المفتشون العامون.. وُلِدوا جنيناً ميتاً ولم يكونوا فاعلين في كشف الفساد

Friday 9th of November 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2644
الصفحة : سياسية ,

في العام 2004 أسّست الولايات المتحدة ثلاث هيئات بإشراف سلطة الائتلاف المؤقتة من أجل محاربة الفساد في العراق. إحدى تلك الهيئات (المفتشون العامون) الذين كان من المقرر أن يعملوا في كل وزارة وهيئة حكومية ووضعهم في مقدمة من يحقق في الجرائم.
هذا المنصب أثار الاستياء والشك واندلعت معركة شرسة حول من الذي سيسيطر على المفتشين، مما كان سببا في تقويض استقلاليتهم وتحويلهم إلى مشرفين غير فاعلين. كان الغرض من تأسيس المنصب هو مراقبة عمل الوزارات العراقية. وجاء تأسيس المنصب بموجب الأمر المرقم 57 في شباط 2004، وكان من المفترض ان يقوم المفتشون العامون بإجراء التدقيق والتوصيات والتحقيق ثم يمررون المعلومات إلى هيئة النزاهة – وهي أعلى هيئة لمكافحة الفساد-، والى المحكمة الجنائية المركزية في العراق. تم منحهم صلاحيات إضافية من خلال منحهم صلاحية استدعاء المعنيين للمحاكم.
 قام رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة بول بريمر بتعيين أول 29 مفتش عام في حزيران قبل ان ينهي مهامه ويعود إلى الولايات المتحدة. بعد ذلك تبين أنهم لا يمتلكون الكثير من الصلاحيات لأنهم لم يكونوا مستقلين وانما كانوا جزءا من الوزارات. كما أن أمر سلطة الائتلاف المرقم 57 لم يسمح بالتعاون بين المفتشين من مختلف الوزارات. الكثير من المبادئ والمسؤوليات لم تكن مباشرة لدرجة أن الكثير من المفتشين العامين اعتقدوا أن عليهم  استحصال الأذن من الوزارات قبل إعطاء أية معلومات إلى هيئة النزاهة، مما وضع حاجزا كبيرا أمام أي عمل جاد يتعلق بمحاربة الفساد. شكلت هيئة النزاهة لجنة تنسيق في محاولة لحل بعض هذه المشاكل، إلا أنها كانت للاستشارة فقط لذا كانت قراراتها غير ملزمة. اعتقد الاميركان أن المفتشين العامين سيعملون مثل نظرائهم الاميركان. كان المراد من هذا ان يكون رقابة أساسية على تجاوزات الحكومة الجديدة، لكن اتضح أن تخطيط التنفيذ كان ضعيفا.
قامت سلطة الائتلاف بتشكيل مؤسسات جديدة دون إعطاء فكرة مكثفة عن كيفية عملها داخل الدوائر الحكومية العراقية الموجودة، إلا ان الولايات المتحدة – مثل الكثير من قراراتها في ذلك الوقت – باشرت بالخطة دون استشارة العراقيين . بانت أخطاء الستراتيجية الاميركية مباشرة، حيث كانت اهم المشاكل هي ان الاميركان لم يقدموا أي دعم حقيقي للمفتشين العامين، ومن جانبها لم توفر لهم وزارتا العدل والخارجية وسلطة الائتلاف سوى القليل من التمويل تاركة البنتاغون يمدهم ببعض الأموال.
عند انتهاء مهام سلطة الائتلاف فقط تم إعطاء مبلغ 11 مليون دولار للمفتشين العامين وهيئة النزاهة من اجل تدريب بعض كوادرهما. استمر ذلك الإهمال على مدى السنوات اللاحقة، فمثلا لم تعيّن وزارة الخارجية مستشارين للمفتشين حتى عام 2007، ولم تكن للمستشارين ميزانية، كما حدثت تغييرات مستمرة لمسؤولي مكاتب المستشارين. ليس هذا فقط بل كانت الولايات المتحدة تتدخل أحيانا في عمل المفتشين العامين، فمثلا طلب البنتاغون من المفتش العام لوزارة الدفاع التوقف عن النظر في قضايا الفساد حسب تقرير السفارة الأميركية لعام 2007. كذلك لم تفعل الولايات المتحدة شيئا عندما حاولت حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي بشكل ممنهج تقويض كل هيئات محاربة الفساد.
