مرآوية النقد عند عبد الجبار عباس ونظرة التحديق في المنهج والموضوع

Monday 27th of November 2017 12:01:00 AM ,
العدد : 4073
الصفحة : عام ,

إن من السمات التي لازمت كتابات النقاد الذين تناولوا تجربة عبد الجبار عباس النقدية، هي سمة الانطباعية سواء في عدها منهجا أو لا منهج.
وبعض هذه الكتابات أنكرت على الناقد عباس، إمكانياته اللااعتيادية في القراءة النقدية، وبعضها الآخر أجحفت بحقه، كونها طالبته بما هو خارج حدود المقاييس والتوجهات التي كان معمولاً بها في زمنه. 


وعموماً يغدو توصيف عبد الجبار عباس بأنه ناقد غير منهجي، كلاماً جزافياً لا ينطوي إلا على الإجحاف والتسرع كما لا ينم عن دقة وتمحيص.
ولعل المتابع لتجليات الممارسة النقدية عند الناقد عبد الجبار عباس والمتمعن في تفاصيل العمل النقدي الذي أخلص له أيما إخلاص، سيجد أن التحليل والاستقراء والاستدلال هي أهم العمليات النقدية التي ما كانت لتفارق كتاباته، طابعة إياها بطابع موضوعي، وفي شكل نزوع إجرائي ذي خلفية معرفية وفكرية مكنته من امتلاك أدوات نقدية تسبر أمامه النصوص المقروءة، متجاوزة السطوح لتغوص في الأعماق، مجلية الغبار عن المغمور.
ولا غرو أن توصف جملة عبد الجبار عباس النقدية، بأنها جملة رصينة بدقتها اللغوية والتشخيصية وبقدرتها على مسك حيثيات المادة المنقودة، مع إمكانيات مذهلة في النظر، والالتقاط بعين الصقر الذي لا تفر منه طريدة؛ إلا وتابعها ليعرف سمينها من غثها وأصيلها من مزيفها.
وإذا كان النقد علماً له ميادينه وفروعه وهي: الأدب النقدي والنقد الأدبي والنقد الثقافي ونقد النقد والنقد المقارن؛ وأن الناقد عبد الجبار عباس برع في بعض هذه الميادين والفروع، ممتلكا شرائط الممارسة ومتطلباتها...إلا أن الأدب النقدي يظل هو أكثر الميادين التي تميز فيها عبد الجبار عباس، فكانت له بصمته الخاصة.
وإذا كان الأدب النقدي فرعاً من فروع النقد يوظف الإنشائية جنبا إلى جنب الوصفية، لتكون ممارسته النقدية خليطاً من الأدب والنقد، وامتزاجاً مرموقاً يجمع رفعة الأسلوب وسموه، بقوة التجريد وفكرنته؛ فإن هذا ما كان ليتم لعبد الجبار عباس لولا ذائقته الخالصة والنابعة من معين أصيل لم يعكر صفوه تنظير، ولم يلتبس فيه إجراء، ولم يقيده منظور من المنظورات أو مفهوم من المفاهيم أو اصطلاح من الاصطلاحات الوافدة.
وهو الذي دشّن كتابه( مرايا جديدة) بتقديم ذي نمط يخالف المعتاد إذ لم يسمها ( مقدمة) وإنما وسمها بـ( شوط آخر) وفيها بث لواعجه النقدية وأحاسيسه القرائية بأسلوب أدبي رشيق ينضوي في خانة( الأدب النقدي ) ونقتطف منها قوله:" يهز القلم بين أصابعك قليلا ها أنت تعزم أن تبدأ شوطا آخر ينبغي أن يكون جديداً فهل أنت على الوفاء بمسؤولياته قدير؟ للحرف عندك منزلة وللأدب قداسة فأي عبء هذا الحب الذي لا يموت. عبثاً تغالط نفسك فتزعم إن الجذوة انطفأت ..وهيهات ..ولست بدون عشق الأدب والحلم به إلا ميتاً بين الأحياء ولست ميتاً..ولك وليس لك أن تفتخر" ص5 وقد قلّده في هذه الصيغة الافتتاحية كثيرون من بعده ...
وهكذا كانت جهود عبد الجبار عباس، نابعة من الذائقة الفطرية نفسها التي كان عليها الناقد العربي القديم كابن قتيبة وابن رشيق وأبي هلال العسكري وابن سنان الخفاجي وعبد القاهر الجرجاني والأمدي وغيرهم من النقاد القدماء الذين نقلوا النقد العربي من التأثر الآني والانطباع المزاجي، إلى واحات التحليل المنطقي والاستقراء العقلي ذي المقاييس المنهجية المبنية على رؤى وتنظيرات هي بمثابة اجتهادات ابتكرها الناقد القديم، وطبّقها بكل حرفية وموثوقية. وهذا ما جعل مؤلفاتهم النقدية تجمع النظري بالتطبيقي والإنشائي بالوصفي حتى بهروا بها مفكري الغرب في مطلع النهضة الأدبية فقاموا بترجمتها وانكبوا على دراستها والإفادة منها ...
وإذا أردنا أن نُمنتج الممارسة النقدية عند عبد الجبار عباس ونخضعها للنظر الواصف؛ فإننا لن نجد ما يوفيها حقها إلا إخراجها من التضييق الذي تنطوي عليه صفة الانطباعية، والاتجاه بها صوب التمرئي الذي به كان الناقد عبد الجبار عباس يحدق في النصوص المقروءة، فيكتشف مغيبها ويصيد المخاتل منها ويظفر بالمحجوب من مرآها من خلال عدسته المكبرة التي بها يتمرأى النقد كمرايا تعكس الذائقة المدربة بالاكتساب والرؤية الممنهجة بالقياس والإجرائية الممنتجة بالاستقراء الذي فيه تكمن الموضوعية والإنشاء الذي فيه تتسق الوصفية .
