مظفّر النّواب: تأملات وذكريات ((1))

Wednesday 6th of February 2019 06:12:29 PM ,
العدد : 4367
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. حسين الهنداوي

1 – شاعر رائد ومناضل كبير

"كُلُّ الأشّيَاء رَضيتُ سِوى الذُّلّ، وأنْ يُوضَعَ قَلبِيَ في قَفَصٍ، في بَيْتِ السُلطانْ".
الحبُّ والنضال الثوري، توأمان في شعر مُظفّر النوّاب، بينما همّ الحرية والعدالة والجمال، هو الأسمى والاقوى في كل ما سطره من قصائد رائعة ونضال سياسي ومواقف وطنية وأممية، وما قاساه من سجون واضطهاد وحياةٍ زاهدة وغربة وحرمان، هذا الشاعر الرائد والفنان الكبير الذي يندر إنْ نجح مبدع كبير واحد أنْ يجمع كل ما جمعه من مواهب أصيلة وطاقات متنوعة.
وبالفعل، لم تجمع عبقرية مظفر النواب بين شعر شعبي يتدفق من الجسد كشلال عذب عراقي الروح والجوى، وبين شعر باللغة العربية الفصحى ريادي وحداثوي وملحمي تسامى غالباً على كل محاكاة وتقليد وكل تعصب وكل حدود وحسب، بل إمتلك أيضاً طاقة غنائية خلابة ومهارات لامعة في الرسم (الذي له فيه عدة معارض) والمسرح (عبر كتابة مسرحيات مثل "على كد البريسم" و"ابو سكيو" او اخراج عدد آخر مثل "راس الشليلة مع يوسف العاني)، وكذلك في الموسيقى، فضلا عن ثقافة واسعة وعميقة وطبع دمث وتواضع جم، وكل ذلك الى جانب تاريخ صمود سياسي وثوري يكاد يكون تاريخ شعبه العراقي كله للنصف الثاني من القرن العشرين على الأقل. قصيدته البكر «للريل وحَمَد» التي نشرتها مجلة "المثقف" في 1956، وغدت على كل لسان منذئذ والى الآن، كانت أول إعلان عن عبقريته الشعرية بالعامية العراقية التي، وعبر نصوص شعرية لم تعد تحصى، أبدعت سلفاً ما يشبه ملحمة وجدانية وانسانية فريدة بذاتها سواء لصدق وشفافية العاطفة وشجاعة الموقف السياسي والإنساني أو لجمالية الصورة الشعرية وكذلك الغنائية المموسقة الواعية المنقطعة عن التقليد والرتابة والحداء.
ومظفر النواب بلا ريب الرائد الأهم وقطعاً الأول، وأكاد أقول الأجمل الى الآن، لحركة التجديد في شعر اللغة العامية العراقي الحديث، وهي موجة انبثقت بتأثير حركة الشعر العربي الحديث لجيل الرواد وخاصة قصائد بلند الحيدري وبدر شاكر السياب وحسين مردان كما استفادت من تيار الرسم العراقي الحديث لجواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي وموسيقى سلمان شكر وجميل بشير وهي بالتالي لا تمثل امتداداً للشعر الشعبي المكتوب باللغة العامية الريفية لجنوبي العراق أو وسطه برغم أن مظفر النواب استفاد منه استفادة قصوى من هذا الشعر وانتقى منه مئات المعاني الروحية والشعرية والتعبيرات والمفردات والحركات والصور والتشكيلات بمهارة وشغف مذهلين مع بقائه بغدادي الروح والأسلوب والنزوات وبقاء شعره الشعبي شعراً مدينيا في الجوهر برغم انه مكتوب بلغة وأجواء جنوبية ما يجعله أقرب الى روحية ابناء المدن وبينهم انتشر بشكل خاص (لا سيما فئات المثقفين واليساريين والطلاب والمهاجرين من محافظات جنوبية الى العاصمة) أكثر من انتشاره بين ابناء الريف أو العشائر أو الفلاحين أو سكان الاهوار رغم انه يمجد معاناتهم وخلجاتهم وتعبيرات عشقهم وإبائهم ونضالهم بصدقٍ وحبٍّ اعظم تمجيد في واقع الحال.
وتمثل السنوات العشر ما بين 1958 و1968، الفترة الأخصب ربما في الانتاج الشعري باللغة العامية العراقية لمظفر النواب كما تدل على ذلك التواريخ التي تحملها قصائده المنشورة في ديوانه (للريل وحمد) وغير المنشورة فيه وعددها كبير اشهرها "براءة" و"حسن الشموس" و"ابن ديرتنه حمد" و"حجام البريٍس" وغيرها.
