مسرحية (فيلم أبيض وأسود)..صورة رمادية للوجع

Monday 5th of November 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2640
الصفحة : مسرح ,


























 تمتلك اللغة خاصية تختلف عن غيرها من مصادر إنتاج المعنى، ذلك أن الانزياح الناتج عن المنطوق اللغوي يمتلك دلالاته الايقونية التي تشكلت في وعي المتلقي كما هو الحال في مسرحية (فيلم أبيض وأسود) التي قدمت على خشبة المسرح الوطني في بغداد ، تمثيل (بشرى إسماعيل ، إياد الطائي ، طه المشهداني ، حيدر سعد ) ، تصميم الإضاءة جبار جودي، إخراج حاتم عودة، والتي يحيل عنوانها إلى فرضيات فكرية وجمالية يمتزج فيها العرض المسرحي مع الفيلم السينمائي ، وتعود تلك الإحالة إلى أن مؤلفي العرض سمر قحطان وحاتم عودة قد عملا على مغازلة وعي المتلقي ومرجعياته الجمالية التي انطلقت باتجاه استكشاف المعنى المضمر وراء عنوان المسرحية، ذلك أن (أفلام الأبيض والأسود) التي كانت تعد واحدة من معجزات الفن السابع والتي استطاع من خلالها عدد من المخرجين تقديم روائع فنية سينمائية لم تزل راسخة في ذاكرة التلقي العالمي والعربي والمحلي.
إلا أن المخرج عمل في المشهد الأول على الإطاحة بذاكرة المتلقي الجمالية والمعرفية التي كانت قد بدأت بتكوين علاقة حسية ترتبط فيها الصورة البصرية بمنظومة الفيلم السينمائي في تشكيل جمالي للمعنى، إلا ان حضور الملفوظ اللغوي الهجين على منظومة العرض البصري والذي بات مهيمناً على معطيات العرض؛ دفع بالمتلقي إلى مغادرة الفرضيات التي منحها عنوان المسرحية ابتداءً.
وقد كشف المخرج عن معطيات النص التي وقفت  بمعزل عن عنوان المسرحية الذي يبدو ان اختياره جاء بطريقة عشوائية، على الرغم من احتكامه على فرضيات عدة من بينها الاشتغال على منظومة (الفيلم الأبيض والأسود) كما في تجارب (شارلي شابلن) في السينما الصامتة، وغيرها من تجارب السينما البصرية التي كان من الممكن الإفادة منها في العرض المسرحي، إلا أن المخرج اختار ان تكون فكرة (الحرب) عنواناً ضمنياً لطروحات النص، وهو يمتلك الحق في تفسير النص كما يشتهي لاسيما وانه كان قد اشترك في كتابته، وعلى الرغم من القطيعة المعرفية بين العنوان والمتن النصي إلا أن المتلقي سرعان ما دخل في لعبة تأويل العلامات التي يطرحها العرض، والتي  تلخصت في الكشف عن منظومة الحرب التي أطاحت بالشعب العراقي قبل إطاحتها بالسلطة في سنوات الحرب التي أشعلها النظام السابق سواء على مستوى الحروب الداخلية أو على مستوى محاربة البلدان المجاورة، والتي لم تزل المقابر الجماعية وسجلات المفقودين تبوح بمعاناتها في نشرات الأخبار اليومية، وعلى الرغم من الخزين الذي تمتلكه الحرب في ذاكرة المتلقي إلا أن المخرج لم يوظف ذلك الخزين بل اكتفى بتحويل ذلك الوحش الأبدي (الحرب ) إلى ملفوظات لغوية استهلكتها أوجاع الامهات وصرخات الأطفال، مع انه كان يمتلك القدرة على تحويل تلك الملفوظات إلى وجع حقيقي يدفع المتلقي إلى التفاعل مع العرض وذلك عن طريق الإفادة من (الأبيض والأسود) وهما يشكلان لونين متناقضين في الحياة لكنهما يتطابقان في الموت ذلك أن الاول وهو الأبيض يمكن ان يتحول عن طريق سلوك الممثل إلى أكفان متناثرة لضحايا الحروب، أما الثاني والذي يتمثل بالأسود الذي يمتلك دلالة واضحة المعنى يمكن الكشف من خلالها عن مآسي الحرب، فضلا عن ذلك فإن إضاءة جبار جودي قد منحت العرض مساحة واسعة من اجل تحقيق فرضيات (الأبيض والاسود) إلا أن المخرج اختزل التشكيل البصري عبر تصميم ملصق متواضع يتمثل في شريط سينمائي اعتمد على لوني: أسود وأبيض؛ لم يمتلك حضوره على خشبة المسرح.
ومن جهة أخرى، فإن أدوات المخرج التعبيرية والتي تمثلت بالأداء التمثيلي الذي جاء متباينا بين الكلائشية التي اعتدنا مشاهدتها في البرامج التلفزيونية التي يشارك فيها عدد من الممثلين، وبين البحث عن شخصيات مغايرة للتقليد من اجل إثارة المتلقي والتواصل معه.
ختاماً .. لا بد من الإشارة إلى ان المنظومة الفكرية للمسرح العراقي المعاصر باتت تدور في حلقة واحدة مفرغة، ويبدو ان الرؤية الإخراجية تكشف عن عجزها في الكشف عن معالجات إخراجية تمتلك حضورها الفاعل على خشبة المسرح العراقي.