئ حصة كبيرة بين طياته وبنائه مما يجعل طمع هذا الشريك القارئ يزداد ويقوي ارتباطه بالعمل ويعيد قراءته مرات كثيرة.
لا يمكن أن يكتسب العمل الأدبي أصالة ما لم تكن المحلية فاشية في مادته الخام، وما لم يكن الكاتب وهو يعيد صياغة هذه المادة قد تجانس فكراً وشعوراً مع أدق التفاصيل وتحسسها بحسب قوتها في العمل وبحسب تأثيرها فيه أيضاً. أكثر الأعمال الابداعية العالمية التي جذبتنا اليها، كانت قد كتبت بتلقائية واندماج مع مادتها وبيئتها، وقد حرمتنا الترجمة كثيراً من أصالتها، فصرنا منذ زمن نبحث عن هذه الأصالة في منجزنا الابداعي الخاص بنا، أي أن نقرأ عملاً له قوة الأمل ووضوح الواقع ، وفيه من الفن ما أملته التجارب المعيشة، لا ما طرحته السجالات والنظريات النقدية، فالعمل الذي يأحذ مادته من الواقع يعود الى الواقع مهما كانت صياغتة معقدة فنياً.
ورواية (حمام اليهودي) للدكتور علاء مشذوب، الصادرة عن دار سطور/ بغداد/2017، من الأعمال الروائية التي حافظت ببراعة على أصالة مادتها، وجاءت داعمة للأمل في مرحلة الانهيار والتشظي التي يمر بها المجتمع العراقي على المستويات كلها. فهي ذاكرة نابضة تتقدم الخراب وتزرع الأمل على العكس من بعض الأعمال التي صدرت لكتّاب كثيرين كانت مهمتها التذكر والندب والبوح واشاعة اليأس سواء بعلم كتابها أم من دونه/، فهي لا تعدو في كثير منها البكاء على الاطلال وصياغة الاحباط والانكسار فنياً. اي انها تنتهي كما تنتهي المادة الاعلامية. وهذه الرواية على العكس من تلك الروايات.
وفي رواية حمام اليهودي، يتحرك اليهودي يعقوب شكر الله دانيال بوعيه وخبرته التجارية نحو كربلاء الآمنة توقعاً منه لاندلاع أعمال عنف وتهجير ضد اليهود في العراق بسبب التحولات السياسية في بدايات النصف الأول من القرن العشرين إبان الشروع بإنشاء وطن لليهود من قبل الصهيونية العالمية. وفي كربلاء يجد يعقوب شكر الله ضالته. فيعمل على غرس جذره المدني والاندماج في نسيج المدينة الاجتماعي والتجاري بطرق مدنية وسلوك راقٍ عملاً على كسب ود الجميع ممن خالطهم في حياته الجديدة في كربلاء حتى الزبائن منهم وبسطاء الناس.
الملفت في هذه الرواية أن الكاتب يقدم مدينة كربلاء وهي في تلك المرحلة بكل ما فيها من بساطة وتنوع في التفاصيل والشخصيات والأماكن، وهو قد استعان بعين يعقوب اليهودي وزوجته ريم لتبدو المدينة للقارئ وكأنها تولد الآن بين السطور. والمدينة مثلما امتلكت بحبها قلب الكاتب، فإنها دخلت قلب اليهودي الوافد وقلب زوجته وابنائه وأفصحت الرواية عن تلك الوشيجة العجيبة التي تربط كثيراً من الشخصيات بهذه المدينة، وهي من جنسيات مختلفة تعيش بأمان وتحمل ثقافات متنوعة. ولكنها انصهرت كلها في نسيج المدينة لتشكل مجتمعاً مدنياً متعدد الأديان والطوائف والميول الاجتماعية والثقافية.