أسست الولايات المتحدة البنية التحتية بالأساس لمحاربة الابتزاز والسرقة، لكنها بعد ذلك لم تفعل شيئا لمساعدتها او لدعم تأسيسها، ونتيجة لذلك كان المفتشون العامون في الغالب بمثابة جنين ميت. القواعد والمبادئ التي وضعتها سلطة الائتلاف للمفتشين العامين أثبتت صعوبتها، حيث كان عليهم التحقيق في عمل الوزارات ثم رفع النتائج الى هيئة النزاهة التي تقوم بدورها بمراجعة القضية ومحاولة استحصال المزيد من المعلومات عند الضرورة، فإذا وجدت أن القضية تستوجب التحقيق فانها تتوجه الى المحكمة الجنائية العراقية  التي أسسها الاميركان ايضا والتي تتعامل مع الفساد الحكومي . عندها يقوم احد قضاة التحقيق بمراجعة الأوليات مرة اخرى قبل ان يقرر أخيرا إجراء محاكمة ام لا.
كل ذلك يمثل الكثير من الأعمال الروتينية التي من الواجب المرور بها قبل اتخاذ اي اجراء حقيقي. كانت العملية مرهقة جدا لدرجة إذا وجد فساد في عقد حكومي مثلا فمن المحتمل أن يتم انجازه وصرف أموال طائلة عليه قبل اتخاذ أي إجراء بشأنه. هذا يعني عدم وجود رقابة حقيقية على المشتريات الحكومية التي هي واحدة من اكبر مصادر الفساد في العراق. الوقت الذي يستغرقه إرسال قضية واحدة الى المحكمة يوفر أيضاً فرصة وفيرة للمسؤول المشكوك به للاتصال بالمقربين منه من السياسيين من أجل إيقاف التحقيق او للهرب الى خارج البلاد. هذه دلالة أخرى على ان سلطة الائتلاف لم تفكر مليا بما كانت تفعل عندما أسست منصب المفتش العام.
من الأدلة القاطعة على أن المفتشين العامين لم يكونوا فاعلين في عملهم  أجهزة كشف المتفجرات الوهمية التي قامت وزارة الداخلية بشرائها، ففي عام 2007 اشترى العراق 1500 جهاز ( أي دي إي – 651 ) لكشف المتفجرات من شركة انكليزية بقيمة 122 مليون دولار. حينها قال المفتش العام للوزارة ان العراق كان بإمكانه شراء الجهاز الواحد منها بقيمة 18.500 دولار، لكن الأمر انتهى بإنفاق ما يقارب 60 ألف دولار للجهاز الواحد. ظهرت فورا انتقادات حول شراء الأجهزة من بينها انتقادات من الولايات المتحدة التي حاولت إقناع الوزارة بعدم استخدامها. في النهاية منعت بريطانيا تصدير الاجهزة واتهمت من قام بصناعتها.
 في 2011 اكتشف المفتش العام للوزارة ان 75% من الأموال المصروفة على الأجهزة قد ذهبت الى جيوب مسؤولين عراقيين. كان على رأس المتهمين في ذلك المدير العام لادارة المتفجرات الذي أرادت لجنة النزاهة مقاضاته، الا ان وزير الداخلية حينها جواد البولاني احتج بالمادة 136 ب من القانون الجنائي والتي تسمح للوزير بمنع ارسال أي تحقيق الى المحكمة. وكانت النتيجة ان الاجهزة لاتزال تستخدم في شوارع العراق الى يومنا هذا رغم إثبات حقيقة كونها اجهزة وهمية وانها جزء من عملية احتيال قام بها مسؤولون في وزارة الداخلية من أجل سرقة المال العام. هذا يبين ان هيئات محاربة الفساد ليس لديها الكثير كي تفعله للإشراف على افعال الحكومة حتى في القضايا العامة، ولمنع أصحاب المصالح المتنفذين من تنفيذ أفعالهم غير القانونية.
هناك الكثير من الحالات الاخرى كشف فيها المفتشون العامون فسادا في وزاراتهم لكن دون ان يتم اتخاذ أي اجراء بشأنها. في 2006 وجد المفتش العام لوزارة الداخلية ضباطا يبيعون اسلحة وعجلات زودهم بها الاميركان في السوق السوداء، فذهب رئيس وحدة الاستخبارات في الوزارة الى مكتب المفتش العام وقام بترهيبه من أجل التخلي عن القضية. وفي 2009 اكتشف المفتش العام لوزارة التعليم العالي الفي شهادة مزورة  يعمل اصحابها في الدوائر والهيئات التدريسية في الجامعات. في نفس العام كشف المفتش العام لوزارة الصحة عن عاملين يسرقون الأدوية لبيعها في السوق السوداء، وكشف عن رشاوى وعقود بناء لم يتم انجازها وعن شراء أدوية منتهية الصلاحية. في عام 2011 قال المفتش العام لوزارة العمل ان هناك 190 موظفا – بينهم 4 مدراء عامون– متورطون بعملية غسيل اموال بقيمة 246.5 مليون دولار. في الفترة نفسها كان المفتش العام لوزارة الكهرباء ينظر في عملية سرقة وقود مخصص لمصانع الطاقة الكهربائية لبيعه في السوق السوداء. معظم هذه القصص ظهرت بشكل موجز في الصحافة ثم اختفت عن الأنظار ولم يسمع عنها شيئا مرة ثانية. من الواضح ان بعض المفتشين العامين كانوا يؤدون واجبهم وكشفوا عن الكثير من السرقات وهدر الاموال التي كانت تجري في وزاراتهم. لكن بسبب غياب الدعم من الوزراء والأطراف المتنفذة الأخرى فقد ذهب عملهم إدراج الرياح ولم يؤد الى اية نتيجة في أي قضية من تلك القضايا.
