نافذة من موسكو..دولة بوتين مديدة العمر، ودولة العراق المأزومة!

Sunday 17th of February 2019 07:40:38 PM ,
العدد : 4374
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. فالح الحمـراني     

وراء بناء كل دولة يقف رجل عظيم. ولكني لا استطيع أن اسمي زعيماً عراقياً في تاريخ بلدنا الحديث بالبطل الوطني الذي وقف وراء بناء دولة العراق الحديثة، المتطورة صناعياً وزراعياً والقوية للدفاع عن حدودها وسلامة سكانها، وتشغل موقعا إقليميا لائقا ولها علاقات جوار حسنة....بل ارصد إن العراق مطعون بسيادته الوطنية واستقلاله منذ عقود، وزاد الساسة، الذي وصولوا للحكم بعد 2003 ، الطين بلة، وزجوا البلد في نفق الحروب الطائفية/ المذهبية/ القومية وأقاموا نظاماً مشوهاً تأمينا لمصالحهم الضيقة أو لعدم كفاءتهم واستمراريتهم في انتهاج سياسة الحكام السابقين، نظاماً لا يليق بدولة تعيش في القرن الواحد العشرين.
ومن بين الرجال الذين وقفوا وراء بناء دولهم في العصر الحديث: محمد مهاتير وراء ماليزيا الحديثة ولي كوان وراء نهضة سنغافورا ناهيك عن رجال مثل شارل ديغول في فرنسا وكمال اتاتورك لتركيا الحديثة، ماو تسي تونغ وخليفته دينج هسياو ينج” الأب الروحي للنهضة الحديثة في الصين وغيرهم وغيرهم... والان يقف فلاديمير بوتين وراء بناء روسيا التي أخرجها موحدة وقوية ومعافاة، من انقاض الاتحاد السوفياتي وتداعيات انهياراته المميتة.
أثارت لدي تلك الأفكار المقالة المطولة التي نشرها فلاديسلاف سوركوف الذي يشغل حالياً منصب مساعد الرئيس الروسي، ويعتبر العقل المدبر للانتصارات الانتخابية المتوالية للرئيس بوتين، عبر ستراتيجيته التي أثارت جدلاً والمعروفة ب"الديمقراطية الموجهة". ويدخل بين أشهر 100 مفكر دولي حسب تقدير مجلة Foreign Policy الأميركية. وكان لمقالة سوركوف التي جاءت بعنوان "دولة بوتين المديدة" التي نشرتها صحيفة " نيزافيسيمايا غازيتا" صدى واسعاً في الدوائر الروسية، وردود فعل متباينة إلى حد كبير. إن المقالة فعلاً مثيرة بتقويمها وتقديراتها السياسية سواء على الصعيد المحلي أم في البعد العالمي. وهذا منطقي فعالم اليوم متداخل ومترابط ، لحد أن الجميع يواجهون مشاكل وتحديات متشابهة، ولكن الحلول قد تكون خصوصية. لذلك فمن المفيد أن يلتفت الساسة في العراق إلى بعض الجوانب الهامة السياسة التي انتهجها بوتين وفريقه في استعادة حيوية روسيا وانعاش اقتصادها وجمعها في كيان فيدرالي فاعل، وضمان أمنها القومي، وصمودها أمام تحديات العقوبات الغربية والتهديدات المستمرة، وحتى نجاحها لحد ما في الحيلولة دون تدمير وتفكيك الدولة السورية للنهاية.
يرى سوركوف إن روسيا في إطار نهج بوتين كفت عن التفكك وبدأت باستعادة نفسها وعادت إلى وضعها الطبيعي والممكن كدولة عظمى، وسعت وجمعت أراضي شعبها. موضحا بان روسيا في التاريخ العالمي، لا يمكن أن تنسحب من خشبة المسرح الدولية أو والتزام الصمت بين الحشود، ولا يعد بالهدوء ويحدد الطابع غير السهل للدولة شكلها الحالي.
ووفقاً لسوركوف فان الدولة الروسية ستستمر، وإنها الآن دولة من نوع جديد، لم يكن لها مثيل في تاريخ روسيا السابق، وانها أخذت تتشكل مع حلول القرن الواحد والعشرين، ولكنها لم تُدرس بعد للحد الكافي. وتتضح خصوصيتها وقدرتها على البقاء والاستمرار. ويضيف أن مثل هذا النموذج من البنية السياسية الذي تم تشكيله بشكل عضوي سيكون وسيلة فعالة للبقاء على قيد الحياة ورفع شأن الأمة الروسية ليس للسنوات التالية فقط، بل أيضا لعقود، وربما للقرن الحالي بأكمله.
