عرف التسلل لليومي وابتكر شعريته

Monday 13th of May 2019 12:00:00 AM ,
العدد : 4429
الصفحة : عام ,

ناجح المعموري

- 2 -

ولن تتعطل اقتراحات الشاعر . وهذه المرّة وسط جحيمات ليهوّن على الغريب النزول ، والدخول للعالم الأسفل حيث الموت والآلهة لا تفتح منفذاً للخلاص لأن النزول إليه عماء ، وظلام والظلام رماد اسود . بمعنى استمرار صوت اللسان متردداً ،هادئاً أو صاخباً ، فهو دليل على حضور ، فالرماد لا يعطل الحياة وتجددها ، فالجحيمات لا تكف عن البعث للحياة بالمعيار الأسطوري الذي عرفته ميثيولوجيا العالم الأسفل .
كل شيء في نصوص نامق عبد ذيب متغير .. مقلوب .. مضاد ، مشاكس ، متحاب ، متعاشق ، متداخل ، قابل ، حالم ، لأن العوالي تعيد مخزونها وكل المخزونات في زمن سيادة الرماد في مكان الرماد هي السرديات ، الرموز / العلامات ، فالحياة التي تعايشت مع الرماد اختزنت علامات كبرى . حتى الرياح علامة نداء للطاقة الذكورية ، بندائها للآخر من أجل التخصيب الذي يوقظ الألم ويفجر الشهقات فالوجع الموجود ، بوصفها وجوداً لم يكن موجوداً في السابق ، الآن هو موجود ، هذا يعني الكارثة غير معيوشة ، ربما كانت بذرة صغيرة ، وتنامت وتحولت خلية ، انشطرت وصارت بالصورة التي هي عاشها الشاعر الراوي ، الذي استعر السرد لمحنته التي ثقلت على جبال جغرافية التي طرحت ما أودعته الأساطير فيها وعليها . ذاكرة السرد حادة وقوية ، رافضة النسيان وتتجداه بالاستعادة والروي بصوت مسموع ، لأن المشاركة ـــ حتى ولو مع الفراغ ــــ تعطي المرويات المسموعات طاقة خالدة ، تظل محفوظة في الخزانة السرية . قوة هذا النص بما فاض منه من ريح محملة بالرماد .
الرماد ندرة عشق المكان والولع به ، أحد الجنون لكنه مطرود وانشغل بتنظيف مرآته حتى تجلو كارثته نصوصه الشعرية وتعاود مسكنها في قلب طائر محمول الريح ، مثل قوارب الإله في سومر التي اختار واحداً فيها فقط ، طاف فيها أماكن الغربة التي لا يعرف فيها غير همهماته وترددات نصوصه القديمة التي ظلت ظافرة على لسانه وتنزلق من شفتيه لتتحول ايقاعاً مثل الذي هوست به الملائكة الارضية التي حاولت الخلاص من الخراب والدمار ولم تستطع ، فكان القارب وسيلة الشاعر ، الإله للهروب الى مكان ابتعد عن الرماد ... الباقي حاضراً وحلماً ، انه حلم صعب ومعقد والعودة مستحيلة الى مكان الرماد وارتضى النوم وسط الزمان مفتشاً عن مفردات يعشقها الكهنة واستدعاها من قبل مولانا الرومي . إنه ـــــ الراوي ـــــ السارد ممتحن قرأ كثيراً عن الكارثة وعاشها ، واستمع لما لم يعرفه جيداً ، واكتفى بكل شيء . لكنه لم يكف عن الاستذكار فظل يتقلب في الزمان ويكرر ذلك لانه يريد ذلك ، وحدده بزمن مفتوح ، ضائعاً يتقلب في السنوات باحثاً عن الأبدية . لأنه متماثلة مع العصيّ من أحلامه ، واحتفظ بالرماد لأن الأسطورة حاضنة وتجلياتها مروية أبدية . إلا أن مرويته غائبة ، والنص بوصفه حلماً تمثيلاً لكل ما يريده في دنياه . واينما ذهب منفياً وضائعاً وموجوداً ، فإنه يشم رائحة الرماد ، فهي الروح الفردية ، والجمعية التائهة في جغرافيات العالم ، يا لها من قسوة وعنف ، ضاعت أماكنه ، وذهبت اليه صورة يطوف معها الرماد الذي قاوم قدرة الماء على الازالة والاكتساح .. الرماد الروح ، الذي تكرر مراراً مشحوناً بالقهر والحزن بالتماثل مع طين لم تنزل له السماء حلماً وضاعت صورة الطين وبقت سرديات البدء الأول وانقطع كل شيء بين الغريب ورماده البعيد فلا رسائل ، إنها محنة الإنسان المعاصر وامتحانه