حتى في القضايا النادرة التي تمكن فيها المفتشون العامون من كشف قضايا فساد على مستوى عال وحولوها الى المحكمة، فلم تكن هناك فرصة لمقاضاة ناجحة. ففي حزيران 2009 استقال وزير التجارة حينها فلاح السوداني بسبب خلاف حول التلاعب بالحصة التموينية للمواطنين التي كان يشرف عليها، وانتهى الأمر باعتقاله في مطار بغداد مع أشقائه الذين كانوا يعملون في الوزارة أيضا عند محاولتهم مغادرة البلاد. أساسا كشف المفتش العام بأن شقيق السوداني وابن أخيه كانا يتلقيان رشاوى عن استيراد مادة السكر، إلا انه تعرض للتهديد كي يبقى صامتا بشأن الموضوع. فيما بعد وعندما سأل المفتش العام عن سبب شراء الوزارة طعاما فاسدا تم نقله الى مكتب في الصين. بالنتيجة تبينت صحة اقوال المفتش العام وظهرت الاتهامات ضد السوداني وافراد عائلته. في نيسان 2010 أسقطت المحكمة الدعوى بسبب عدم توفر الأدلة، كما فشل تمييز  قدمته لجنة النزاهة في أيلول بشأن الموضوع. كانت تلك المرة الأولى التي يقدم فيها وزير إلى المحكمة عن تهم فساد منذ الاجتياح الأميركي للبلاد عام 2003 . كانت قضية كبيرة بالإضافة إلى أن السوداني وأقرباءه كانوا متهمين بسرقة ما بين 4 – 8 مليارات دولار.
حتى الآن لا تريد المنظومة القضائية أن تتبنى القضية، ربما بسبب الضغط السياسي، إذ أن السوداني ينتسب إلى  حزب رئيس الوزراء نوري المالكي– الدعوة- . هذا يبين ان محاكم البلاد لم تكن فاعلة في التعامل مع الفساد كما هي حال المفتشين العامين .
كان العائق الرئيسي امام المفتشين العامين في تنفيذ مهامهم هو معارضة الحكومة العراقية. الكثير من المسؤولين كانوا يعتقدون بان المفتشين يعملون لصالح الولايات المتحدة منذ ان تم تأسيس المنصب من قبل سلطة الائتلاف. فيما بعد حاول رئيس الوزراء نوري المالكي فرض سيطرته على تعيين واعفاء المفتشين العامين، مما دعا الوزراء الى الاعتقاد بان المفتشين هم جواسيس لصالح رئيس الوزراء. اخيرا، بما ان الوزراء تتم إدارتهم كإقطاعيين من قبل  قادتهم فان الكثيرين منهم كانوا فاسدين او انهم سمحوا لمرؤوسيهم بالسرقة والكسب غير المشروع، وكانوا هم ايضا ضد وجود المفتشين العامين. أحد المفتشين أخبر المفتش العام لإعادة إعمار العراق انه إذا ما قام بعمله بالشكل المطلوب فانه اما سيطرد من قبل الوزير او انه سيتعرض للقتل. نتيجة لذلك، حاول الكثير من المسؤولين تحديد التحقيقات التي يقوم بها المفتشون العامون، وعارضوا استقلاليتهم، وكانت تهم الفساد تستخدم أحيانا لمهاجمة المنافسين السياسيين. في عام 2007 أخبر المالكي الاميركان بانه يعارض فكرة قيام الهيئات المستقلة بالنظر في قضايا الفساد، وكانت النتيجة ان كشف تقرير المفتش العام لأعمار العراق بان اغلب المفتشين العامين قد تم إخراسهم في هذه البيئة القاسية فرفضوا التحقيق في اية قضية يتورط فيها مسؤولون كبار.
