دليل علمي جديد بشأن الدور الأميركي للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم

Saturday 16th of February 2019 06:29:53 PM ,
العدد : 4373
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. لاهاي عبد الحسين

بقي موضوع التدخل الأميركي الأمني المخابراتي للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم وإستيلاء البعثيين على مقاليد السلطة في العراق رهن التوقعات والتصورات والإستدلالات والتكهنات المستفيضة، بدرجة كبيرة. ومنذ ذلك الحين حتى الآن لا زال الموضوع يثير تساؤلات كثيرة ويبعث على التأمل في حقبة مهمة من تاريخ العراق الحديث. 

وقد نشرت منتصف عام 2013 على مواقع الإنترنيت رسالة ماجستير للباحث الأميركي وليام جي زيمان حملت عنوان "التدخل الأميركي الخفي في العراق للفترة من 1958 – 1963: أصول تغيير النظام المدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في العراق الحديث"، والتي حصل الباحث بموجبها على شهادة الماجستير (MA) من قسم التاريخ بجامعة البوليتيكنيك لولاية كاليفورنيا، بومونا عام 2006، نعرض لأهم ما جاء فيها لأهميتها التاريخية والسياسية.
منهجياً، إعتمدت الرسالة طريقة السيرة التاريخية لتعقب ما جرى في العراق خلال الفترة الزمنية المحددة. كما أستخدمت طريقة التاريخ الشفوي التي تقوم على مقابلات شخصية مباشرة وجهاً لوجه مع أشخاص يعتبرون ذوي أهمية إستثنائية في العمل العلمي المعني. تقع الرسالة في عدد من الفصول تضمنت السيرة التاريخية للتدخل الخفي الأميركي في العراق للفترة 1958 – 1963 ورد فعل الولايات المتحدة على ثورة 1958 والقلق المتنامي حول صعود الشيوعية في العراق ومحاولة الإغتيال واتصالات الـ سي آي أي مع البعث والتدخل الخفي للولايات المتحدة قبل الإنقلاب وبعده. كما تضمنت عدداً من الوثائق وبلغ عدد الهوامش فيها (219) هامشاً بضمنها إشارات إلى أسماء أشخاص تمت مقابلتهم أو تمّ الحصول من خلالهم على بيانات تهم الرسالة. وبلغ عدد المصادر العلمية فيها (97) مصدراً متنوعاً شملت كتباً وبحوثاً ومقالات أو رسائل علمية وما إليها. إستعانت الرسالة بوثائق مهمة تمّ إيداعها في المكتبات الرئاسية وتلك الصادرة عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. كما وثقت الدراسة مساعي الـ سي آي أي الحثيثة لقمع المعرفة ومنع تداول المعلومات بشأن مساعيها للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم لأسباب متعددة لعل من أهمها التغطية على دور البعث في القضية والذي كان قد قدم نفسه في المجتمع العربي والعراقي على أنّه تنظيم قومي يدعم القضية الفلسطينية ويعادي الغرب.
تكمن أهمية الرسالة بتقديمها دليلاً علمياً يقرب من القطع إلى أنّ إنقلاب شباط 1963 إنّما هو إنقلاب أمريكي، بإمتياز. إلا أنّ الرسالة تصف التدخل الأمريكي في العراق آنذاك بأنّه كان على مستوى أقل مما حدث في إيران عام 1953 أو تشيلي عام 1973. وتؤكد على أنّ الـ سي آي أي لم تعتمد في تدخلاتها المعادية للعراق في حينها على جهود عناصرها الأمنية وحزب البعث في العراق الذي كان يناصب قاسم العداء فحسب وإنّما إعتمدت كذلك على العناصر المعادية الأخرى لقاسم ولها -على ما يظهر- في المنطقة وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة. ويتضح من خلال هذا أنّ الـ سي آي أي تلاعبت بالأوضاع الإقليمية والدولية بما يخدم مصالحها واستخدمت طريقة الكل ضدّ الكل وبما يمكنّها من البقاء في الكفة الراجحة للميزان.