ما لي كلما اغتربت روحي
أحدق في السماء
باحثاً عن طيور عابرة ..
ما للرياح تأخذني
الى غيومها
فتورطني هناك / 107
الروح حاضرة وايقاعها راجف في كلمات الشاعر تلاحقه ، كلما تذكر عربته وطفح به الحنين للروح الاولى الرماد . وروح الشاعر ضائعة ، تلوذ بالسماء عند التحديق بها نوع من التوسل الصوفي والابتهال العرفاني الهادئ ، لكنه يداعب حقائقه المخترقة بالشعر ، وتظل صداقته بالسماء ، لعله يرى طيوراً هاربة أو يلتقط واحداً منها ، وهي تهج عابرة الى أين ظ لا أحد يدري ، حتى الراوي عند ابتكاره لسردياته المأساوية التي لم تعقد شفافيتها ، ويلوح بإيقاعات الشعر المكتوب الرماد / والروح المطاوعة لأسطورة الريح ، التي أراد لها حلماً ، حتى تأخذه عالياً ويتجاور مع السماء ورقة مبكرة ، سجل الشاعر الأول عليها أسطورة البدء والتكوين ، هو نائم تحت الغيوم ، لكنه ترك بين السماء والأرض صور الذين اغترب عنهم وتركهم عند الرماد ، المضيّع هناك .
هذا النص منكشف ، يسلم لنا معناه ، إنه أمر جميل أن يبتص الشعر حميماً في نصوص الشاعر المبدع نامق عبد ذيب ، لكن خاتمة هذا النص راجفة باستفسار ، لأن الشاعر / الغريب في مكان غربة أخرى ، غربة السماء وتحت الغيوم ويتورط هناك . التطهر هو الورطة بعد أن يبتل بزخ مطرها . هذا نص استعاد صور الأشياء الأولى التي تعرف عليها الشاعر زمن طفولته . التقطها ، تخيّلات ، أوهام ، مرويات صبايا ونساء وعجائز ، حكايات المساء الشتائي ، لا شيء يثير السعادة لدى النسوة أكثر من الغيم والمطر .
للرماد عطره ، لكنه متشرف بلونه ، فلحظة أتية سيكون فيها كنية أخرى ، الكل تراه ولكن قلة من يعرفه ويقترب من دلالته ، إنها المضاد القوي للمغترب المكاني ، ولصفة الغريب المطرود الحالم باقتراب العودة الى رماد الروح الذي لا تقوى الريح على مسّه كما قال جلال الدين الرومي .
الراوي ملتقط يوميات جعلت منه حزيناً ، ومحبطاً ، مفارقاً ، وسيلته الوحيدة الاستدعاء والحلم ، وذهب الى اكثر من ذلك لقد تخيّل نوعاً من الاتصال معه ، منتظراّ صوتاً سيأتيه في لحظة من الزمن صعب ، وثقيل ، لكنه لا يريد الشكوك بمن أحب وانتظر منه رسالة ، فربما الحمام هو الذي " أضاع رسائله " سقطت ربما أو أسلمها لغيره ، هذه محنة الكائن المضطرب ، الوجودي المتشائم منح نصه المثير " كأن الحمام أضاع الرسائل " بكلام هو الأقوى إثارة بما عرفه العراقيون وتحوّل أغنية لهم " مرددة لحظية " لا خبر.. هذه هي المحنة والضياع وسط انتظار مريب :
ما لي كلما اغتربت روحي
أحدق في السماء
باحثاً عن طيور عابرة ..
ما للرياح تأخذني
الى غيومها
فتورطني هناك / 107
هنا مكمن ضياع الرسائل ، لا شيء وصله ، حتى يرمم عربته وضياعه ، فيلوذ بالحلم وهو قادر تماماً للاستعانة به ، ولقد تعرّف الراوي على الحلم الذي رحم جغرافية الغريب الذي لا يملك منها شيئاً ، لأنه ترك رماده وأضاعه .