إلى جانب ديوان الرقابة المالية الذي أسسه البريطانيون في سنوات العشرينات من القرن الماضي للنظر في الامور المالية للبلاد، فان العراق لم يعتد على فكرة الشفافية، ناهيك عن هيئات محاربة الكسب غير المشروع . عندما أسست سلطة الائتلاف منصب المفتش العام عام 2004، فقد تم تفسير ذلك على انه محاولة خارجية لمراقبة عمل الحكومة، وكان ذلك تفسيرا صحيحا، وكان من المتوقع ان يكون رد فعل الوزراء ورئيس الوزراء سلبيا تجاههم.
كان اختيار وإعفاء المفتشين العامين موضع خلاف أيضا، فعندما تسلّم المالكي منصبه عام 2006، تولى صلاحية تعيينهم وإعفائهم. وفي 2009 تخلص من مفتشي وزارات الموارد المائية، الثقافة، التجارة، الرياضة والشباب  بالإضافة الى  البنك المركزي العراقي والوقفين السني والمسيحي. كان التفسير الرسمي لذلك الاجراء هو عدم الكفاءة. كما طالب رئيس الوزراء بالاشراف على اعمالهم. في 2007 ذكرت السفارة الاميركية في تقريرها قول مستشار المالكي لشؤون محاربة الفساد بان التحقيقات التي يجريها المفتشون العامون يجب ان تكون برعاية مكتب رئيس الوزراء.
في اواخر 2008 تم تأسيس المجلس الوطني لمكافحة الفساد بهدف مراقبة المفتشين العامين. الكثيرون اعتقدوا ان المجلس قد تشكل لاختيار مفتشين جدد بعد مرور خمس سنوات على اشغالهم للمنصب.في تشرين الاول 2012 ذكر نائب من اللجنة القانونية بان اغلب المفتشين العامين هم اليوم تحت سيطرة المالكي. كما قام الوزراء أيضا بتعيين وإعفاء المفتشين العامين، وفشلت محاولات حل هذه المشكلة بسبب عدم تمرير قوانين تتعامل معها رغم ان المجلس التشريعي قد ناقش القضية.
 كانت استقلالية المفتشين العامين مشكوك فيها منذ البداية. وبما ان الكثيرين عارضوا وجودهم فليس من المفاجئ ان يحاول الوزراء ورئيس الوزراء وضعهم تحت السيطرة وتحديد نشاطاتهم. من جانب آخر فشلت محاولات البرلمان في إصلاح العملية الانتخابية وحماية نزاهتها بسبب الخلافات السياسية بين الأطراف الرئيسية. في نفس الوقت كانت هناك عدة مبادرات للتخلص من المفتشين العامين. فالقاضي رحيم العكيلي –الرئيس الثالث لهيئة النزاهة– قد عارض المفتشين مع ان مكتبه يعتمد عليهم في اجراء التحقيقات، واقترح العمل بعيدا عنهم. في عام 2011 كشفت مراجعة قامت بها الحكومة عدم فائدة المفتشين واقترحت لجنة النزاهة البرلمانية إلغاء مناصبهم. في بداية العام التالي أعفى المالكي ثمانية مفتشين آخرين وهدد بالتخلص من الباقين . في تشرين الثاني شكّل مجلس الوزراء لجنة لتقرير الغاء المنصب من عدمه.
لقد تمكن المفتشون العامون ولو قليلا من منع الفساد المستمر داخل الحكومة الا ان ذلك يعود الى ان الكثيرين كانوا يعارضون عملهم. السبب الحقيقي في اقتراح المالكي وغيره انهاء عمل مكاتب المفتشين العامين هو انهم يريدون عمل ما يشاؤون بحرية دون رقابة على نشاطاتهم.
كانت نوايا الولايات المتحدة مخلصة عندما أسست منصب المفتش العام، لكنها فشلت في تخطيط وتنفيذ ودعم تلك الفكرة، فكانت النتيجة هزالة المكاتب الحكومية. المفتشون اليوم يخضعون لسيطرة وزراءهم ورئيس الوزراء، وغالبا ما يكشفون عن قضايا الفساد لكنهم لا يستطيعون فعل شيء تجاهها ماعدا القضايا التي يتورط فيها موظفون صغار.
لقد ثبت مرارا عدم وجود دعم سياسي او مؤسساتي لعمل المفتشين العامين، مما ادى الى نقاشات مستمرة حول التخلص منهم بالإضافة إلى تهديدهم وترهيبهم.
لقد بدأ الفساد في العراق في عهد صدام وتوسع بعد الاجتياح الأميركي بسبب توفر اموال طائلة بشكل مفاجئ خصصت  لاعادة بناء البلد. استفادت النخبة العراقية من هذا الموقف للاغتناء، ومنذ ذلك الوقت وهي تحمي بقوة حقها في ذلك. لهذا السبب ستبقى نشاطات المفتشين العامين دائما محددة في نطاق ضيق.
عن: أفكار عن العراق