إصلاح الدولة العراقية..سنكون الشعب الأذكى.. إذا أصلحنا التعليم العراقي (١٢)

Monday 27th of November 2017 12:01:00 AM ,
العدد : 4073
الصفحة : آراء وأفكار ,

تداولت القنوات التلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي تقارير صحفية تحدثت عن ترتيب الشعوب العربية الأكثر ذكاءً، حيث تَصَدر العراق لائحة أذكى شعوب العرب تلته الكويت ثم اليمن وتوالت بعدها بقية الدولة العربية بفارق رقمي بسيط. جاء ترتيب جدول الذكاء (IQ) بناءً على دراسة أجراها بين الفترة بين ٢٠٠٢ و ٢٠٠٦ عالم النفس البريطاني ريتشارد لين والبروفسور الفنلندي تاتو فانهانين، وشملت قراءتهما أكثر من مئة وثمانين بلداً.
لست هنا بصدد مناقشة الدراسة بقدر ما أود تسليط الضوء على حالة الابتهاج (يوفوريا) التي جعلت العراقيين يباهون باقي الشعوب العربية بأنهم الأذكى، لكن مَنْ يطلع على معطيات الدراسة سيجد أن أكثر من ثمانين بلداً قد تقدمت على العراق في معيار الذكاء، وإن أكثر البلدان التي تفوق عليها العراق هي دول العالم الثالث والناشئة حديثاً، فضلاً عن انحدار مستوى التربية والتعليم في البلاد التي جعلت أفضل الجامعات العراقية في سُلّم أسوأ الجامعات مقارنة بالمؤسسات العالمية الكبرى – هذا الواقع جعلنا من الشعوب التي تتنافس على الافضلية بين الاغبياء والفاشلين لأن قيادات البلد اعتادت على المقارنة بالأسوأ حالاً لنيل الموقع المحمود.
تأريخياً، كان مستوى التعليم في العراق من الأفضل بين دول العالم لكن نكسة الحروب والحصار وعقود من الحكم الدكتاتوري أوقفت عجلة العلم ودفعتها الى التراجع حتى بعد تغيير النظام عام ٢٠٠٣، فقد دأبت الحكومات المتعاقبة على التساهل في منح الشهادات العلمية والتراخي في تطوير المناهج الاكاديمية، ومنحت الاعتراف لكليات أهلية هي عبارة عن دكاكين لتأهيل ساسة البلد الطارئين ممّنْ لا يُفرق أحدهم بين "الضاد والظاء"، في ظل تخصيصات هي الأقل في موازنات التربية والتعليم مقارنة بدول الجوار خلال الخمسة عشر عاماً الماضية. لقد تم تخصيص ١،٨٣ ترليون دينار للتربية، و ٢،٣ ترليون دينار للتعليم العالي والبحث العالمي، علماً أن مجموع هذه التخصيصات لا يتجاوز ما نسبته ٤٪ من موازنة حجمها ١٠٨ ترليونات دينار عراقي للعام ٢٠١٨، في ظل نظام تعليمي يشوبه الفساد المالي والاداري والتخلف المعرفي إذ ‎تحكمه سياقات رجعية ونُظم بيروقراطية تجاوزتها ابسط الدول الاقليمية بعقود من الزمن. وبهذا، يُعَد العراق من البلدان الاقل اهتماماً بالتعليم اذا ما قورن بمعدلات الاستثمار (في التربية والتعليم) في دول الخليج العربي وأوربا وما تنتهجه هذه الدول من سياقات متطورة، حيث يتراوح معدل انفاقها بين ١٣٪ و٢٣٪ من إجمالي تخصيصات الموازنة العامة، تُصرف بحكمة وبخطط مدروسة. تجدر الاشارة الى أن التخصيصات المالية في الدول المتقدمة تركز على كفاءة الكوادر التدريسية وجودة البرامج التعليمية و انتقاء برامج البحوث النوعية مما جعل المؤسسات التعليمية في الدول الخليجية، على سبيل المثال لا الحصر، تنافس الحواضر الثقافية الكلاسيكية مثل بغداد و دمشق والقاهرة و بيروت، حتى أن معدلات التوأمة بينها وبين أرقى الجامعات العالمية قد ارتفع وهي في تصاعد على مستوى المؤسسات والبرامج.
