منطلقات إنسانية للمثقف الجديد

Saturday 23rd of February 2019 07:44:48 PM ,
العدد : 4378
الصفحة : عام ,

ياسين طه حافظ

في السنوات الأخيرة صارت تشغلني تساؤلات عن بعض ما قمنا به وما نقوم به أو نفعله اليوم. ربما كان هذا بسبب شعور مكين بأننا أضعنا الكثير من وقتنا وجهدنا فيما لا يجدي أو في الطريق الخطأ.
من هذه إننا تحمسنا، أفرطنا في الحماسة، لنظريات وأفكار واختصمنا بسببها ظانين أزليتها ووحدانية صوابها. وهذه أثبتت من بعد ضعفها أو ضعف بعض منها أو حتى خطأ بعض ركائزها، وأحياناً لا جدواها.

كان هذا في الأدب ونظرياته النقدية وفي الفنون وفي الفكر الاجتماعي كما فيما لدينا من معلومات ومعارف عن الكون.
أولا ليس للتطور، أي تطور، خط واحد وهذا ما تاكد لنا أولاً في تاريخ الأدب ونظرياته كما في تطور الثقافات والمجتمعات. وتأكد لنا ثانياً ألا سلالات بشرية نقية، وبالتالي لا انتساب نهائي، فقد تكون ورثت ما لم تدر به من سلالات آخر في قارة أو قارات أخرى. والرأي باقتران التغيرات المقدرة سلفاً في التنظيم الاجتماعي والسياسي، بالتقديرات المقدرة سلفاً بالتكنولوجيا والدين والفن ...، هذا رأي أعقبه سواه يخالفه وقال إن مختلف فروع الثقافة واهنة الترابط وهي قابلة للتغير المتشعب والمتنوع .. كما أنها أكثر استجابة لظروف البيئة بما في ذلك انتشارها من جماعات إلى أخرى.
عموماً، لسنا بصدد تخطئة الأول وتزكية الثاني ولكن نقول، وفي جميع الحالات، بوجود صواب في كل منها، ووجود ما نتحفظ من الإقرار بصوابه.
هذا المنطلق ينفعنا علمياً وأخلاقياً. علمياً إن النظريات تتعدل أو تتطور أو تستبدل مع تقدم المعرفة والعلوم. قدسية القمر، بعيداً ومضيئاً، ليست هي حين داس الإنسان بقدميه على حجارته. قل مثل هذا في القصائد وفي نظريات الأدب والنقد والفنون وما كان من آراء وأفكار في العلوم وفي الفكر السياسي والاقتصاد.
عبارة "في الفكر السياسي" تشير أو تقربنا إلى أن أثر الملكية والنظام الاجتماعي وفي الثقافة السياسة. واضح إنها مناقضة لما كان في الكتب المقدسة بين تطور الإنسان من خلق آدم و بين تطور المجتمعات من بدايات "بدائية". وهذا هو أساس الفرق بين هيجل والكتاب المقدس أو الكتب المقدسة.
إن امتدادات الداروينية أمدّت الاشتراكيين بقوة المنطلق إلى الكلام عن أصل العائلة والتطور الاجتماعي ونشاط أو أنشطة الملكية. وأية نظرية عامة لا نعدم تأثيرها في التطور الثقافي. وراء التطورات الثقافية تطور نظريات وفلسفات، والنظريات مستمرة كما نعلم والمعرفة بازدياد ولها مفاجآت. فهل بعد من عذر للتشدد واليباس، بل الاحتراب بينما الأفكار تتغير والآفاق، تتجدد وتتسع؟ اعتقد بان التشدد والانغلاق ما عادا صفتين محبذتين، وليس لهما أساس علمي..
وإذا كانت الظواهر نتاج مجتمعات تتقدم معرفياً فلابد في حال كهذه أن يكون كل تطور، لا كل تغير، تطوراً تقدمياً. وكل تطور تقني أيضاً. وهنا يصير الترحيب، لا البغضاء، مطلوباً بكل نظرية جديدة تدفع إلى التطور في جانب من جوانب حياتنا الإنسانية. نعمة هي أن الحضارة التي تضاعف أنواع قدراتنا مع تضاعف مهامنا. هذه الحضارة تعوضنا بأنماط من الجمال جديدة وبأحسيس بمتع جديدة وبآفاق للحياة جديدة لأرواحنا في أزمنة تزيد فيها مواجهاتنا للمتاعب والمعوقات. أحد المفكرين قال: إن للآلات صفات جمالية! هي رؤية الإنسان أوجدت جمالاً جديداً فيما كان أولاً صادماً ومنفراً. ولم يبق الرومانسيون بلا واقعيتهم، الرومانسيون الجدد وجدوا جمالات في الحياة الجديدة. وهنا يتوجب التذكير بأن سبنسر هو أيضاً أكد على الجوانب الاجتماعية في المتع الجمالية، لاسيما بالنسبة لوظيفة الشعر والموسيقى. وأنت إذا أردت أن تكتشف أسباب انحطاط وفناء أمة، فابحث عما يسهم في تفتيت الانسجام والإرباك و الإضرار بجماليات الحياة، فناً وواقعاً، وعن احتكار الحرية والثروة فيها..
لا أرى ضرورة للتوسع في عبارتي الأخيرة ما دمت أخاطب مثقفين. لكن أي مصادرة لحرية تفكير أو حرية معتقد أو حرية إبداع، هي عمل شائن. غالباً ما تكون المستجدات دلائل تقدم أو تحول إلى مرحلة تقدم . المعرفة والتطبيق هما اللذان يقرران الصواب الأخير. ليس سواهما حكَماً عدلاً.
أما الاحتجاج بأن فنانين ومفكرين لجأوا للقديم، فتفسير ذلك أنهم رأوا بعضاً مفيداً فاتهم، بيكاسو الفنان، الرسام والنحات، انتبه إلى مزايا الفن الأفريقي لكنه لم يبقها أفريقية. وضعها ضمن خط تطوره. وهذا هو المعنى الحقيقي للعبارة المُساء فهمها "الإفادة من التراث". وهو هذا ما يجعلنا نفيد من لحن قديم أو شعر قديم أو أسلوب في الري أو البناء.
العبقرية البشرية تعمل في كل العصور. وفيها كما في الحاضر وفي المستقبل، أفكار ونظريات وأساليب عمل وتقنيات مهمة ومفيدة. مصادرة العقل البشري مثل مصادرة حركات التحرر، أمور أقل ما توصف به إنها شائنة وليست في صالح المجتمعات ومستقبلها.
إن ثقافة منفتحة وسماحة أخلاقية وإيمان حقيقي بحرية الإنسان، صفات أولى لثقافة إنسانية. كل المجالات التي ذكرناها تسهم معاً، وبطريقة عضوية، في بناء الحقيقة الروحية للإنسان الجديد الذي يليق حضوره بعصرنا المتقدم والذي يتقدم . ليس معقولاً أبداً أن نظل نُعلي انفسَنا وافكارنا ونقلل من شأن الآخرين وافكارهم. هذا أمر اخلاقياً مرفوض وعلمياً غير صحيح واجتماعياً فيه إضرار مباشر وغير مباشر. هو أبداً لم يعد يليق بمثقف معاصر وإلا فصِلتُه بالبدائية واللاتحضر أكثر من صلته بالحياة المتمدنة ورحابة الحقول المعرفية في عالمنا الجديد اليوم.