من جانب آخر، تسلط الرسالة الضوء على المواقف المترددة والمنحازة بصورة جلية لنخبة معروفة من الأكاديميين الأميركان والعراقيين على حد سواء ممن ساهموا بطمس الحقيقة، أو في الأقل، التغاضي عنها مما يطرح قضيتي الحياد العلمي والموضوعية على المحك من جديد. فقد نشر وليام بلم عام 1986، حسبما جاء في الرسالة كتاباً بعنوان "الـ سي آي أي: التاريخ المنسي"، وحُدّث الكتاب ونشر فيما بعد عام 1995 بعنوان، "قتل الأمل: الوجود العسكري الأميركي وتدخلات الـ سي آي أي منذ الحرب العالمية الثانية". على الرغم من أنّ بلم كان كاتباً مطلعاً بحكم كونه مسؤولاً رسمياً في وزارة الخارجية الأمريكية لفترة طويلة آنذاك وأنّه وصف في الغالب بكونه كاتباً موسوعياً وأنّه ترك الوظيفة إحتجاجاً على سياسات الولايات المتحدة في فيتنام إلا أنّ العراق غاب في كتابه الذي غطى فيه (55) بلداً شهد تدخلات محددة. ويتساءل الباحث عما إذا كان السبب في غياب العراق هذا عن ميدان التغطية عدم وجود تدخل حقيقي أم أنّ الدليل كان مغطى بصورة متقنة! ويلاحظ الباحث أنّ كتاب كامل أبو جابر خريج جامعة برنستون ومستشار الملك حسين لفترة طويلة الذي جاء بعنوان، "حزب البعث العربي الإشتراكي: التاريخ، الأيديولوجيا والتنظيم"، لم يُشَر البتة إلى أعمال العنف والتعذيب الشرسة التي راح ضحيتها بداية فترة الإنقلاب فقط ما يقدر بخمسة آلاف عراقي وعراقية بإسم تصفية عناصر الحزب الشيوعي العراقي والقضاء على الشيوعية في العراق. وصوّر جون ديفلن إنقلاب شباط 1963 على أنّه شأن داخلي محض في كتابه الموسوم، "حزب البعث: تاريخ من البداية حتى 1966". وكذلك فعلت كرستين هيلمز موس في كتابها الموسوم، "العراق: الجناح الشرقي للعالم العربي"، الذي ترجم في العراق منتصف الثمانينيات من الإنكليزية إلى العربية بتوجيه مباشر من صدام حسين في حينها. وتؤكد رسالة زيمان إلى أنّ موس كانت تعمل باحثة في معهد بروكنجز إضافة إلى عملها كمستشارة للبيت الأبيض والبنتاغون خلال حرب الخليج 1990 – 1991. وفقاً للرسالة وبحسب صحيفة النيويورك تايمز كانت موس وراء نصيحة الولايات المتحدة بالسماح لصدام حسين بضرب الشيعة والكرد في العراق على إفتراض أنّ ذلك سيؤدي إلى حدوث إنقلاب عسكري فيما بعد للإطاحة به وبذلك تتفادى الولايات المتحدة كلفة الدخول في حرب مباشرة ضده. ويعلق الباحث أنّ موس كانت تأخذ - على ما يبدو - ما تسمعه من كبار المسؤولين بدون نقد أو محاججة مما أوقعها بمثل تلكم الأخطاء الكبيرة. وهناك المؤرخة الأميركية الأكاديمية المعروفة فيب مار التي نشرت كتاباً بعنوان، "التاريخ الحديث للعراق"، عام 1985 غطت فيه فترة (65) سنة من تاريخ العراق الحديث في (300) صفحة دون الإشارة إلى إنقلاب 1963، البتة. ويشير الباحث إلى أنّ مار عملت في معهد السلام الأميركي المعروف بصداقته للصهيونية واسرائيل مما يسلط ضوءاً على مبررات هذا التجاهل المقصود، دون أدنى شك. وتشير الرسالة إلى كتّاب عراقيين وعرب منهم مجيد قدوري الذي ذكر إنقلاب 1963 بالتفاصيل الدقيقة في كتابه الموسوم، "العراق الإشتراكي: دراسة في السياسة العراقية منذ عام 1968"، دون الإشارة أو حتى مجرد التعبير عن الشك بالتدخل الأميركي. إلا أنّ الرسالة تلاحظ أنّ قدوري عمل أستاذاً في مركز دراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية العليا في جامعة جون هوبكنز حيث تخصص في الشأن العراقي والقانون الإسلامي مما يفسر إمتناعه عن الدخول في هكذا قضية. وهناك صاحب السيرة الذاتية الرسمية لصدام حسين الكاتب أمير أسكندر الذي وضع كتاباً جاء بعنوان، "صدام حسين: المقاتل والمفكر والرجل"، وهو الكتاب الذي خلا هو الآخر من أي تقييم موضوعي علمي لما عصف بالعراق في تلك الفترة.
