المقالة الأدبية.. معناها وشروطها

Tuesday 7th of May 2019 12:00:00 AM ,
العدد : 4425
الصفحة : عام ,

د. فائق مصطفى

إن ما دعاني الى كتابة هذا المقال، قراءتي كتابات كثيرة في الصحف والمجلات والكتب، تخلط بين (المقالة الأدبية) وأنواع أخرى من المقالات التي تدور على نقد الأدب أو تاريخه أو شؤونه المختلفة. وآخر هذه الكتابات كتاب الناقد، قيس كاظم الجنابي (المقالة الأدبية في العراق)* الذي دار على مقالات لا تدخل ضمن (المقالة الأدبية).

ثمة اتفاق عند عدد كبير من النقّاد على أن المقالة، على نحو عام، نوعان: المقالة الأدبية والمقالة غير الأدبية. أما النوع الأول فسمّي، فضلا عن الأدبية، المقالة الذاتية والمقالة الوجدانية والمقالة الشخصية والمقالة الإنشائية والمقالة التعبيرية والمقالة اللا منهجية والمقالة الشعرية والمقالة غير الرسمية. وأما النوع الثاني (المقالة الصحفية والفكرية التي يكتبها غير الأدباء، أو يكتبها الأدباء لأغراض نقدية أوتعليمية) فقد أطلقوا عليه المقالة الموضوعية والتعليمية والعلمية والاجتماعية والتقليدية والرسمية والمنهجية. وفي وقت مبكر ميّز أحمد أمين بين النوعين قائلاً "هنالك أنواع من المقالات يصحّ أن نسميها مقالات علمية بالمعنى الواسع، فتشمل المقالات الاجتماعية كما تشمل بحث مسألة أدبية بحثاً علمياً... وهناك نوع من المقالات هي المقالات الأدبية بالمعنى الخاص، وأعني بها الأدبيّة أدباً إنشائياً صرفاً لا أدب بحث ودرس.." (فيض الخاطر\ ج1\ 144). ونظّر زكي نجيب محمود للمقالة الأدبية قائلاً " شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقماً، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكّه الجميل... نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدّثاً لا معلّماً بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنّفه.." ( جنة العبيط \4). لكن زكي نجيب محمود، في آخر كتبه، حدّد ثلاثة شروط للمقالة الأدبية هي: 1- يجب أن يكون موضوعها وهدفها هو بيان (الإنسان) في جانب من جوانب طبيعته. على الّا يجيء ذلك بطريقة (العلوم الإنسانية) بل لا بد أن يجيء بطريق (الإبداع الأدبي). 2- يجب أن تنصبّ في (شكل) يدبّره لها كاتبها. 3- يجب أن تجيء المقالة الأدبية حاملة في سطورها شخصية كاتبها. (حصاد السنين\ 219- 221).
وفي الوقت نفسه ميّز محمد يوسف نجم بين نوعي المقالة قائلاً: " إن محكّ التمييز بينهما (بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية) هو مقدار ما يبثّه الكاتب في كل منهما من عناصر شخصيته. ففي النوع الأول تبدو شخصية الكاتب جليّة جذّابة تستهوي القارئ وتستأثر بلبّه، وعدّته في ذلك الأسلوب الأدبي الذي يشعّ بالعاطفة ويثير الانفعال ويستند الى ركائز قوية من الصور الخيالية والصنعة البيانية والعبارات الموسيقية والألفاظ القوية الجزلة. وفي النوع الثاني تستقطب عناية الكاتب، ومن ثمّ القارئ، حول موضوع معيّن يتعهد الكاتب بتجليته مستعيناً بالأسلوب العلمي الذي ييسّر له ذلك. ومن خصائص هذا الأسلوب الوضوح والدقة والقصد وتسمية الأشياء بأسمائها. ولايبيح الكاتب لشخصيته وأحلامه وعواطفه أن تطغى على الموضوع. ومن ذلك أن يضحّي بحريته في عرض أحاسيسه الخاصة في سبيل الحفاظ على حدود الموضوع ". (فن المقالة\ 96- 97).
كان الكاتب الفرنسي مونتاني الذي يعدّ الرائد الأول للمقالة الأدبية في العالم، يردّد دائماً: " إن ذاتي هي موضوع مقالاتي. أنا مونتاني أتحدث اليكم أيها الأصدقاء عن نفسي دون تكلف" يتّضح هذا مثلاً في مقالته (عن فن الحديث) يقول فيها: " إن خير مِران للعقل وأجداه في رأيي هو الحديث، وهو عندي أحبّ متعة في الحياة. ولهذا فإنّي إنْ اضطررت للاختيار في هذه اللحظة لما تردّدت في اختياري لفقدان البصر بدلاً من فقدان السمع والقدرة على الكلام. ولقد كان الأثينيون والرومان بدرجة أكبر يضعون ممارسة الحديث في مرتبة الشرف في أكاديمياتهم، والإيطاليون الى وقتنا هذا، يحتفظون ببقايا ضئيلة من هذا التقليد، ولقد أفادهم هذا فائدة كبيرة، كما يتّضح لنا حين نقارن أنفسنا بهم في الذكاء. إن دراسة الكتب عمل هزيل بطيء لا دفء فيه عكس الحديث الذي نجد فيه الثقافة والرياضة الذهنية في الوقت نفسه". (روائع المقال: هوستون بيترسون \ 10-11).