منذ عقد من الزمن دأبتُ على تقديم محاضرات مجانية في عدد من الجامعات والمعاهد العراقية خلال زياراتي للوطن، لكنّني تفاجأت بالمستوى العلمي المتدني لدى الكثير من التدريسيين، خصوصاً في مجال اللغة الانكليزية المُعتمدة عالمياً في كتابة البحوث والكتب المعرفية الرصينة. إن جهل الاستاذ الجامعي باللغة الانكليزية في هذا العصر، بصفتها لغة المصادر والدوريات العلمية المعترف بها، يؤثر سلباً في التقدم العلمي ومستوى الخريجين لما يواجهونه من تحديات في أسواق العمل التي تغلب عليها المنافسة. ولهذا أصبح لزاماً على الدولة العراقية معالجة رفع المستوى العلمي واللغوي للكوادر التدريسية لإحداث نهضة معرفية حقيقية في البلاد تنهض بالقطاع الخاص الناجح ولا تجعل خريج الجامعة يحلم بوظيفة حكومية غير منتجة، هي الآن بمثابة بوليصة تأمين للفاشلين. لعل أفضل خطوة تقوم بها وزارة التعليم العالي هي المضي في جذب القدرات الاكاديمية العراقية المهاجرة التي تزخر بها الجامعات العالمية، للعمل معهم على توطين المعرفة من خلال مراجعة السياقات البيروقراطية المانعة لعملية الاصلاح.
في ما يلي بعض التحديات التي شهدتُها شخصياً في محاولتي الفاشلة لتصديق الشهادة، وسبل إصلاحها:
أولاً: تُعَدُ آليات الاعتراف والمصادقة المتّبعة في وزارة التعليم مانعة لعودة الكفاءات العراقية (بقصد أو بغير قصد) التي طوّرت من قدراتها خلال العقود الماضية، حيث انتهجت الوزارة اساليب غير منطقية هي من موروث الدولة الفاشلة. المنطقي في التصديق والمعادلة هو تقديم صاحب الشهادة أوراقه الثبوتية والتحقّق من صحة صدورها من المؤسسات الاكاديمية بشرط اعتراف وزارة التعليم العالي بالمعاهد والجامعات العالمية لغرض المعادلة. تجدر الاشارة الى ان الدول المتقدمة كافة تكتفي بتوصية مرجع، شخص معروف (Reference)، دون الحاجة الى أوراق رسمية (ما عدا شهادة الطب). أما دول مجلس التعاون الخليجي فتقتصر على طلب ترجمة وتصديق الشهادة من مكتب محاماة مع ختم وزارة الخارجية للدولة الاجنبية، وهذه آلية لا تتجاوز ثلاثة ايام. لذا على الدولة العراقية انتهاج أبسط آلية. أما السياقات الحالية فتتطلب استجوابات وضوابط ما انزل الله بها من سلطان، تطيل من أمد المعاملة وقد تُعطل وتمنع آلية المعادلة، فمثلاً، في الدول الاوربية، يستطيع خريج البكلوريوس التقديم على برنامج الدكتوراه بعد اكمال البكلوريوس بفترة عمل مهنية دون اجتياز مرحلة الماجستير شرط النجاح بمرحلة البحث العلمي بعد مضي عامين (Interim Assessment) قبل الشروع بكتابة اطروحة الدكتوراه. كما يمكن التنوع في مجالات التحصيل الاكاديمي، مثلاً أن تكون البكلوريوس بالهندسة، والماجستير في الاقتصاد، والدكتوراه في التأريخ أو الادارة، وهذا شيء متعارف عليه، بل تشجع عليه مؤسسات العمل في القطاعات الخاصة والعامة والمختلطة باعتبار التنوع العلمي يُثري قابليات الفرد في تنمية المجال العملي وبيئة العمل، لكن في العراق هذا الأمر غير مقبول ولا معقول، لاعتقادهم بوحدة الموضوع، فمن درس بكلوريوس هندسة كيمياء عليه أن يكمل دراسته العليا بهندسة الكيمياء، والا فإن وزارة التعليم العالي لا تعترف بالشهادات العليا اذا لم تكن موافِقة لموضوع درجة البكلوريوس، وهذه بدعة أشعر بالشفقة على من نَظّر لها وقننها.