ففي هذه المدينة (كانت تزدحم الأسواق بالعمائم السود والبيض والسداري بألوانها الغامقة، والطاقيات الافغانية الفمتوحة من الأمام، والطاقيات الهندية المزركشة والمفتوحة من الخلف، والكلاوات والعرقجينات، والعكل المتربعة على الغتر البيضاء واليشماغات)ص81.أما ريم زوجة يعقوب، بعد أربعين يوماً من وصولها الى كربلاء واشتراكها مع عائلة اكبر صادقي مالك البيت المستأجر من قبل يعقوب، جعلها تغيّر كثيراً من انطباعاتها عن كربلاء بعد أن (كانت تعتقد أن المسلمين يصنعون حواجز نفسية واجتماعية مع اليهود. ولكنها وجدت عكس ذلك، فهم على نفس المستوى من الاحترام مع الآخرين دون تمييز في عرق أو دين أو طائفة ما جعلها تحب كربلاء وتتمسك بها).ص82
لقد كان الحمام الذي اشتراه يعقوب شكر الله مركز الرواية الذي دارت حوله تفاصيل كثيرة سياسية وتاريخية. ولكنه ظل عنوان يعقوب شكر الله مثلما هو عنوان الرواية بحيث (جاءت بعض العوائل اليهودية الى كربلاء تسأل عن حمام اليهودي كعلامة بارزة ودالة ليصلوا اليّ والاختباء عندي لفترة، وكنت سعيداً بزيارتهم وأخذتهم برحلة داخل أروقة المدينة وأزقتها، وكانت محط اعجابهم، فالحياة نشيطة والعلم على أشده، وفي المقابل كانت المقاهي ممتلئة بالعاطلين عن العمل، وعندها بارك بعضهم مجيئي لكربلاء، بينما بقي البعض الآخر متحفظاً على ذلك، بل قالها بوجهي، من أنني مهما بقيت في هذه المدينة المتسامحة والأمينة، فإن مصيري الرجوع إما لبغداد أو لإسرائيل).181
ولقد خيب حمام اليهودي التوقعات السلبية، فقد أصبح دالاً على التعدد وانفتاح المدينة على الوافد المختلف من كل مكان وجنس، فمن (العوائل التي سكنت بيتي، ماشير وجيرانها ويدعى بيت بنيامين، وعائلته تتكون من أربعة أفراد، كبيرهم شاؤول، ويتبعه ساسون، ومن ثم فتاتان هما صباح ونجاح، وغمر دانيال "ابن يعقوب" شعور مختلف، واصبح أكثر اجتماعية في الحديث بلغته الأم، وأصبح يخرج مع الأولاد صباحاً ليطوف حول المراقد المقدسة ليعود الى "عكَد اليهود" ويتكلم بلغته العبرية معهم... كان أغلب اليهود ينتجون بضاعتهم في بيوتهم، فاسحاق يصنع العرق في بيته، ومثله زوجة عزرا صاحب دكان عطور، هي من تصنعه بعد شرائها القناني الفارغة من بغداد).ص82
يصطاد الراوي أدق التفاصيل المعبرة عن هوية المدينة وتعددها ولا يميل الى تكديس هذه التفاصيل، فهو ليس بصدد اعداد تقرير مفصل عن المدينة، بل هو أمام نسج حساس لهوية المدينة التي تمتلئ بالتنوع والتعدد في كل شيء، ومحنة الراوي اللذيذة في هي الرواية كان في مواصلة السرد بذكاء وانتقاء فنيين يجعلان القارئ مشدوداً الى حكاية هذه المدينة وهي تتلقى الوافدين وتوفر لهم بيئة صالحة لكل ما يريدون. ولم يفت الراوي أن يمنح بعض فقرات سرده مسحة شعرية واضحة اسهمت في بث الجمال في فقراته السردية، فعن زواج سارة بنت شهبندر التجار من يسع ابن يعقوب شكر الله،ق ال الراوي بلغة شعرية ( كانت سارة سعيدة بهذه الزيجة رغم مغادرتها لحياتها في بغداد الى حيث مدينة كربلاء البعيدة عن كل العادات والتقاليد التي فطرت عليها، فقد كان لزاماً عليها أن ترتدي العباءة اثناء خروجها من البيت، وأن لا تؤدي طقوس العبادة إلا اثناء زيارتها لأهلها فلا كنيس في كربلاء).178
ثم تأتي هذه الفقرة الشعرية متجانسة مع سعادة سارة بزواجها وبالمدينة (فسارة بنت شهبندر التجار، لا ينقصها المال أو الجمال، لا تنقصها الفتوة والشباب، هي أرض بكر وقارورة الهية لم يتم ملؤها بعد، بانتظار من يوقد أرضها، لتخضر بزرعها وتورق بأشجارها).ص178