وقبل مونتاني بعدة قرون، كتب العالم والأديب البغدادي ابن الجوزي (510- 597 للهجرة) نصوصاً في كتابه (صيد الخاطر) تشبه نصوص المقالة الأدبية. لهذا عددته الرائد الأول للمقالة الأدبية، في بحثي المنشور في مجلة (الموقف الأدبي) السورية (كانون الثاني \ 2002). قال في أحد النصوص: " تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها... ثم تأملت المسلمين فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرزّاق وأعرضت بهم عن العلم الدّال عليه. فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لا سكر لها، ولا يتلقّاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوّي هوى النفس. وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض باضدادها، كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي وهزّني وقل: ما لك يا عمر؟ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله من أهدى الينا عيوبنا فأحوج الخلق الى النصائح والمواعظ السلطان. وأما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى وزينة الدنيا، وقد انضاف الى ذلك الجهل وعدم العلم فلا يؤلمهم ذنب ولا ينزعجون من لبس حرير أو شرب الخمر، حتى ربما قال بعضهم: ايش يعمل الجندي أيلبس القطن؟ ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع. وأرباب البوادي وأهل القرى قد غمرهم الجهل فلذلك كان تقلبها في الأنجاس، والتهوين لأمر الصلوات، وربما صلّت امرأة منهن قاعدة. ثم نظرت في التجار فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص حتى لا يرون وجوه الكسب كيف كانت، وصار الربا في معاملاتهم فاشيا..." (صيد الخاطر \ 45).
ومن النماذج الرصينة للمقالة الأدبية، مقالات المنظّر الأول لهذا الجنس في الأدب والنقد العربي الحديث، زكي نجيب محمود، مثل مقالة (نفوس فقيرة) يصور فيها صور الفقر النفسي، حيث يقول: " فقيرة هي النفس التي تنظر الى باطنها فتجد خواءً فتمتد الى خارجها لتقتني ما يسدّ لها ذلك الخواء، وماذا تقتني؟ تتصيد أناساً آخرين ذوي نفوس أخرى لتخضعهم لسلطانها. إنها علامة لا تخطئ في تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية- صغيراً كان أو كبيراً- فاعلم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه. إن المكتفي بنفسه لا يطغى، إن من يشعر في نفسه بثقة واطمئنان ليس في حاجة الى دعامة من سواه، وإذاً فماذا أقول؟ أأقول إن الطغيان قد امتد بجذوره في ربوع الشرق لجدب نفوس أهله. أي والله لقد ضرب الطغيان بجذوره في ربوع الشرق منذ آماد بعيدة سحيقة حتى أصبحت لفظتا الشرق والطغيان مترادفتين أو كالمترادفتين، فهما تصادفانك متجاورتين متلاصقتين في كثير من الآداب الأوروبية. لا إني أرى الكلمة على شفتيك فلا تقلها. لا تقل دهشاً أي طغيان. لا تقل إن لنا دستوراً يجعل الناس سواسية ويحرّم الطغيان، الطغيان في دمائنا. الحاكم الشرقي طاغية، والرئيس الشرقي طاغية، والوالد الشرقي طاغية، والزوج الشرقي طاغية... طغاة هؤلاء جميعا" (قصاصات الزجاج\ 254- 255). هنا نجد الذاتية والموضوع المتمثل في الإنسان، والأسلوب الممتع القائم على رصانة العبارة والتنويع فيها والتكرار، والبعد عن النزعة التعليمية... الخ.
أما المقالة الموضوعية، العلمية، التعليمية، النقدية، فنجدها مثلاً في مقالة الناقد علاء المفرجي (هل اقترب الروائي العراقي من الرواية التاريخية) نقرأ فيها "إن المفهوم المتعارف عليه للرواية التاريخية وهو الذي يشكل العامل المشترك لأغلب التعريفات عن هذا الجنس الإبداعي، إنها عمل فنّي يتخذ من التاريخ مادة للسرد، ولكن دون النقل الحرفي له حيث تحمل الرواية تصور الكاتب عن المرحلة التاريخية، وتوظيفه لهذا التصور في التعبير عن المجتمع أو الإنسان في ذلك العصر، أو التعبير عن المجتمع في العصر الذي يعيشه الروائي، ولكنه يتخذ من التاريخ ذريعة وشكلاً مغايراً للحكي.." (المدى\ 7 نيسان\ 2019). هنا لا وجود لذاتية الكاتب، وليس موضوعها الإنسان بل موضوعها الرواية التاريخية، ولا تفنّن في الأسلوب، بل أسلوب واضح غايته ايصال الكاتب ميسّراً الى القارئ.

*الكتاب، مع ذلك، جهد كبير، لكنه لا يعالج (المقالة الأدبية) بل المقالة التعليمية. وكان المفروض أن يكون عنوانه (المقالة في العراق)