ثانياً: يُعَدُ أسلوب المخاطبة بين السفارات العراقية والمؤسسات الاجنبية الاسوأ فيما شهدته، فاللغة الانكليزية ركيكة وسردية الخطاب ويشوبها النفس التحقيقي وكأن الذي يسألون عنه في الجامعة المعنية شخص متهم ومشكوك فيه. لقد تسلّمتُ رسالة من جامعة أكستر تقول لي "إن السفارة العراقية تستفسر ثانية عن ملفك ولا نعرف ما يريدونه مما أثار شكوكنا حيث رفعنا الأمر الى الجهات العليا في الجامعة". تجدر الإشارة الى أن كم المعلومات المطلوبة لا معنى له، فالملحقيات الثقافية تطلب بحسب ضوابط وزارة التعليم تأريخ ومدة الدراسة وطبيعة الدوام (كلي أو جزئي) وكذلك تطالب بوثائق جميع المؤسسات الاكاديمية المتعلقة اذا كان الطالب قد انتقل من جامعة الى أخرى للتحقق من الفترة الدراسية لبرنامج الدكتوراه. كما أن وزارة التعليم لا تعترف بشهادة الدراسات العليا حتى التحقق بما دونها، في حين أن كل ما تحتاجه الوزارة هو التحقق من صحة الشهادة والجامعة التي اصدرتها لا غير، بغض النظر عن ماهيتها (بكلوريوس أو ماجستير أو دكتوراه). يجب حذف كل هذه السياقات الكارثية وتحسين اسلوب المخاطبات مع الجهات الأجنبية بلغة رصينة ودقيقة لا تثير الضجة والشكوك حول هوية المعني.
ثالثاً: يجب تطوير الشهادات والمناهج التعليمية العراقية لترتقي الى مستوى النظم العالمية المطورة، لكن هذا لا يمكن تحقيقه بدون مراجعة التخصيصات المالية للتربية والتعليم لتكون ما لا يقل عن ١٥٪ من حجم الموازنات العامة للدولة تصرف على كوادر نوعية تتمتع بأعلى الشهادات العالمية والخبرة المهنية بشرط أن تكون اللغتان العربية والانكليزية معتمدتين على حد سواء، وفي أجواء خالية من الفساد الاداري في التعيينات الوظيفية والتخصيصات المالية.
رابعاً: وضع خطة وطنية لدعوة وعودة الكفاءات العراقية وتذليل الصعاب وتوطين المعرفة بعد الغاء جميع السياقات الحالية، لأن الاصرار على وضع العوائق والموانع يعني التآمر على الجيل القادم وحجبه عن المعرفة، وهذا لا يتم إلا بقرار من وزير التعليم العالي والبحث العلمي بتكليف لجنة محترفة لها معرفة بالسياقات العالمية في الدول المتطورة لتنفيذ خطة التوطين وبسقف زمني لا يتجاوز الثلاثة أشهر للبدء بجذب الكفاءات العراقية.
حتى ذلك الحين، سأبقى ومن معي أمثال الدكتور عباس كاظم (جامعة بيركلي) والدكتور شاكر لعيبي (جامعة لوزان) والكثير من زملائنا في جامعات أوكسفورد وكيمبرج وهارفارد وجونز هوبكنز وغيرنا من خريجي وأساتذة الجامعات الرصينة، ينتظرون الدولة العراقية أن تعترف بوجودهم وجهودهم والترحيب بهم لخدمة الشعب العراقي ومضاهاة أفضل الشعوب، لا أفشلها وأجهلِها.
* أكاديمي وزميل في جامعة كولومبيا، نيويورك