أما شعره بالفصحى بدءاً بقصيدة "قراءة في دفتر المطر" والمنتمي الى الفترة اللاحقة على 1968، فلا يستوقفنا بقطيعته التامة مع الرومانسية الغنائية وبغزارته وحسب بل وعمق التزامه بمضامين سياسية وصوفية وانسانية الى جانب نزعته التجديدية والتحررية في إطار حركة الشعر العربي الحديث لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما يجعل شعره ككل، أقرب الى سفر انتصار للعدل على الظلم، وللحق على الباطل، وللجمال على الدمامة، بموازاة دوره كمرآة صادقة لحالة وطنية عراقية وعربية ولمواقف احتجاجية ونضالية جريئة مع كل ما تعبر عنه من معاناة فردية وتضحيات تشبه النزيف لوطن بأكمله، حالة تجاهر بأعلى صوت عن انحيازها الى جانب المضطهدين والفقراء بأجواء تجمع النزعتين التأملية الكونية والسياسية الثورية في نفس الوقت، ومن هنا طابعها التحريضي المباشر والغاضب وحتى الجارح أحياناً لـ "شاعر الصراحة الفذّ" مظفر النواب، كما اطلق عليه الناقد الكبير عبد الواحد لؤلؤة الذي لا يحسب أن الزمان "سيجود في المستقبل القريب أو البعيد" بشاعر يمتلك موهبة كموهبة مظفر الشعرية مع ما تكتنز به من خبرة في الحياة والسياسة والمجتمع تدعمها ثقافة تتراكم منذ ان كان طالبا في قسم اللغة العربية في كلية الآداب الوليدة في بغداد الخمسينيات الى جانب قناعته الفكرية اليسارية وعناده وتصميمه والتزامه الصادق في المعتقد، ما انعكس في كل ما قاله في قصائده، بالعربية الفصيحة، في مهاجمة جميع أصحاب السلطة العرب دون استثناء، كما في قصائده بالعامية العراقية، وخاصة في موضوعات الحب، التي توحي بأصالة في الموقف، لا بوقفة مسرحية مفتعلة".
ثقافته الفراهيدية مدهشة وأساسية في منجزه الشعري ولم يتوقف عن تطويرها وأغنائها على الدوام. فإبن بغداد هذا المذهل في سعيه المبكر لامتلاك أجمل وأعمق ما في العامية العراقية، لا سيما الجنوبية السومرية الاعماق، من معان ومفردات وايحاءات روحية وجسدية وأنغام، يستفيد بشكل مدهش أيضاً من كل ما تعلمه في الدراسة الجامعية من تفعيلات وبحور واوزان خليلية وجناس وطباق بل أن كل شعر مظفر النواب باللغة العامية يبدو في اللغة الفصحى ملتزماً بدقة بكل أصولها وبالعروض الخليلية أيضاً على أنه جعلها تتخفى وراء المتدارك والخبب خاصة دون تصنع وادعاء كما لم يترك لها حرية التسلط عليه في أي شكل مغرياً اياها، وكل اللغة، بالتبعية له دون شرط وخوف، وجاعلا القافية تتوارى طوعاً وبكبرياء وراء الشجون والعواطف الاكثر حميمية، فيما الزمن يتماهى مع المكان، مع الهور، صانعا تاريخا جديدا للقصيدة الموغلة في التاريخ غالباً، زاجاً القيم العروضية الكلاسيكية في تحديات الموسيقى الحديثة لا العراقية والعربية فقط بل الكونية ايضا منذ تأثره بأول اوبرا موسيقية سمعها في كلية الآداب ببغداد عام 1952، وكانت أوبرا Othello (أُتيلّو) للموسيقار الإيطالي الكبير جوسيبي فيردي التي تركت سحرها عليه لاحقا حتى في طريقة القاء الشعر. فقد أحب مظفر فيردي بشكل خاص، وأتذكر انه وظّف نوتات موسيقية له وكذلك لبتهوفن في عدة اناشيد وطنية ألف كلماتها بنفسه خلال وجوده في السجن او زيارته لنا في جبال كردستان عام 1973، وقد انشدناها احيانا معه في بعض المناسبات.