وما ارتكان الناقد عباس إلى أفانين التحليل، وما يتطلبه من تجريد وما يقتضيه من التدقيق والتمعن وما يستدعيه من التمحيص إلا براهين دامغة ترفع نقده من محدودية التوصيف بالانطباع، إلى رحابة التطلع الذي فيه النقد مرآة ينعكس عليها المنهج فيغدو جامعاً النظري في صلب التطبيقي، وتبان فيه الرؤية وقد تأطرت بالدقة والموضوعية.
ولهذا كله شكّل عبد الجبار عباس في تاريخ النقدية العراقية علامة فارقة وبصمة خاصة لم يستطع أحد أن ينافسه عليها أو يستحوذ عليها من بعده.
ولكي ندلل على مرآوية النقد التي جمع فيها عبد الجبار عباس الرؤية بالمنهج؛ فإننا سنمثل بكتابه( مرايا جديدة) الذي بناه على وفق منهجية مبوبة جعلت الكتاب في أقسام صنفت مقالاتها بحسب نظرية الأجناس الأدبية.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن العنونة التي ظلت المرايا تلازم أغلبها، تدلل على أفقه المنهجي ذي الرؤية الانعكاسية التي هي من صلب توجهات المدرسة الواقعية النقدية. وأول كتاب كان بعنوان( مرايا على الطريق ) وبما يذكرنا بمقولة الجاحظ الريادية في التنظير للفظ والمعنى والدال والمدلول( أن المعاني مطروحة على الطريق وإنما الشأن في إقامة الوزن وجودة السبك وكثرة الماء وإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير)
وقد عضّد عبد الجبار عباس هذه المقولة، بأن جعل المرايا هي أفكاره التي يطرحها على الطريق، لكن شأنها أنها ستتخذ قوالب نقدية وستتبع إنتاجية قرائية، ورؤى معرفية لتكون هذه المحاولة مرفودة بمحاولة أخرى هي كتابه( مرايا جديدة ) وفيه يضع عباس كشوفاته المستجدة حتى إذا رحل عن الدنيا ظلت مراياه تتوق لثالثة أسهم في نشرها أحد مريدي إبداع عباس النقدي وهو الشاعر هادي الربيعي وقد سار فيها على المنهجية ذاتها التي كان الناقد عبد الجبار عباس قد اجترحها.
وبالعودة إلى المنهجية؛ فإن تقسيم عباس لكتاباته على أساس أجناسي أي نقد شعري ونقد قصصي ونظرات نقدية ـ مما سيعرف فيما بعد بنقد النقد ـ هو توكيد لمقصدية الناقد المنهجية التي جعلته يفرد للنقد القصصي كتاباً يجمع فيه دراساته وأبحاثه التي تصب في نقد القصة والرواية والقصة القصيرة ونقد النقد القصصي وقد سماه( في النقد القصصي)
وفيه تمتع عبد الجبار بنضج منهجي واضح، متحليا بأفق نقدي متفتح، فكان يدرس الشاعر الكبير جنبا إلى جنب الشاعر الشاب، كما تحظى عنده قصيدة العمود بالاهتمام نفسه الذي تحظى به قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ويجتمع عنده الإبداع العربي مع الإبداع العراقي بلا تميز أو انحياز.
وهو من أوائل النقاد العرب الذين أولوا كتابة القصة القصيرة جداً، وقد حمله نضجه النقدي ووعيه المعرفي، على إخضاع كتب النقد، للنقد أيضا مشخصاً ظواهر نقدية متقدمة فمثلاً أوصله وقوفه عند كتاب( وراء الافق الأدبي) للدكتور علي جواد الطاهر ـ الذي كان يطلق عليه لقب(أستاذنا) ـ إلى رؤية حلمه الأثير يتحقق في إبتداع المقالة النقدية..
والمفارقة أن الناقد الطاهر نفسه الذي كان يتبرم من الركود الأدبي الذي كان يراه غير مفتعل قد تأمل في مقالة له عنوانها(حول القصة العراقية وقصتها) أن يتحقق حلم ظل يراوده إلى أن وجده يتحقق في تلميذه عبد الجبار عباس وذلك في قوله:" إننا بانتظار جيل جديد لا وجود له اليوم في الساحة ..لابد أن يوجد على أرضنا، الناقد المتخصص الذي تهيأت له المواهب الفطرية فأيدها بالاكتساب السليم والمثابرة على الكتابة ومزاولة عملية النقد. أنا لا استطيع أن أذكر اسما عراقيا في نقد الشعر ولكني استطيع أن أذكر عبد الجبار عباس وفاضل ثامر في نقد القصة " جريدة الجمهورية 22 /1/ 1974 وهذه أبوة نقدية قلَّ نظيرها في عالم النقد الأدبي.
وعبد الجبار عباس ناقد منهج عمله، فكان لا يترك المتن دون أن يوثق له في الهامش، كما لا يضع دراسة إلا وقد رجع فيها إلى مصادر يحرص أن يطلع قارئه عليها منطلقا من مرجعية أسسها من قراءات متواصلة في كتب أساتذة النقد مثل د. محمد مندور وشكري عياد وعبد القادر القط ومجاهد عبد المنعم مجاهد.