ثانوية الحريري: نَسَمة الاجتهاد الحداثي

Saturday 25th of November 2017 12:01:00 AM ,
العدد : 4071
الصفحة : تشكيل وعمارة ,

 يمكن لقارئ عمارة الحداثة في وطننا، والمهتم بمنجزها التصميمي، ان يلحظ تبدلاً إسلوبياً في المسار الابداعي للمعماريين الرواد، انه تبدل واضح، وإن بدا في تجلياته التطبيقية بطيئا او متبايناً في الشدةّ  بين معمار وآخر. ولكنه يبقى ذا تأثير ملموس، متمظهراً في النتاج التصميمي المشغول من قبل هذا المعمار الرائد او ذاك. بيد اننا علينا، الاستدراك، بان منطوق هذه الملاحظة ومعناها، لا يشمل بالمطلق جميع نتاج معمارييّ الحداثة الرواد بالعراق.


فبعضهم (في الاقل واحد منهم)، "ولد" حداثياً، ولم يمر بتبعات ذلك المسار التطوري، ومراحله المختلفة. وانا، هنا، بالطبع، اشير الى "عبد الله احسان كامل" (1919- 1985)، المعمار الرائد، الذي ابان منذ البداية انحيازه التام لقيم عمارة الحداثة واساليبها. في حين بعضهم (جعفر علاوي، على وجه الخصوص) "مرّ" على ذلك المسار، بصورة "نموذجية"، مبتدأً ، كما هو الامر مع غالبية اقرانه، بالانتماء الي مقاربة "الفنون والحرف" Arts and Crafts المعمارية، التى ارساها المعماريون الانكليز المؤسسون للحداثة المعمارية بالعراق، اثناء عملهم في البلاد؛ ثم "هجر" تلك المقاربة لاحقاً، وتغاضى عنها وإستبدلها بالمقاربة الحداثية.
ولعل التمعن في محطات نتاج المعمار "جعفر علاوي" (1915 – 2005) التصميمي منذ ايام تصميم المدرسة الجعفرية الابتدائية في محلة "صبابيغ الآل" ببغداد (1942) وما تلاها من تصميم "مدرسة الحيّ" (1947)، في قضاء الحيّ/ الكوت؛ وما اعقبها من تصميم "مبنى سامي سعد الدين" (1949)، في ساحة الرصافي ببغداد تشي جميعها بذلك الاسلوب التصميمي، الذي اعتمد بالمجمل على معرفة وادراك تامين لخصوصية المادة الانشائية والسعى وراء اظهارها كاساس ومرجعية للحل التصميمي للمباني المشيدة. لكن "علامة" الاجتهاد الحداثي في المسار المهني للمعمار ، تجلت بوضوح في تصميم "ثانوية الحريري للبنات" (1953) بالاعظمية في بغداد. فنحن ازاء عمارة، ليس فقط تعد حدثاً تصميمياً في عمارة المدارس العراقية؛ وإنما هي بمثابة "لحظة" ابداع...و"قطيعة" في آن، بمسيرة هذا المعمار الرائد والمجد! لقد كتبت ، يوماً، احتفاءاً بظهور عمارة هذه المدرسة، واشرت في كلمتي بما يلي:"...تبقى عمارة "ثانوية الحريري" في بغداد ، من اجمل ما شهدته عمارة الابنية المدرسية في بغداد وحتى في عموم البلاد. انها ، بحق، "سيدة" المدارس العراقية! ولا تضاهيها في تميّز لغتها المعمارية، وعقلانية الحل التصميمي وحداثته، في العمارة المدرسية بالعراق كله، سوى مدرستين شيدتا بعدها ، وهما " مدرسة الامريكان" بالمنصور <ثانوية بغداد> (1956) المعمارة: الين جودت الايوبي، والمدرسة الاخرى هي " ثانوية الزعيم عبد الكريم قاسم " في الصويرة ( 1961 )، المعمار: قحطان عوني".
تتبدى مفردات عمارة مدرسة الحريري، والتى سيق وان شاهدنا مثيلا لها في تكوينات مدرسية سابقة، تتبدى بمستوى عال ٍ من النضوج والكمال. فعمارة المدرسة المميزّة، هي نتيجة ممارسة تصميمية طويلة، اجتهد المعمار كثيرا في وعي دروسها، وان يتعلم جيدا من نجاحاتها، واخفاقاتها الشئ الكثير. ولئن بدا "فورم" المدرسة "فورما ً" عاديا ً ومألوفا، يعيد شكل هيئات التراكيب المولع بها المعمار، من امتدادات افقية لكتلة الصفوف، ومعارضتها بكتلة عمودية، هي كتلة السلم، التي يوقـعّ بجانبها عادة، مدخل المدرسة، زيادة على تاكيد موقعه، وسهولة الاستدلال عليه، فاننا نتلمس، في الحريري، استنطاق مثير مشوب بالجدة لتلك التركيبة المحببة الى قلب المعمار . في ثانوية الحريري ، لا نرى اثرا ً لاستخدامات الطابوق / الآجر بشكله الظاهر، وطرائق رصفه الحاذقة، والذي تعودنا ان نتلمس تأثيراته الجمالية في ابنية مدرسية عديدة؛ وعوضا ً عن ذلك، يوظف المعمار "اللون" ، ويجعل من حضوره التكويني، قيمة مكافئة لغياب تلك الممارسة البنائية الشائعة، التى تطورت وابدلت في الحريري الى اسلوب "لبخ" الجدران .
