ثبات الهوية واسرارها

Monday 11th of February 2019 07:14:21 PM ,
العدد : 4370
الصفحة : عام ,

ناجح المعموري

ما زلت اتذكر زيارة جاك دريدا الى مصر وتقديمه محاضرة عن الوجود الطوبوغرافي لمصر ولتاريخها الحضاري وقد أثار بذلك ردود فعل قوية في الوسط الثقافي والاكاديمي ونشبت حملة مضادة حتى بعد سفره لأنه اشار الى ان مصر هي اللا توحد ومصطلحه هذا مستوعب لنظريته حول التفكيك، لأنه يرى الاشياء الصلبة اكثر وضوحاً عند خلخلتها وتفكيكها (تقويضها) فيحقق بذلك تحويل الكتلة الكبرى الى اجزاء صغرى والهدف من وراء ذلك واضح ولا يحتاج الى رسائل مساعدة لتقريب للمعنى بهذا الموضوع . واذا عدنا الى مصر المتنوعة فأنا بهدوء وعقلانية سنجد بانها متعددة فعلاً ، اذا تعاملنا مع جغرافية مصر حيث تمظهر امتدادها هائلاً وايضا اذا اعتمدنا المعيار الثقافي ، فان الوجود المصري أكثر اتساعاً وعمقاً . لأن الثقافي المصري والفني لا حدود له ، وامتدد كثيراً الى خارج الجغرافية المصرية وكان لها تواجد مهم في عديد من دول العالم المجاورة لها .

واذا ذهبنا ابعد من ذلك ، نستطيع ان نقول ان الثقافة المصرية مساهم جوهري وبالغ الاهمية في تكوين شخصية الفرد العربي ورسم ملامحه الذاتية لا بل التحقق اكثر دقة ، لان الهويات الخاصة بالجماعات ، المتنوعة والعربية هو من نتاج الثقافة المصرية . واستطيع أن أقول بأن مصر هي أكثر من واحدة ، بمعنى تنوع وتعدد حضور . وهذا الرأي الذي ذهبت اليه ، لا أقصد منه هدف تقويضي أو الاشارة الى وجود الى اكثر من مركز كما تفضي لذلك اراء التفكيكين . بل ينطوي هذا الرأي على حماس وتمجيد لأهمية مصر وحضارتها وتنوعاتها الثقافية والفنية وقال د. عبد الوهاب المسيري : اذا كانت مصر بالفعل ذات هويات متعددة متتابعة ، ألا يعني أن مصر لا هوية لها أصلا ، او انها ذات هويات زائلة متتابعة ، او انه يمكنها ان تكتسب اية هوية فقد تقترحها علينا اسرائيل بتشجيع من البيت الابيض وبمساندة البنتاجون " مثل هوية الشرق اوسطية على سبيل المثال " .
وكأن هوية مصر بلا مدلول أو كأنها دال يتراقص لأنه سقط في قبضة الصيرورة وشبكة الاختلاف والارجاء ؟ ما معنى ان تكون لبلد ما هويات متعددة ومختلفة . وجوهر مفهوم الهوية هو مجموعة من السمات التي تتشكل عبر التاريخ ، وتعبر عن نفسها من خلال انساق حضارية واخلاقية وسياسية وفلسفية واقتصادية تتسم بقدر من الثبات ، رغم كل ما يعتريها من تغير مثلما قال / د. عبدالوهاب المسيري
وما ذهبت أنا إليه من اتساع وامتداد الحضارة المصرية وثقافتها ، متأت من إتساع الفضاء الذي تتمتع به ويميزها عن غيرها والسبب الأعمق في حصول ذلك هو العقل التواصلي الذي اشار له هابرماس وجعله معياراً مركزياً في تعامله مع الجماعات والشعوب وهو يمثل القاسم المماثل بين الثقافات والفنون . وهذا متأت ايضا من التنوع والتعدد . وقال د. فتحي التريكي : إن العقل التواصلي في صبغته الكونية والاجتماعية قد لا يكفي أيضا ليكون هناك حقيقة تحاور بين الثقافات واتصال متواصل يصل الى مستوى الكوني المهم هو الاعتراف بالكثرة والتنوع في الثقافة والأفكار . وفي نمط العيش الاجتماعي للأفراد والمجتمعات . ففي هذا الاعتراف الحقيقي يكمن التحول من معقولية الغلبة الى معقولية الحوار ، ولكنه لا يكفي ، لأن حق الكثرة وحق الاختلاف قد يتحولا أيضاً الى نوع من الاستبداد .
وعودة مرة أخرى للهوية / الهويات المصرية ، لابد من الاشارة الى ان هذه الثقافات ذات وجود وحضور مكين ، ينطوي على عناصر مقاومة وبقوة . وهذا ما كشفت عنه عناصرها الصلبة ابان حكم الاخوان والثورة الشعبية ، لان هذه الهوية / الهويات استطاعت عبر تاريخها الطويل الى تنشيط ثقافتها عبر التداول اليومي . وجعلت منها حضوراً متميزاً بملمح عالمي وهذا أمر لا شك فيه ، لأن مصر تتمتع بأصول حضارية عميقة جداً . وبودي الإشارة لملاحظة مهمة تضيء ظاهرة الجدل والصراع بين الثقافات العديدة والمتنوعة وهو ما قاله صموئيل هانتغتون في كتابه حول صدام الحضارات وكيفية تمكن الحضارات من تنظيم وجودها ، والتشارك بالصراع ، لان الهويات لا يمكن ان تأخذ غير هذه الصيغة التوترية وان محرك التاريخ يكمن في صراع الهويات وتفعيلها لمزاولة العنف المادي والمعنوي ضد الاخر ، استهدافاً لثقافته وتقاليده وهذا هو أخطر ما تعيشه الهوية / الهويات عندما تذهب باتجاه العنف والقسوة التي تؤدي الى نوع من الطرد المباشر أو الاحساس بالاندحار والاحباط الذي دائماً ما يتحول الى ما يشبه الطرد للجماعات التي قاومت تعميق التباين وتحفيز الافراد والجماعات لمقاومة التجاور بين الهويات .
واكد د. فتحي التريكي على فهمه الموضوعي لإشكالية الهويات في صراعها المتوتر وان التاريخ كان صراع هويات . لذا أشار الى التناظر والتناسق بين الهوية والعقل في صيغته المنفتحة والكونية في الآن نفسه . وهو فهم ياخذ بعين الاعتبار ثوابت الوجود ومتغيراته ويفتح الوجود على الحياة بتغيراتها ومفاجأتها ونضالها وتوتراتها . فالذات في هذا الفهم مؤسسة للعقل وللوعي المتحرك والمتواصل أي إنها تتحدد بتاريخيتها / ن . م ص 1،2//