تارةً أُخرى .. تجريم خطاب الإسلام السياسي

Sunday 2nd of December 2018 06:30:13 PM ,
العدد : 4322
الصفحة : آراء وأفكار ,

ناصر الحجاج

لا يخطر في بالي تجربة (ديمقراطية) أساءت للإسلام ولسماحة تعاليمه القرآنية العظيمة كما أساءت حكومات الإسلام السياسي التي حكمت العراق منذ 2003، فلقد تحوّلت القيم الإسلامية في العيش المشترك والعفو والمغفرة ودفع المشاكل والخصومات بالتي هي أحسن كما في قول الله تعالى "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، حوّلتها أحزاب الإسلام السياسي المخاتلة إلى خطاب عداوة دموي يحرّض على قتل الخصوم المختلفين، ويكفّر العلمانيين صراحة، بل ويبيح القتل والتصفيات الجسدية دون محاكمات، ويبرر القتل المعنوي ويسوّغ النيل من شرف النفس المحترمة، والتسقيط بالإفك والكذب.
أحزاب الإسلام السياسي العراقية التي "مكّنها الله" من حكم العراق (التمكين في أدبيات الإسلام السياسي نوعان؛ كلّي مثل سلطة ذي القرنين، وجزئي مثل سلطة النبي يوسف على خزائن مصر ـ علي الصلابي) اتخذت هذه الأحزاب موقعها في الحكم وسيلة لسرقة موارد البلاد، وهدر طاقاتها المادية والمعنوية، وجعلت شعارات الإسلام وسائل لترسيخ تبعيّة العشيرة لرجل الدين (دستوريا) ومنع القضاء من القيام بدوره في استرداد الأموال المسروقة، ومحاسبة المقصرين، بحيث صار كل حزب طائفي يدافع عن أعضائه الفاسدين بحجة "هذا سيّد ومن جماعتنا" وليس للصحافة أن تنشر أخبار الروائح النتنة التي تفوح من مطابخ الإسلام السياسي، فلا يتجرأ على الله ورسوله وعلى (أصحاب الكساء) وممثليهم في الأرض إلا الخونة والمرتدون والمدفوعون من جهات معادية للإسلام، "فالإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام".
استغل دعاة الإسلام السياسي غياب الوعي الشعبي بالحقوق المدنيّة، واستفادوا من انهيار المؤسسات التعليمية والقانونية والتثقيفية، (كان الشعب في غيبوبة) فنصبوا أنفسهم ممثلين للدين، وحماةً للشريعة، واستمراراً للرسول وأهل بيته، فأبقوا، أول ما أبقوا، عبارة "الله أكبر" التي أضافها قبلهم صدام في حملته الإيمانية، ليؤكدوا في أذهان الشعب أن العراق دولة إسلامية (تحكمها أحزاب إسلامية) وأنّ رايته هي راية الإسلام، وأن رجل الدين هو صاحب الفضل الأكبر في قيام الدولة العراقية الجديدة، (ثبتوا هذه القناعة في الدستور) وراحوا يساعدون على بناء الحسينيات، وإنشاء الفضائيات، فيما أهملت المؤسسات المعنية بالعلوم والتكنولوجيا وعطلت مراكز الأبحاث والدراسات، وحولت جهود الشعب وأنشطته وتظاهراته إلى اللطم والتطبير والزيارات والمشاية، مقابل إهمال قيم "الحرية، والعزة، والنظافة، وطلب العلم، والإحسان للجيران" التي طالما كانت متزامنة مع ذكر الإسلام في غابر الأزمان.
لقد مهد الإسلام السياسي لقمع الروح المدنية، بكتابة ديباجة منافقة للدستور العراقي، مغمسة بالطعم الديني المحبب للفقراء " نحنُ أبناء موطن الرسل والأنبياء ومثوى الائمة الأطهار، وفوقَ ترابنا صلى الصحابةُ والأولياء، .. عرفانا منّا بحقِ الله علينا، واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية، وإصرارِ مراجعنا العظام ... سعينا يداً بيد، وكتفاً بكتف، لنصنع عراقنا الجديد، من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية ولا عقدة مناطقية ولا تمييز ولا إقصاء ـ الدستور العراقي".
من يقرأ هذه الديباجة يدرك أن الديمقراطيين والليبراليين في العراق كانوا موتى أو نياماً أو متواطئين في ظل تمهيد فئات الإسلام السياسي لإشغال الشعب بقشور المظاهر الدينية على حساب حقوقه المدنيّة: "العتبات المقدسة والمقامات الدينية في العراق كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية فيها، بما فيها الشعائر الحسينية ـ الدستور العراقي". وهذا يعني بوضوح أن الإسلام السياسي لم يكتف بمادة الحريات العامة بل خطط بدهاء لتأكيد سلطة رجل الدين وجعله عنصراً فوق سائر أفراد الشعب، مشدّداً على تبعيّة العشائر لرجل الدين :" تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين .. ـ الدستور العراقي" في تناقض دستوري واضح في أن "تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني"، وفي الوقت نفسه تروج للقيم الدينية و"للشعائر" الحسينية على حساب الشعائر المدنية في الليبرالية والديمقراطية، وهذا لعمري إكراه واضح يكفله الدستور.
كنّا نقرأ الأدبيات المتطرّفة للسلفيّة الجهادية فنظن إن الأمر لا يعدو كونه مرويّات عقائدية، حتى بدأت حملات "الله أكبر" في الذبح والتفخيخ والتفجير، فعرفنا إنهم وصلوا مرحلة "التمكين" في تجنيد "المجاهدين" لقتل الشيعة الروافض وأعوانهم من السنّة والمشركين. ولهذا، علينا اليوم أن ندرك خطورة الأدبيات (الثقافية) التي زرعها الإسلام السياسي في الدستور العراقي، والتي تعادي صراحة العلمانية، والليبرالية المدنية، وتعدها منافية للدين، في تغييب بيّن للوعي بالحقوق المدنية تأكيد جليّ لسلطة رجال الدين على العشائر والمؤسسات المدنية والرسميّة، حتى صار من الطبيعي أن يشعر المواطن البسيط بأن الذين لا يقيمون "الشعائر الدينية" مخالفون للدستور.
حان الوقت لإنصاف المدنيين العراقيين، وحراسة التقاليد المدنيّة، ومساواتها بالشعائر الدينية، وآن الأوان لإعادة كتابة الدستور العراقي وتحديثه amendments to the Constitution بما يضمن العدالة والمساوة في الحريات بين فئات الشعب وأفراد الأمة، ويضمن عدم تسيّد المفسدين وسيطرة رجال الدين على المؤسسة الدستورية، بل آن الأوان لتجريم "الثقافة" التي زرعها الإسلام السياسي في عقلية الشعب العراقي، فأوصلت الأوضاع في العراق إلى الحضيض، في التستر على المفسدين والسراق، والقتلة باسم الإسلام، والرضا بالتمييز بين أبناء الشعب الواحد على أساس العقيدة والدين.