يبقى اسلوب النوافذ الشريطية الممتدة افقيا ً، اساس المعالجة الواجهية، لكنها، هنا، في الحريري، انطوت على تأكيدات اضافية، ببروز خرساني يحدد اطار الفتحات، ويؤكد موقعها ضمن "بياض" سطح الجدار الناصع. وبغية التأكيد على نظارة الهيئة العامة للمدرسة، فان المعمار يضيف شاشتين ملونتين باللون البني الضارب الى الاحمر، فوق امتداد كل شريط من اطاري فتحات النوافذ، مانحا ً واجهته، بخلاف واجهات المباني المجاورة، مناخا ً لونيا ً زاهيا ً .. ومطلوباً. وتتصادى هذه المعالجة مع تشكيلات واجهة "مبنى الهلال الاحمر" في العلوية (1949) ، <المعمارية : الين الايوبي> ، والتى منها ، بدأ الاهتمام بعنصر" اللون " كقيمة تكوينية هامة في منجز العمارة العراقية الحديثة.
في لقاءاتي العديدة مع جعفر علاوي، اشرت في احداها، مرة، فيما اذا كان من ثمة "تأثير"، من عمارة "مشغل الهلال الاحمر" على اسلوب تنطيق مفردات مدرسة الحريري، فاجاب مبتسماً بالايجاب، منوهاً بان حدث ظهور"المشغل" وقتذاك، كان لافتا وجريئاً و...حداثياً ايضا في البيئة المبنية المحلية، واثار ظهوره المفاجئ انتباه كثر من المصممين لأهمية"عمارة الحداثة" ومبادئها؛ وابان ذلك الظهور الى ضرورة تطويع مقاربتها في المشهد المعماري المحلي، والى جدوى "استنبات" قيمها فيه، بصفتها استحقاقاً مهنياً، ومعطىً حضارياً عالمياً.
لقد اخترت كلمة "نسمة" لتوصيف فعل الاجتهاد التصميمي، الذي قام به جعفر علاوي في اجتراحه لعمارة مدرسة الحريري. وتفيدنا المعاجم العربية، بان كلمة "نسمة" (وهي بالطبع من النسيم) الذي يعني "الريح الليّنة قبل ان تشتد"، كما يدل معناها ايضا الى "ابتداء كل ريح قبل ان تقوى"؛ وهي، بالتالي، ترمز من ان ظهور "الحريري" في المشهد المعماري المحلي، دلل الى ترسيخ قيم عمارة الحداثة فيه، ووشى ببدء ظهور نماذج تصميمية تنتمي حلولها التكوينية الى مرجعية قيم عمارة الحداثة. ومن هنا تنبع أهمية عمارة ثانوية الحريري كحدث تصميمي حداثي ...ورائد!
ولد جعفر علاوي في منطقة " صبايبغ الال " ببغداد، عام 1915، وحصل على بعثة دراسية حكومية سنة 1933 لدراسة العمارة في مدرسة ليفربول المعمارية بانكلترة، التى منها حصل على اجازته المهنية عام 1939. عين في وزارة المعارف (وزارة التربية حاليا ً) في عام 1940، بقسم المباني. صمم ونفذ اثناء عمله في الوزارة العديد من المدارس في عموم العراق، وظل في منصبه خبيرا في الابنية المدرسية لحين استقالته الطوعية سنة 1954، عندما اسس لنفسه مكتبا استشاريا، اعتبر اول مكتب استشاري عراقي في البلاد.
اضطلع في اعداد تصاميم وتنفيذ الكثير من المباني على امتداد ستة عقود متواصلة من العمل الاستشاري المميزّ، وعدت بعض تصاميمه محطات مهمة في منجز العمارة الحداثية العراقية. صمم المدرسة الثانوية الجعفرية في "القاطرخانة" ببغداد (1946)، وثانوية الحيّ بواسط (1947)،و مبنى سامي سعد الدين في ساحة الرصافي بغداد (1949) وساهم مع عبد الله احسان كامل في تصاميم مبنى المصرف الزراعي بالسنك في بغداد (1949-1951)، كما صمم ثانوية الحريري بالاعظمية (1953)، وحازت تصاميمه المرتبة الاولى في مسابقة معمارية لدور سكن الخبراء في مصفى الدورة (1952)، وصمم "عمارة مرجان" (1953- 1954)، في الباب الشرقي ببغداد، ونفذ سلسلة من الدور السكنية المتسلسلة بالعلوية في بغداد (1955)، واعد تصميم مستشفي مرجان للامراض الصدرية في الحلة (1956)، كما صمم مبنى سكني في الوزيرية شغلته السفارة الهندية (1954)، ودار المعلمات الابتدائية في الاعظمية (1956)، وبناية كلية التجارة في البصرة (1961)، والعديد من الابنية والدور السكنية ذات التكوينات المعمارية المعبرة في عموم البلاد. عين وزيرا للاشغال والاسكان سنة 1965. رأس وشارك في عضوية لجان تحكيم لمسابقات معمارية عديدة في البلاد، وكان عضواً دائماً في لجان تحكيم مشاريع طلبة العمارة في جامعة بغداد.
كان جعفر علاوي مولعا في مطالعة الادب العربي والانكليزي، وله مقالات منشورة في مواضيع عامة، كما انه متذوق للموسيقى الكلاسيكية، وظل دوماً مغرما في اغاني ام كلثوم. توفي بتاريخ 20 حزيران 2005، اثر حادث سير مؤسف، في طريق عودته الى بلده، آتيا من الاردن.