وفقاً للرسالة، بلغ الحضور الشعبي للشيوعيين ذروته عام 1959 مما بعث القلق لدى الإدارة الأميركية التي بحثت على الفور في عدد من الخيارات منها "غزو العراق لتخليصه من الشيوعية". كما شكلت لجنة خاصة لدراسة تطورات الوضع في العراق مهمتها رسم الخطط اللازمة لمجابهة التنامي الشيوعي في البلاد. وإستمرت اللجنة بعملها لسنوات بعد تشكيلها. من جانب آخر كان للهلع الذي أصاب الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم عشية مسيرة الأول من أيار من ذلك العام (1959) أنْ أدى به إلى مقاومة ضغط الشيوعيين لتعيين أعضاء جدد من الحزب في الكابينة الحكومية والعمل على الحد من نفوذهم الجماهيري. درست الإدارة الأميركية هذه التطورات على مستوى الداخل العراقي مما حقق درجة من الإرتخاء أدت بها إلى إعتماد سياسة الضغط على الزعيم قاسم بصورة غير مباشرة عن طريق جمال عبد الناصر ومن خلال الإتصالات المباشرة بينهما بصيغة الحليفين. فقد كان ناصر يناصب الشيوعيين وقاسم العداء على حد سواء مما صنع منه من وجهة النظر الأميركية أداة طيّعة لضرب الهدفين في آن واحد. رصد الأميركيون في هذه الأثناء الميول المعادية للشيوعية لدى البعث مما أدى بهم إلى إعتباره "القوة السياسية للمستقبل" والسلاح المناسب والحل الوسط البديل بين قاسم والشيوعيين من جهة والقومية العربية لناصر من جهة أخرى. وأستيقظ القلق الأميركي بقوة عشية قيام عبد الكريم قاسم بالتهديد بإحتلال الكويت عام 1961 مما أدى إلى إتخاذ قرارات حاسمة للتخلص من حكم الزعيم الوطني مرة واحدة وإلى الأبد عن طريق إقامة تحالفات واضحة مع ناصر والبعث بهدف القضاء على حكم قاسم. وهذا ما كان. كما زودت الـ سي آي أي النظام الإنقلابي الجديد قوائم بأسماء الشيوعيين المطلوب تصفيتهم بعناوينهم الدقيقة والتي أذيعت من قبل إذاعة الكويت في حينها شملت مختلف الفئات الاجتماعية من رجال ونساء وحتى نساء حوامل إضافة إلى المشتغلين في مختلف المهن بما فيهم الطلبة والمهندسين والأطباء والمدرسين والمعلمين والفنانين والأدباء والكتّاب وغيرهم. دعمت الرسالة كل ما ذكر بالدليل والحجة المكتوبة أو المنقولة شفاهة عن ألسن أشخاص معروفين يمكن التحقق منهم والتأكد من صحة ودقة ما صرحوا به.