ولكن ساسة العراق الجدد أخفقوا في بناء عراق نموذجي بعد انهيار الديكتاتورية، يأخذ خصوصيته وتكوينه العرقي والديني وتفجير طاقاته البشرية والاقتصادية، وتوظيفها لتصب في صالح الإنسان وتوفير الحياة الكريمة لها. و " مأثرتهم!" إنهم جروا العراق إلى منحدر التشرذم والتفكك وتعميق الخلافات المذهبية، وإذكاء مشاكل الماضي، وتجاهل مقتضيات وتحديات الحاضر والمستقبل.
ويقول سوركوف إن التاريخ الروسي معروف بأربعة نماذج رئيسية للدولة، التي يطلق عليه عادة بأسماء مبدعيها : ولاية إيفان الثالث ( القرن الخامس ـ السابع عشر) ودولة بطرس الأكبر ( القرن الثامن عشر ـ التاسع عشر) ودولة لينين ( الاتحاد السوفياتي ـ القرن العشرين) ودولة بوتين ( الأتحاد الروسي، القرن الواحد والعشرين). وان هذه الماكنة السياسية الكبيرة، استبدلت بعضها البعض، وتعدلت وتكيفت في المسار التاريخي، قرناً بعد آخر ضمنت للعالم الروسي حركة عنيدة تصاعدية.
وحسب تقويم سركوف أن ماكنة بوتين السياسية الكبيرة بدأت توا تكتسب زخماً لمدى طويل، وللعمل المثمر الصعب الطويل. وإن قدرتها ستمتد لمدى زمني طويل، حتى بعد مرور عدة سنوات ستبقى روسيا دولة بوتين، على غرار إن فرنسا الحديثة لحد الآن تسمى نفسها جمهورية ديغول الخامسة، وتركيا ( على الرغم من السلطة هناك مناهضة للاتاتوركية) وكالسابق تعتمد على ايديولوجية اتتاتورك، والولايات المتحدة تتعامل مع صور وقيم الآباء المؤسسين شبه الأسطوريين.
وقال إن " البوتنية " وأفكارها ومعايرها هي ايديولوجية المستقبل،. لأن بوتين الحقيقي لحد ما ليس "بوتينياً"، كما إن كارل ماركس لم يعتبر نفسه ماركسياً، منوهاً إن الساسة، في إشارة إلى الغربيين ينسبون لروسيا التدخل في الانتخابات والاستفتاءات في جميع أنحاء العالم. وفي الحقيقة، كما يقول، إن القضية أكثر خطورة : إن روسيا تتدخل في عقولهم، وهم لا يعرفون، ما العمل مع التغيرات التي طرأت على وعيهم. موضحاً إن روسيا ومنذ التسعينيات الفاشلة تخلت عن استعارة الايديولوجيات، وبدأت بنفسها تنتج الأفكار وان الخبراء الأميركيون غالباً ما يخطئون في التوقعات والتنبؤات. وبعد أن ارتبكوا، أعلنوا عن غزو الشعبيوية للسياسة العالمية، وهناك فعلا ظاهرة جديدة، ولكنهم اختاروا لها مصطلحاً غير دقيق.
وقال إن موسكو عارضت تمجيد العولمة وطروحات انتهاء سيادة الدول ومحو الحدود بينها ولم تعد أية أهمية للمصالح الوطنية، مشيراً إلى أن التطورات في القرن الواحد برهنت على صحة المواقف الروسية بهذا الصدد، والدليل على ذلك هو خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبي، وبناء الأسوار على حدود الدول الأوروبية لمواجهة موجات الهجرة.
إن النظام " البوتيني" لا يقوم على "حكومة داخل حكومة" أو ما يسمى " بالحكومة في العمق " كما في الكثير من الدول، وإنما يستند على الشعب، وفهم تطلعاته وحاجاته والعمل بجد على تلبيتها، وإنها تحظى بدعم شعبي والأهم من ذلك ثقة الجماهير بزعيمها، وأخذا بالوضع الدولي المترتب في مقدمة الألويات، للدفاع عن الدولة وأمنها ومستقبلها. وتشمل البوتنية أيضاً انفتاح الزعيم وتواصله مع المجتمع، وحينما تحول البيروقراطية والفساد على وضع العراقيل أمام هذا التواصل، فانه يلجأ للتواصل المباشر مع المجتمع.